بعد أن أقام الله سبحانه وتعالى الحجج الباهرات والبراهين الواضحات والأدلة البينات، على الكافرين وتوعدهم بالعذاب الأدنى في الدنيا قبل العذاب الأكبر عند جمعهم وحشرهم ( لعلهم يرجعون )، ناسب أن يذكر الله سبحانه إحدى أبرز مقولات الكفار لأنبيائهم، فقال سبحانه( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )[1].
هذه مقولة فيها بشاعة وقبح وعناد واستكبار، لذلك كررها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن في سبع مواضع لبيان جرمهم وعظيم كفرهم، في ست مواضع لفظ مطابق وهو قوله سبحانه( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )، وفقط في الآية التي معنا ( متى هذا الفتح ).
لأن السورة مادتها اليقين، والفتح هو وعد وزيادة، أي زيادة معنى ويقين على باقي الآيات فتأمل! فيطلب الكفار ما في الوعد من نتيجة، وهو الفتح والقضاء والفصل.
إذ بعد أن بين الله للكفار الأدلة الكونية، من خلق السماوات والأرض وإحياء الأرض بعد موتها، وأحوال الأمم السابقة التي أهلكها، مع ذلك أصروا على الكفر والجحود والتكذيب والاستكبار لهذه الأدلة.
( ويقولون ) في صيغة الجمع في إشارة إلى أن أهل الباطل من الكفار اجتمعوا واتحدوا جميعا على هذه المقولة!
ومع أن مقولة الكفار تلك وقعت وحصلت سابقا، فلماذا وردت بصيغة المضارع ( يقولون )؟! في إشارة إلى أنهم استمروا عليها وتوارثوها جيلا عن جيل ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ )[2].
عندما قال ربنا سبحانه في آية سابقة متوعدا المشركين ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )، هنا قالوا: ( متى هذا ) يريدون موعدا زمانيا لتحقيق ذلك وحصوله! وهذا فيه إشارة إلى أن أهل الباطل لا يردون الحجة بالحجة ولا البرهان بالبرهان ولا الدليل بالدليل!
الله سبحانه وتعالى بين لهم بالحجج والبراهين والأدلة الكونية لعظيم قدرته على إحياء الموتى من جديد، وهذا يقتضي عقلا أن يمتثلوا لأوامر النبي فيطيعوه ويتبعوه، وبدلا من التأمل والتفكر وإعمال النظر في تلك الحجج، تركوها وانتقلوا لأمر لا يقدم ولا يؤخر .. لا يضر ولا ينفع، فلو كان يوم الفصل الآن أو بعد آلاف السنين فما الذي سيتغير بالنسبة لتلك الحجج؟!! لا شيء.
( إن كنتم صادقين ) وكأنهم هم الأتقياء الأنقياء! والمؤمنون بخلاف ذلك حاشاهم! كما قال سلفهم( أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) موازين مقلوبة عند هؤلاء.
تجد كثيرا ممن ليس لهم علم ولا أصل ولا تاريخ ولا تجارب بل حتى ولا شهادة، يتحدثون في أمور الأمة المهمة وينظر لها، وقد يترتب على تلك القضايا مصير شعوب بأكملها، وهذا زمان العولمة والانفتاح الإعلامي فتجدون ذلك والله المستعان.
وهؤلاء أنفسهم ينتقصون أهل الحق بأنهم على ضلال وهم الصادقون، مع أن الأمر بالعكس!
ينبغي على المسلم أن لا ينظر إلى القائل، أيا كانت قبيلته أو جنسيته أو لونه وعرقه أو اسمه ونسبه، بل ينظر لما معه من الحق، لذلك قيل: اعرف الحق تعرف أهله! استدل ثم اعتقد!
ولا ينبغي أن تأخذ موقفا من إنسان أو جماعة أو فئة أو مؤسسة أو هيئة، حتى تسمع ما عندهم من الحق والباطل والحجج، ثم تأخذ الحق منهم حتى لو كان خصما لك، كما أخذ عليه الصلاة والسلام الحق من الشيطان، صدقك وهو كذوب.
أهل الباطل دائما وأبدا عندما تأتي له بالدليل ينصرف لأشياء خارجة عن موضوع النقاش.
وحصلت مناظرة بين ملحد ومسلم، فقال الملحد: أنا لا أؤمن إلا بما أرى؟!
فقال المسلم: هل لديك عقل؟! فقال: طبعا.
فقال المسلم: كيف تؤمن بالعقل ولم تره؟!!
فنحتاج للأدلة العقلية لنستدل على أمثال هؤلاء، وعندما جاء ملحد لأبي حنيفة رحمه الله وقال له: أنا لا أؤمن بأن هذا الكون له خالق ومدبر ومسير!!
قال له أبو حنيفة: هل رأيت السفينة المحملة بالبضائع تأتي إلى هذا الميناء ثم تحمل حمولتها ثم تنتقل إلى غيره وتفرغ الشحنات وهكذا، فهل تتوقع أن ما يحصل من تلقاء نفسه؟!!
قال: لابد من قبطان ومن يقودها!!
فقال أبو حنيفة: من باب أولى هذا الكون يدبرها خالق.
هنا إشارة إلى أن الله ناصر عباده المؤمنين، ولكن بشرط تحقيق الإيمان المطلوب منهم، من خلال أسباب النصر التي بينها الله سبحانه في كتابه وكلها معنوية! ولو تخلف النصر لعلمنا يقينا أن خللا في تلك الأسباب قد حصل، كما هو في أحد.
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.
25/9/2015