في غزّة تحديداً، وفي "سبتمبر/أيلول" 1948
أُنشِئت "حكومة عموم فلسطين" بموافقة من جامعة الدول العربيّة لتنظيم
الإدارة المصريّة لأمور القطاع. أدارت هذه الحكومة شؤون غزة من الخارج، لكنّها لم
تكن ذات دورٍ تنفيذيّ فعليّ. وقد كان من بين أنشطتها القليلة توزيع جوازات سفر على
سكان القطاع تُسمّى "جوازات عموم فلسطين". لكن، على الرغم من أنّ جوازات
"عموم فلسطين" أُصدِرت بموافقة جامعة الدول العربيّة، فإنّها حظيت
باعتراف ستِ دولٍ عربيّة فقط، ولم يُسمَح للاجئ الفلسطينيّ الحامل لها التنقلُ
بحريّة خارج قطاع غزّة.
استمرت
حكومة عموم فلسطين بإصدار جوازات سفر لسكان القطاع حتى عام 1960، حين أصدر جمال
عبدالناصر مرسوماً بحلّها، بدعوى فشلها في إحراز أيّ تقدّم في دعم القضية
الفلسطينيّة. انتقل قطاع غزّة للإدارة المصريَّة المباشرة، واستُبدِلَت جوازات
"عموم فلسطين" بوثائق مصريَّة للاجئين الفلسطينيّين.
الوثيقة
المصريّة .. أنواع وحكايات
استُخدمت
هذه الوثائق المصريّة لتكون بمثابة إثبات شخصيّة في حالة انتقال حاملها من قطاع
غزَّة للإقامة في مصر لأغراض العمل أو الدراسة، أو في حالة عبوره من مصر لأغراض
السّفر إلى دول أخرى. وعليه، فهناك نوعان من هذه الوثيقة؛ الأول يحمل في صفحاته
أحد الحروف (أ، ب، د، هـ)، وهو يدّل على أنّ حامله من اللاجئين الفلسطينيين
المقيمين في مصر، والذين في الغالب يُسمح لهم تجديد إقاماتهم في مصر والبقاء فيها،
والنوع الثاني من الوثائق يخلو من وجود أيّ حرفٍ عربيّ في صفحاتها، وهذه يحملها
أولئك الذين حصلوا على الوثائق فقط لأغراض العبور من مصر باتجاه دولٍ أخرى. هذا
النوع الثاني، وهم الغالبية اليوم، لا يُسمح لهم بدخول مصر إلا بتأشيرة زيارة
ويمنع عليهم الإقامة فيها بشكل طبيعيّ.
في
الفترة الزمنيّة بين (1960-1966)، سافر العديد من اللاجئين الفلسطينيّين من قطاع
غزّة إلى الخليج العربيّ، وتحديداً الكويت والسعودية، بحثاً عن فرص عمل تكفل لهم
ولعائلاتهم لقمة عيش كريمة بعيداً عن شبح الفقر والبطالة. وتوجّب لأجل ذلك عبورُهم
من الأراضي المصريّة، وبناءً عليه، أُعطوا "وثيقة سفر مصريّة للاجئين
الفلسطينيّين"، وهي النوع الثاني الذي لا يُخوّل لحاملها العودةَ إلى مصر
إلّا بتأشيرة دخول. كما لا تعطي الوثيقة الجديدة حقّ الإقامة في مصر أو العمل
فيها، ما اضطر حامليها للبقاء لسنواتٍ طويلة في دول الخليج، ونظّمت وجودَهم فيها
قوانين العمل والإقامة. وقد مُنع غالبية هؤلاء من العودة إلى قطاع غزة وقت اجتياح
القوات "الإسرائيلية" للقطاع، واستمرَّت "إسرائيل" في رفض
دخولهم بعدَ ذلك.
بعد
النكسة
جاءت
النكسة لتزيدَ وضعَ اللاجئين في غزَّة تعقيداً، إذ أجرى الاحتلال
"الإسرائيليّ" إحصاءً لسكان الضّفة والقطاع في أعقاب الحرب، ولم يسجّل
فيه من كانوا خارج تلك المناطق قبيل احتلال عام 1967. منع ذلك أعداداً كبيرةً من
الفلسطينيّين من العودة لأراضيهم آنذاك، ومن ضمنهم حملة الوثائق المصريّة الذين
كانوا يعمل غالبهم في ذلك الوقت في دول الخليج العربيّ، وتحديداً الكويت
والسعوديَّة. كما لم يُسجّل أولئك الذين كانوا يقيمون في الأراضي المصريّة عند
احتلال القطاع.
بعد
هزيمة عام 1967، ووفاة جمال عبدالناصر عام 1970، تولى أنور السادات الحكم في مصر،
وبدأ بتحويل المسار المصريّ من "القوميّة الناصريّة" إلى التقارب مع
الولايات المتحدة و"سنّ القوانين" التي تُمهد لذلك. في ظلّ تنامي
الدعوات لاستعادة سيناء، خصوصاً بعد حرب عام 1973، والبدء بمفاوضات التطبيع بين
الجانبين المصريّ و"الإسرائيليّ" تصاعدت الدعوات الرافضة للمفاوضات، ما
زاد الاحتقان بين الدول العربيَّة ومصر، ومع منظمة التحرير الفلسطينيَّة على وجه
الخصوص.
وقد
وصل الغليان أوجَه في أعقاب اغتيال وزير الثقافة المصريّ يوسف السباعي في قبرص عام
1978، على يد ما أسمته الصحف المصرية آنذاك بـ"التطرف الفلسطيني"، فألغت
الحكومة المصريّة كلَّ الحقوق الممنوحة لحملة الوثائق المصريَّة من اللاجئين
الفلسطينيّين على أراضيها، من حقوق التعليم والعلاج المجانيّ والإقامة التي تمتَّعوا
بها سابقاً تحتَ حُكم عبدالناصر.
من
لجوءٍ إلى لجوء ..
إبان
حرب الخليج الثانية عام 1991، قامت الكويت بطرد جماعيّ للجالية الفلسطينيّة التي
تُقدّر أعدادها آنذاك بحوالي نصف مليون فلسطينيّ، من ضمنهم أكثر من 240 ألف
فلسطينيّ يحملون الجنسيّة الأردنيّة، وجلّهم من الضفَّة الغربيَّة، عادوا إلى
الأردن. كما عادَ الفلسطينيّون الحاملون لأرقام هوية من الحاكم العسكري
"الإسرائيلي" إلى الضفة والقطاع.
فيما
تبقى حوالي 20 ألف فلسطينيّ ممن يحملون الوثيقة المصريَّة لم يستقبلهم أحد، ونفت
السلطات الكويتية معظمهم إلى صحراء العراق على الرغم من دعوات الأمم المتحدة
لحمايتهم. إضافة إلى أكثر من خمسة آلاف شخص من حملة الوثائق المصريّة كانوا آنذاك
في زيارات عائلية في مصر، فرحّلتهم الأخيرة إلى الأردن، ثمّ حمَلتهم الأردن بدورها
إلى الحدود العراقيَّة رفضاً منها لاستقبالهم على أراضيها.
غالبيتهم
في السعودية
يعيش
معظم حملة الوثائق المصريّة اليوم في السعوديّة، ويقدّر عددهم بما يزيد عن 120
ألفاً، إذْ يندرجون ضمن الفئات الممنوعة من الإبعاد عن المملكة، وفق تعليمات وزارة
الداخليّة السعوديَّة، هم وأصحاب الجنسيَّة البورميَّة والتركستانيَّة
والبلوشيَّة، إلا أنهم لا يحصلون على حقوق اجتماعيّة كالصحة والتعليم، كما أنّهم
غير مستثنين من معظم شروط أنظمة الإقامة والعمل، أسوةً ببقية الجنسيات المقيمة في
الأراضي السعوديَّة. إضافة إلى أنّهم غير مسجّلين في وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين "الأونروا" على غرار حملة الوثائق السوريّة واللبنانيّة
لرفض مصر منح تراخيص لها على الأراضي المصريَّة.
بناء
على ذلك، يتكبّد حملة الوثيقة المصريّة في السعوديّة رسوماً مكلفة لمجاراة أنظمة
الإقامة والعمل، ولا يستطيعون مغادرة البلاد بسهولة، كما يفعل ملايين المقيمين في
السعودية. وتغيبُ أيّ بادرة أمل في عودتهم إلى فلسطين، أو في أيّ تعاون من السفارة
الفلسطينيَّة في المملكة.
كما
أنّهم يُضطرون لتجديد وثائق لجوئهم لدى السفارة المصريَّة كلّ خمسة أعوام، ما يعدّ
شرطاً لتجديد إقاماتهم في السعوديَّة، وقد طالبوا السفارةَ الفلسطينيَّة بمناشدة
مصر لتخفيف شروط التجديد، أو إنهاء وجودها، كونها لا تنفع في السفر. لتجديد
الإقامة، عليهم تجديد الوثيقة، ولتجديد الوثيقة، يدفعون مبلغاً إضافيّاً للسفارة
الفلسطينيَّة مقابل خطابٍ رسميّ يثبت عدم امتلاكهم لهويَّة وطنيَّة. يقول أحدُ
حملةِ الوثيقة: "تدفع خمسين ريال مقابل خطاب من سفارة وطنك، لإثبات إنك مش
مواطن" .
كما
أنّ حملات توطين الوظائف (السعودة) المستمرة في المملكة دفعت الكثير منهم لحافة
الفقر، وغياب العديد من أطفالهم عن مقاعد الدراسة لعجزهم عن تسديد رسوم إقاماتهم،
وعدم وجود بلاد أخرى بإمكانهم إرسال أطفالهم إليها. يُضاف على ذلك غياب أي أمل في
ضمان حقوقهم كلاجئين كما تكفلها المواثيق الدوليَّة .
وجاءت
جائحة "كورونا" لتُعمّقَ من اغتراب اللاجئ الفلسطينيّ في وقتٍ تتدافع
فيه الدول لاستقبال شعوبها، وفي وقتٍ تزداد فيه الهجمةُ على القضية الفلسطينيّة،
ومحاولات تصفية قضية اللاجئين. فيما يستمر حملةُ الوثائق المصرية بالتساؤل عن مصائرهم
المُعلّقة وحقوقهم المنقوصة في ظلّ القلق من تبعات الفيروس المميت .
المصدر : موقع متراس
22/2/1442
9/10/2020