سلسلة "الحقيقة المغيبة" ج3: 13/12/2006 سماء البلديات تمطر بالموت وأرضها تغرق بالدماء- جمال أبو النسب
" شتان ما بين الحلم والكابوس"
حتى بعدما تتحول الأحلام الى كوابيس لم يدر في خلدهم يوماً بأنهم سيغادروك يا بغداد ,, تاركين ورائه ستون عاماً من ذكرياته الحلوة على قلتها ,, ومحملين بدلاً عنها ما يعجز العقل البشري من تحمّله ,, لتنوء الأنفس من احتماله ,, وشواهق الجبال تميد من ثقله ,, والأفئدة تختزن بكل هذه المرارات ,, والأرواح متوشحة بأسود العذابات ,, والأذهان طال تعكزها
على الذاكرة المتعبة ,, والأبدان مثقلات بالجراح والندوب والكدمات ,, وعلى الأكتفاف يحملون كل ما يملك ,, أو ما تبقى مما كان يملكون ( صرة) تنز دم ودموع وفي قعرها مخبيء شهادات للمتوفين من أهلهم ,, وقد دسوا بيانات ولادتهم المتهرء بين الضلوع ,, لأنه الأثبات الوحيد بعدما أصبحوا بدون ملامح ,, أنه هم من كانوا بالأمس فلسطينيون وقد ولدوا فيك يا عراق ...
الحنين لأحضان فلسطين الوطن والشوق لبغداد رغم المحن
ما كان للحلم أن يراودنا يوماً بأن الأشرار من أهلك يا بغداد سيطردونا وهم لم يرتووا بعد من دمائنا ,, نعم حلمنا للحظة باليوم الذي به نفارقك ,, حاملين معنا فسحة الأمل ومن الشوق اليك ما قتل ,, والفرح يعدوا أمامنا ,, وعيوننا ترنوا إليك ياعراقنا ,, والثقة بالله تحدونا ,, والحنين يشدنا بالعودة اليك يا بغداد لكي نقبل ثراك ولنشم رائحة طفولتنا في ( درابينك ) ,, بعدما تلثم شفاهنا ثرى قدسنا ,, ويحتضن الصدر ولو بعد حين ربوعك يا أمنا فلسطين ...
حب العودة لوطننا السليب كان ممزوجاً بعشقك التليد في ضمائرنا ,, لكن شتان بأن تغادر بلداً أحتضنك وأحتضنته ,, وأسكنك وأسكنته حيث سكن الفؤاد ,, لتجد نفسك مرمياً ومعك ستون عاماً مضت على قارعة الطريق ,, ليصبح العدم مسكنك ,, وكأنك تحمل سنين عمرك في سلة مثقوبة ,, خرت من بين ثناياها أيامك وأحلامك ,, دون قصد منك أو دراية,, وتبددت طفولتك واغتيل صباك وخطف شبابك وأهينت شيخوختك ,, لتشرئب أعناق ذكرياتك في سلتك لتصبح أشجار ,, وخلفك دمائك تجري جداول وأنهار ,, وكل ما فيك يا بغداد راح يلوح بكفيه ليصفع وجهنا ,, صارخا دون حياء ,, أخرج يا أيها الفلسطيني مطروداً غير مرغوب بك للبقاء ,, ولا تفكر بالعودة اليها فقد صدر حكم القضاء ,, إن عدت ثانية أو آثرت البقاء ,, سيكون مصيرك الفناء..
الموت زائر وضيف ثقيل ,, في كل صبح ومساء وليل
بين الحين والآخر وفي الصبح والمساء كان الموت يأتي زائرا لنا ,, ليقطف من يشاء من زهورأعمارنا ,, وسرعان ما كان يغادر مهرولاً وفي جعبته إنسانيتنا,, مخلفا ورائه قبل مغادرته أرواحاً أزهقت هنا ,, أو أجساداً ممزقة الأوصال هناك ,, وما كان ينسى أن يأخذ معه حصة من كرامتنا كي يدوسها عند عتبة أبواب رجولتنا ,, والمغيبين منا نعثر عليهم بعد طول بحث في مقصلة الطب العدلي ,, لأن مقاصله منصوبة على أبوابه كي تقطع ما تبقى من رقابنا ,, وفي أحسن الأحوال نكلف من يسأل عنهم ,, نعم موجودين في الثلاجات المطفية ,, ممدودين ومعلق على إبهام قدم كل واحد منهم ,, هذا إن بقي له أبهام أو قدم ,, ورقة خط عليها ( عبارة مجهول الاسم والعنوان ) ولصعوبة التعرف عليه ولم يراجع أي من ذويه لاستلامه وقد مضى عليه أكثر من أسبوعين في فرن الطب العدلي ,, وربما قبلها بشهر كان ملقى في الطرقات لتنهش منه الكلاب السائبة حتى استحال جسده الطاهر الى مومياء ,, ولم يتبقى منه شيئاً يؤكل ,, وخشية أن يكون مصدراً للأمراض والأوبئة وليس رحمة به سيتم دفنه في مقبرة الغرباء بكربلاء ,, هذا إن صح قولهم لأننا لم نر المقبرة حتى الآن ,, ومن يجرؤ على زيارتها إن كان في عتمة الليل أو في وضح النهار؟!
يوم ليس كباقي الأيام في البلديات
لم يعد يجدي نفعاً عندهم فعلهم هذا بنا ,, ماذا يعني خطف واحد أو أثنين ,, ماذا يعني قتل ثلاثة أو اربعة ,, ماذا يعني طلب فدية مليون أو ميلونين ,, ماذا يعني ترويع في الليل ورعب في النهار ,, عقولهم لم تعد تعي لمَ هذا الشعب متماسك ومتمسك ببعض مما تبقى من شجرة زيتون كان جدهم قد زرعها في باحة الدار ,, شتت إصرارنا على الحياة مخططهم بتشريدنا والعقل منهم حار ,, لذا فتشوا عن طريقة ترغم الجميع على الفرار ,, فأرسلوا لنا رسلهم محملين بكل أسلحة الدمار ,, يوم 2006/12/13 جعلوه يوماً ليس كباقي الأيام ,, جائنا الموت يعدوا بأربعين ساق مسرعا وأذرعه السبعة تستبق يد المنون ,, اليوم يومكم يا فلسطينيو العراق ,, لم يعد لكم حاجة لزيارة مواتكم في المقابر ,, جئنا لنوفر عليك كل هذا العناء ونجعل بيوتكم مقابر ,, ارسلوا لنا الصاروخ الأول والثاني حتى السابع لتصبح الجثث والأشلاء في كل مكان ,, كان الموت يمشي مختالاً في كل بيت ,,
سبعة صواريخ بسبعة شهداء ,, والأربعانية أربعين جريح
لن ولم أنسى ذلك اليوم ما قد حييت ,, ويا ليتني في ذلك اليوم قضيت ,, بين العصر والمغرب استباحوا كل شيء ,, ثكلتك أمك يا ( جمال ) إن نسيت ,, سبعة بسبعة ,, سبعة صواريخ مقابل سبعة شهداء ,, وأربعينيتهم قدمت لنا قبل قدومها ,, فالجرحى أصبح عددهم أربعين جريح ,, الكل يكبر والكل يصيح ,, الله أكبر ,, ألله أكبر ,, ألله أكبر .. خلال دقائق راح ينبعث في الجو عبير عبق دمائنا ,, خيم الصمت الرهيب ,, لم نعد نشم دخان ولا نرى غبار ,, العقل منا حار ,, والكون كله لنا استدار ,, ليجثم فوق صدورنا الدمار ,, تمخض العار ليلد ألف ألف عار ,, أن للموت رائحة حين يذبح الكبار ,, وللموت رهبة حين ينحر الصغار ,, ليس في عتمة الليل ,, بل في وضح النهار ,, وتوشح الكون كله بالعار ,, عندها قلت في ذاتي يا عرب ,, يا مسلمين ,, يا حماة العرض والدين ,, نحن أخوانكم شعب فلسطين ,, صارخاً أين أنتم يا أحفاد صلاح الدين ,,أغيثونا ,, أجيرونا ,, ليرتد الصدى الى ذاتي مردداً لم يعد لك من مغيث ولا مجير سوى الله ,, ففروا اليه ,, قلنا جميعاً وبصوت واحد الى الله المستجار ,, الى الله المستجار ...
شجرة الزيتون ,, مزارنا ورمز عزتنا ,, وشاهد تضحياتنا
بين عويل النساء ونشيج الآباء ,, كان هناك للأطفال بكاء ,, ونحيب أمً وشهقة زوجة ودموع هاطلة حرقى من السماء,, بين الحيرة والأحساس والعقل كان يكبر فينا السؤال ,, بين الدم والدمع أستطالت قامات الرجال ,, والكل قد شمر عن ساعديه حتى الصباح ,, باحثاً عن دواء لنفسه الجريحة قبل أن يضمد جراح أخوته وبنيه ,, الكل راح يفتش وينقب عن أجزاء قد فقدت من تلك الأجساد الممزقة ,, البحث مستمر ,, والأمل يكاد ينقطع ,, الى أن طل طفل صغير وهو يمسك بقطعة لحم ما زالت ندية بين يديه ,,ليقول أنها بعض من لحم أخي فأنا عرفتها من رائحتها فله ولي رائحة واحدة فقد اغتسلنا قبل ذهابنا معاً الى المسجد وتعطرنا بالمسك والعنبر ,, وكان دعاء أمنا خلفنا يلهث ,, بني سبحوا في طريقكم بكلمة الله أكبر ,, مالكم متسمرون أذهبوا هناك ستعثرون عما تبحثون ,, فلحوم شهدانا قد التصقت على أغصان أوراق شجرة الزيتون ,, شجرة زرعها جدنا حين قدم مرغماً اليك يا عراق ,,
خارطة وطن ,, وعلامة استفهام ؟
جئنا للنزع تلك المزغ فأبت ,, لأن كل منها قد غفى في حضن ورقة من تلك الشجرة أو نام في قلب حبة زيتون ,, لذا أصبحت هذه الشجرة مزارنا ورمز عزتنا وشاهداً على تضحياتنا ,, لم نقدر أن ننزع عن تلك الشجرة أي شيء تبقى من لحوم أبنائنا لأن يوسف أحمد سعيد قد امتزج لحمه مع لحم ابن عمه أحمد فيصل سعيد ,, ليشكلا مع جسد زميلهم خالد محمود الفحماوي وهو معانقاً لحم زهير مسعد الشعبان خارطة وطن ,, وليرسموا علامة نصر ,, فالرحمن دعاهم عنده من بعد صلاة العصر ,, وجاء شيء من لحمك يا محمد ابن كايد يقول ضموني معكم أخوتي وأفسحوا لي بين أشلائكم مكان ,, فأنا ما زلت صغيراً ولا أريد أن يطويني النسيان ,, و الجميع فاضت أرواحهم وهم يسألون جلاديهم لمَ فعلتم بنا كل هذا؟! وسيبقى سؤالهم تردده ملائكة السماء على مر الأزمان ,, وللآن لم يعرف المارين لمَ صاروا يشكلون في وسط شجرة الزيتون خارطة وطن علامة استفهام؟ فمن لم يفهم لم يعد لديه عذراً بعد الآن ,, وفي أعلى الشجرة غفت ظفيرة عائشة أحمد إسحق بعدما عانقت طوق شعر نور بنة مناع ليشكلن الطيف الشمسي بألوانه السبعة فهم سبعة ,, الى الآن من يصدق أن هذا فعل الإنسان بأخيه الإنسان؟!! لذا سيبقى فعلكم هذا وصمة عار على جباهكم ,, فهيهات هيهات أن ننساهم ,, وهيهات وهيهات جراحنا أن تنسانا,, أو تمل أطيافنا من ملاحقتكم في أي وقت وفي كل مكان ... قلناها لكم منذ البداية وسنبقى نقولها ,, تلك أقوالكم عنا ,, وهذه أفعالكم بنا ,, أجبرتمونا أن نسبح بدمائنا ,, لكي نقرأ لكم صفحة واحدة ,, فكفوا عنا ولا تجعلونا نقلب كل الصفحات ؟؟
وللحديث بقية ,,, إن كان هنالك في العمر بقية إن شاء الله ...
بقلم / جمال أبو النسب
الولايات المتحدة الأمريكية - كاليفورنيا
2011/01/19
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"