صحيفة فلسطين: قبرص.. يا جحيم "البؤساء" على الأرض!

بواسطة قراءة 6670
صحيفة فلسطين: قبرص.. يا جحيم "البؤساء" على الأرض!
صحيفة فلسطين: قبرص.. يا جحيم "البؤساء" على الأرض!

فيها أكثر من ألفي لاجئ فلسطيني يعانون الأمريّن

قبرص.. يا جحيم "البؤساء" على الأرض!

صحيفة فلسطين: الاثنين 28 مارس 2011

غزة- سيد إسماعيل

كنت في ذلك اليوم بمدرستي الإعدادية في مدينة "لارناكا القبرصية"، جالسةً بباحتها وقد تجمع بها عشرات الطلاب والطالبات، عندما انقضّت علي فجأة ثلاث تلميذاتٍ قبرصيات، وبعد معركةٍ قصيرة نجحن في نزع حجابي من فوق رأسي، لينسدل شعري أمام الجميع لأول مرةٍ منذ ارتدائي له!.

يا إلهي! كانت لحظات مريعة! بعدها انطلقت أجري إلى قاعة الرياضة وسط ضحكات "غريماتي الثلاث"، بينما تتابعَ جريان دموعي على خدي.. لأول مرة يرى الجميع دموعي، ومن يومها قررتُ ترك هذه المدرسة، والانتقال إلى مدرسةٍ أخرى".

صمتت بعدها روان (16 عاماً)، ابنة الحاج محمود الحلو، وإحدى اللواتي قاسين من "جحيم اللجوء في قبرص"، بعد أن روَت جزءاً صغيراً من معاناتها اليومية كفردٍ من الجالية الفلسطينية التي تعيش "جحيم اللجوءِ القبرصي"، وهي غائبةٌ تماماً عن عيون الإعلام الفلسطيني، بل والعربي عامةً.

من "الرمضاء" إلى "النار"!

في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2007م، بدأت مغامرة أسرةٍ بأكملها بمجرد أن تحركت الباخرة التي أقلّت السُياح يومها من ميناء اللاذقية السوري إلى الشطر التركي من جزيرة قبرص. تقول أسيل الحلو (25عاما): " كان أبي حينها لا يزال في سورية لترتيب بعض الأمور، ثم لحق بنا إلى قبرص فيما بعد. وصلنا إلى قبرص التركية خلال ثلاث ساعات ونصف تقريباً، حيث إننا لم نمكث سوى ليلة واحدة فقط، إذ وجدنا أن البحث عن "مهّرب للبشر" ليس صعبا مثلما كنا نظن، وعقدنا اتفاقنا معه..".

كان المهربون يملئون مختلف مدن الشطر التركي من قبرص لـ"خدمة الباحثين عن فرصة لتهريبهم إلى النصف الآخر من الجزيرة" لأنه أحد الدول الأعضاء بالاتحاد الأوربي.

تكمل الحكاية هذه المرة والدة أسيل: " تلّقى الرجل مبلغاً باهظاً مقابل تهريبنا للشطر اليوناني، حيث أخذ منا 500 دولار عن كل فرد منا، قبل أن يأخذنا في سيارة إلى منطقة بعيدة، في رحلة استغرقت ساعتين تقريباً، قبل أن نصل إلى منطقة زراعية. طلب منا بعدها الترجّل، وأكمل الطريق معنا مهرّبٌ آخر.. ".


كان الجو بارداً جداً، ولم تكن الأسرة قد ارتاحت من سفرها الشاقّ بشكلٍ كاف، والأسوأ من هذا هو التوتر والقلق النفسي الذي صاحب رحلتها نحو ما ظنّته "الفردوس المنتظر".

تتابع الوالدة بالقول:"كنا نجري دون توقف تقريباً سوى لحظات محدودة نلتقط فيها أنفاسنا المتلاحقة لنواصل الجري من جديد، فيما كان يتقدمنا ذلك المهرب الشاب الذي كان يعرف طريقه جيداً، كدت أسقط إعياء مرات ومرات خلال الطريق بحكم تقدمي في السن، وما يتبع ذلك من أمراضٍ مختلفة أبسطها ارتفاع ضغط الدم".

قبرص لا تعرف "الابتسام"!

لقد اقتربنا جداً من نهاية مشوارنا، ولكن يجب عليكم أن تسيروا الآن مقتربين إلى الأرض بأقصى قدر ممكن، كما يتوجب عليكم الانبطاح في حال أن سلطت أضواء برج المراقبة الحدودية على المنطقة التي ستكونون بها. ساعتها انبطِحوا وابقوا ساكنين حتى تبتعد عنكم..لا تلفتوا الانتباه إليكم!.

تلقت الأسرة تعليمات المهرب الأخيرة بصمتٍ يلفّه توترٌ كاسح. لم تبق سوى دقائق وتنتهي هذه المعاناة وتفتح "جنة قبرص" أذرعها لهم!.

تكمل الأم مرةً أخرى:"كنا نجري فوق "تلةٍ صغيرة" باتجاه الشطر اليوناني عندما وجدنا ضوء "الكشاف" الساطع يقترب من مكان تواجدنا، انبطحتُ على الأرض، لأجدَ نفسي على وشك التدحرج من فوق التلة لولا أن أمسكت بي ابنتي أسيل بكلتا يديها بقوة. نهضنا بعد ابتعاد الأضواء من جديد لنكمل ركضنا، ولنجد أنفسنا في نصف قبرص اليوناني أخيراً..".

باتت الأسرة ليلتها الثانية في أحد الفنادق، قبل أن تتوجه في اليوم التالي لتسليم نفسها للسلطات المحلية التي أخذت منها جوازات سفرها، وحققّت مع أفرادها بالتفصيل، قبل أن تأخذ بصماتهم جميعاً وتحفظها في سجلاتها، لتقدم طلباً للجوء الإنساني إلى قبرص.

هذه المرة..يكمل علي الحلو (19عاما) القصة:"سبقنا في الهجرة إلى قبرص أحد أخوالي، وقد مكثنا عنده ثلاثة أسابيع ريثما وجدنا منزلاً يؤوينا، ومن ثم لحق بنا أبي بعدها بفترة قصيرة وبنفس الطريقة.. ".

كانت "مدينة لارنكا" القبرصية المدينة التي استقرّت بها الأسرة، حيث إن الجالية الفلسطينية بكاملها تقريباً، والتي يبلغ تعدادها نحو ألفي شخص بقبرص يقيمون بهذه المدينة.

يصفُ الحاج محمود إقامته بقبرص، فيقول:"لارنكا مدينةٌ لا تعرف السهر بعكس بغداد سابقاً، أو دمشق أو القاهرة، فبمجرد أن تصبح الساعة الثامنة مساء، تفرغ الشوارع تماما من المارة وكأنك في مدينة أشباح..! ".

يكرهون الإسلام :

اكتشفت الأسرة أن قبرص رغم أنها إحدى دول الاتحاد الأوربي، إلا أنها "دولةٌ ليست متحضرة" بالمعنى المفهوم: إذ لا يوجد بأيٍ من جامعاتها تخصصات كالطب أو الهندسة أو حتى الفيزياء!! كما أن فرص العمل محدودة للغاية في الجزيرة التي يقوم اقتصادها على السياحة بالدرجة الأولى ومن ثم التجارة بدرجة أقل.

والمشكلة الأكبر هنا أن جيرانهم بالمنطقة من القبارصة عامةً ليسوا اجتماعيين مطلقاً، ولا يسهل كسب صداقتهم بسهولة، لذا لم يكن من السهل عليهم تعلم اللغة اليونانية واللهجة القبرصية اللتين تمثلان الشرط الأساسي لأية فرصة عمل أو اندماج بقبرص.

تقول أسيل:"مكثنا بقبرص لأكثر من ثلاث سنوات، إلا أننا لا نزال حتى الآن عاجزين عن التحدث باليونانية بشكلٍ سليم، والسبب أن القبارصة أنفسهم يرفضون اندماجنا من خلال عدد من الإجراءات:منع كل من تعدى الثامنة عشرة من دخول مدارس اللغات إلا إذا كان قبرصياً، مما أخّر عملية اندماجنا إلى حدٍ بعيد، كما أننا واجهنا صعوبة الحصول على عملٍ جيد يتناسب مع مستوى شهاداتنا الجامعية، إذ إن كل ما يقدم لنا من فرص للعمل في المزارع ليس أكثر!".

أما والدها، فيقول:"نعيش في دوامةٍ مستمرة، حيث كلما اذهب إلى مكتب الهجرة بقبرص، وأسأله عما جرى بخصوص طلب لجوئنا، فيخبرني بألا جديد لديه، طلبتُ منهم مرة أن يعطونا رفضاً كي نبحث عن بلد آخر، ولكن بلا جدوى! كما أننا بدأنا نعاني من مشاكل جمة، على رأسها الغلاء الفاحش بهذه الجزيرة، ولولا المعاش الذي تقدمه لنا الحكومة القبرصية والذي بالكاد يكفينا لمتنا جوعاً بالفعل!".

بعد منح أفرادها بطاقات تفيد بأنهم "غرباء"، بدأت الأسرة شيئاً فشيئاً في اكتشاف "جدران الكراهية القبرصية الشاهقة" بلونها الرمادي البارد القاتم والتي تحيط بالمهاجرين غير الشرعيين من العرب والفلسطينيين خاصة، والأسباب واضحة تماما: لقد كانت قبرص تحت السيطرة التركية لردح من الزمن، مما أورثهم كراهية عميقة للإسلام والأتراك وكل ما ارتبط بهما، بما في ذلك الحجاب الذي ترتديه جل نساء الجالية الفلسطينية، بعكس الجاليات العربية الأخرى!

نزعوا حجابي

كانت التحرشات العنصرية من الطالبات والطلاب بـ"روان" و"علي"، الطفلين الوحيدين بالعائلة اللذين تمكنا من دراسة اللغة والانخراط في الدراسة بالمدارس الحكومية عديدة: لم يكن لكل هذا سبب سوى أنهما عربيان فقط! كان من الممكن أن يخفي علي هويته عبر التحدث باللهجة القبرصية، كون أن أهل قبرص يشبهون العرب إلى حد ما.

لكن حجاب روان كان يكشف هويتها الإسلامية دوماً، فبسببه تجّنَبها طلاب وطالبات مدرستها..ناهيك عن تعرضها للسباب والشتم من قِبل الشباب القبرصي الطائش من ذوي الدراجات النارية..لقد كان عليها تحمل ذلك كله في صمتٍ مريع.

تقول روان: " حاولتُ تسلق جدران الكراهية حولي، عبر التودد لزميلاتي ومجاملتهن والالتزام بالسلوك الحسن معهن، وقد نجحت في ذلك إلى حدٍ ما، لكنني كثيراً ما اضطررتُ للمشادات الكلامية من أجل الرد على التحرشاّت الزائدة عن الحد من قبل الفتيان الشرسين بالمدرسة ".

توقفت لثوان، قبل أن تردف:"ما ساعدني على ذلك هو أنني أكبر الطالبات والطلاب سنا بالمدرسة من العرب والقبارصة على السواء، فقد خسرت عامين من عمري خلال رحلة هجرتنا إلى قبرص، تعلمت خلالهما اللغة اليونانية التي تدرس بها المناهج القبرصية، وقد صقلت الحياة تجاربي. لم أعد أشعر بأنني طفلة في السادسة عشرة مطلقا ".

كانت روان في مدرستها ذات شخصية قوية عجزت عن "إخضاعها" جل الفتيات القبرصيات، إلى أن نصح فتى عربي صديقته بأن أفضل طريقة لـ"إخضاع" هذه الطفلة القوية هو نزع حجابها، وقد تم ذلك بالفعل!.

ثم أضافت بلهجةٍ مرحة: " هل تصدق أنني مرة نجحت في إخافة رئيس "العصابة" الأكثر شراً بمدرستي الجديدة؟! لقد اعترف لي بعد مشادة معه قائلا: كنت أظنك "فتاة ضعيفة"، فإذا بي أجدك أكثر جرأة وقوة مني!، لقد استطعتُ التصدي مراراً من لبطش الفتية العنصريين من القبارصة، وسأستمر في ذلك".

في كل يومٍ كانت قبرص تسفر عن المزيد من "العنصرية" ضد المهاجرين العرب والفلسطينيين خاصة، لدرجة أن أحد ضيوف البرامج الحوارية قال على إحدى القنوات التلفزيونية القبرصية: "إن على القبارصة جمع الفلسطينيين في سفينة واحدة وإغراقهم جميعاً في البحر!" وفي مرة أخرى ضربت معلمة قبرصية بقسوة لأنها منعت شبانا عنصريين من الدخول إلى أحد صفوف مدرستها لضرب طلاب وطالبات عرب، وقد ضربوا في النهاية بقسوة! كما أحرق المسجد في الحي العربي مرتين على الأقل دون الإمساك بالفاعلين!.

مجموعة من الهمج

كان الشبان القبارصة يعبرون عن "عنصريتهم ضد العرب" باستمرار عبر الكتابات البذيئة باليونانية والإنجليزية على جدران بؤر تمركز العرب وحتى على المركبات العربية!، كما تحدثت الجالية الفلسطينية بأسرها عن حادثة ضرب عدد من الشبان القبارصة لشيخ عربي مسن بعد تحرشهم به أثناء عودته إلى بيته مساء، قبل أن ينهالوا عليه ضربا بشدة! ويكفي أن تحدث مشاجرة بين قبارصة وشبان فلسطينيين حتى تدفع الجالية ثمنها بالكامل ودون تمييز! فيما ينحصر دور الشرطة القبرصية بكونها "متفرجا" لا يمنع الأذى عن الفلسطينيين في الغالب!.

يقول الحاج محمود: " إننا نحيا في جحيم مستعر اسمه قبرص. هنا يعامل اللاجئ معاملة أقرب إلى "الحيوانات" منها إلى بني الإنسان. لقد قطعت الدولة القبرصية "الشيكات" المالية التي يقدمها الاتحاد الأوربي لدعم المهاجرين عما يقرب من 140 عائلة من هؤلاء، وحاولنا الاحتجاج مرارا دون جدوى! ليتهم قتلونا مرة واحدة، بدلا من قتلنا مئات المرات كل يوم! ".

صمت الأب لهنيهة، قبل أن يكمل بصوت شديد الأسى: " ليتني كنت في بلدي أقاسي كل أنواع البطش الإسرائيلي لأحيا بكرامتي فقط، إننا هنا في قبرص بلا مستقبل أبدا، إذ لا يمكنني السفر من قبرص إلا بأوراق هوية أو إقامة، وقد علمنا أن القبارصة لن يمنحونا إياها لأننا مسلمين وهم يخشون تكاثرنا فيما بعد و"احتلالنا الديموغرافي" لبلادهم كما قالها لنا أحدهم! ".

أما ابنته أسيل، فتقول: "إن معاناتنا بعيدة تماما عن عيون الإعلام الفلسطيني والعربي والدولي، وكل من يتحدث عنا دائماً هو الإعلام القبرصي الذي يصورنا على أننا "مجموعة من الهمج الذين قدموا من بلادهم لتخريب قبرص"! فيما تصدر القرارات يوما بعد يوم ضدنا دون أن نملك سوى الدعاء بألا تسوء الأمور أكثر من ذلك! وأقول لك بكل صراحة: لو طرد جميع فلسطينيي قبرص في ليلة واحدة لما انتبه أحد لذلك لأن معاناتهم لا تزال في الظل..! ليتهم يفهمون بأن كل ما نريده هو "وطن" يضمنا لا أكثر!".

المصدر: صحيفة فلسطين

فلسطين أون لاين الموقع الالكتروني لصحيفة فلسطين