"اللاجئون اليهود العرب" : مزحة أم خطر ؟ - د. أحمد يوسف أحمد

بواسطة قراءة 4365
"اللاجئون اليهود العرب" : مزحة أم خطر ؟ - د. أحمد يوسف أحمد
"اللاجئون اليهود العرب" : مزحة أم خطر ؟ - د. أحمد يوسف أحمد

كنت قد تخيلت في البداية أن الأمر ليس سوى نوع من السخف المطلق ناسياً أن "إسرائيل" تأخذ كل أمورها -حتى ولو كانت قضية بلا أساس كهذه القضية- بمنتهى الجدية، ولكنني أفقت من هذا التخيل على نبأ عقد اجتماع في الأمم المتحدة في الواحد والعشرين من الشهر الماضي لهذا الغرض، ومن الطبيعي أن هذا الاجتماع عُقد برضا الأمم المتحدة وموافقتها وفي مقرها، بل إن الدول العربية عندما حاولت الضغط لمنعه ورُفض طلبها تقدمت بطلب إلى الأمانة العامة لوضع طاولة على مدخل قاعة الاجتماع لتوزيع بيانات للصحافة، ورُفض طلبها هذا أيضاً، وعُقد الاجتماع وشارك فيه مسؤولون كبار من المنظمة الدولية وعدد من سفراء الدول الغربية ورجال القانون .

وجوهر هذه القضية التي تثيرها "إسرائيل" إذن أن اليهود العرب الذين هاجروا إليها "لاجئون"، وهو طرح لا معقول، فقد بذلت "إسرائيل" منذ نشأتها جهوداً خارقة من أجل إغراء يهود الدول العربية بالهجرة إليها، أو تهديدهم بتدبير خفي لعمليات عنف موجهة ضدهم، أو بمحاولة الاتفاق مع حكومات الدول العربية المعنية بوسيلة أو بأخرى على تهجيرهم، ومن قوام هؤلاء المهاجرين يتكون "شعب إسرائيل". ويفترض وفقاً للفكرة الصهيونية أن يكون هؤلاء قبل هجرتهم إلى "إسرائيل" مشتتين في بقاع الأرض، وأن هجرتهم إلى "إسرائيل" هي ممارسة لـ"حق العودة" وفقاً للوعد الإلهي المزعوم، فهل يكون المنطق القائل إنهم "لاجئون" في "إسرائيل" يتفق وهذا؟ ثم إن الحل العادل لقضية اللاجئين هو أن يعودوا إلى ديارهم، فهل تقبل "إسرائيل" أن تتخلص من نصف شعبها مثلاً إن كان حقاً من اللاجئين؟ وهل تفعل ذلك تحديداً في وقت تطاردها فيه القنبلة السكانية الفلسطينية وتؤرق مضجعها ؟ .

غير أن التطور الرائع في هذه القضية السخيفة هو أن بعض هؤلاء اليهود -وتحديداً يهود العراق المعروفون باعتزازهم بالانتماء لوطنهم الأصلي وحياتهم فيه- قد فندوا المزاعم "الإسرائيلية"، فشكلوا لجنة أطلقوا عليها "لجنة يهود بغداد"، وقال رئيسها إن الحكومة "الإسرائيلية" ووزراء من اليمين يحاولون "استغلال تاريخنا بطريقة مهينة في ألاعيبهم السياسية"، وأضاف: "وهذه الخطوات خطيرة جداً، ونعتبرها القشة التي قصمت ظهر البعير، فهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها محو تاريخنا واستغلاله وتشويهه". وما أثار غضب واستفزاز مطلقي هذه الحملة هو ما أعلنه رئيس اللجنة بأنها جاءت "لتكون الخطوة الأولى في استئناف المطالبة بتاريخنا وثقافتنا وأملاكنا أيضاً، ولن نترك للآخرين ومن ضمنهم الحركة الصهيونية ودولة "إسرائيل" الاستحواذ عليها لصالحهم"، وفي توجههم للحكومة قال أعضاء اللجنة: "نشكر الحكومة من صميم قلوبنا على الخطوة السريعة التي استغرقت 62 عاماً لكي تعترف بنا كلاجئين"، وواصلوا القول بسخرية: "نقترح الاعتراف بالأشكيناز أيضاً "كلاجئين" لكي لا يخطر ببالهم أن يرسلوا إلينا ضباط وحدة «عوز» الأفاضل" (عوز هي الوحدة التي تلاحق اللاجئين الأفارقة في "إسرائيل") .

وطالبت اللجنة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية تفحص صحة ما ذكر عن كون رئيس الحكومة "الإسرائيلية" آنذاك (ديفيد بن جوريون) أجرى مفاوضات مع رئيس حكومة العراق نوري السعيد عام 1950 أقر فيها بأنه يمكنه الاحتفاظ بأملاك يهود العراق إذا أرسلهم إلى "إسرائيل"، كما طالبت اللجنة بالكشف عن الجهة التي أرسلت الأوامر بإلقاء القنابل على كنيس يهودي في العراق عام 1950، وما إذا كانت جهة رسمية قد فعلت ذلك بهدف تخويف اليهود العراقيين حتى يهاجروا. وهددت اللجنة برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية إذا تبين أن بن جوريون تفاوض على أملاك يهود العراق، وأن جهة رسمية "إسرائيلية" هي من ألقت القنابل على المعبد اليهودي. وتضمن منطق اللجنة أن "حكومة "إسرائيل" غبية في طرحها هذه الحملة لتحصيل حقوق اللاجئين اليهود من الدول العربية، فمن يبحث عن الحل المنصف للاجئين يجد أنه يتمثل في إعادتهم إلى أوطانهم، فيعود اللاجئون اليهود إلى الدول العربية، ويعود الفلسطينيون إلى فلسطين. فهل هذا ما تريده "إسرائيل"؟ ألم نتعلم في مدارسنا أننا كيهود عدنا إلى وطننا الأول القديم، أرض الميعاد، فكيف أصبحنا لاجئين في "إسرائيل"؟" .

من الواضح بطبيعة الحال أن "إسرائيل" تقوم بحملتها هذه كسلاح يمكنها -إن نجحت- استخدامه بفعالية في قضية اللاجئين الفلسطينيين، فهي تتحدث عنهم مستخدمة أوصافاً لا تقل سخفاً عن فكرة الحملة ذاتها، وتصفهم حيناً بـ"العرب الذين هربوا" وحيناً آخر بالذين "عادوا إلى فلسطين الانتداب" أو "إسرائيل"، وكأنهم هربوا أو غادروا ديارهم بإرادتهم، وكأن مذابح "إسرائيل" لترويعهم لم تقع، وملف "اللاجئين اليهود العرب" سيكون ورقة تفاوضية في مواجهة ملف القضية الفلسطينية .

ينطوي الأمر إذن على مخاطر حقيقية يتمثل أهمها في تعويق غير مسبوق لمسار أي مفاوضات تجرى في المستقبل بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين، ولذلك فإن وصفه بالسخف لا يعني أن ننأى عن مواجهته تحسباً لكل الاحتمالات. وثمة أسئلة مشروعة وبديهية في هذا الصدد. أين كان التحرك الفلسطيني والعربي عندما كانت المسألة في بدايتها منذ سنوات قليلة؟ ولماذا لم يتم حشد دبلوماسي دولي كافٍ خلف مطلب إلغاء عقد ذلك الاجتماع؟ وأين التعريف الواسع بمداولات هذا الاجتماع وما انتهى إليه حتى يصبح ذلك كله تحت سمع وبصر كل مواطن فلسطيني وعربي؟ من الواضح أن "إسرائيل" تتحرك في ظل هدوء تام للجبهة الدبلوماسية العربية، ولذلك تقدم على مبادرات من نوع افتعال قضية حول "اليهود اللاجئين العرب"، ولذلك فإن تفعيل هذه الجبهة مطلوب حتى تكون قضية اللاجئين الفلسطينيين حاضرة دوماً، ومطلوب كذلك ملف تعده الدول العربية المعنية تحت إشراف الجامعة العربية يتضمن بالوثائق حق هذه الدول في التعويض عما لحق بها من أضرار مثل استنزاف بترول سيناء وخليج السويس في مصر منذ 1967 إلى 1982 ومثل تدمير البنية التحتية غير مرة في لبنان، وهكذا. ولماذا لا تعلن الدول العربية في خطوة تكتيكية بارعة أنها تقبل ببساطة عودة يهودها إليها، "فإسرائيل" لا يمكنها أن تقبل هذا الطرح وإلا تكون قد خسرت وجودها نفسه .

المهم أن بديل السكوت غير مطروح على الإطلاق، ففضلاً عن كونه علامة على الرضا كما يقول المثل الشائع فإنه قد يحول الصفاقة "الإسرائيلية" إلى كابوس عربي حقيقي، وبدلاً من أن نهاجم "إسرائيل" دبلوماسياً من أجل حق عودة الشعب الفلسطيني نجد أنفسنا مضطرين إلى التخندق لصد المطالبات "الإسرائيلية" اللامعقولة .

 

د. أحمد يوسف أحمد

المصدر : صحيفة الاتحاد الإماراتية

2/10/2012