الأخوة المفقودة.. بين الواجب والواقع! ( 2 ) نعمة الأخوة

بواسطة قراءة 8202
الأخوة المفقودة.. بين الواجب والواقع! ( 2 ) نعمة الأخوة
الأخوة المفقودة.. بين الواجب والواقع! ( 2 ) نعمة الأخوة

كلمات قصيرة وإشارات عابرة وتذكرة عاجلة، قد تُقَلِّب المواجع وتُقلِق المضاجع، لكن لا خير فينا إن لم نتناصح ونتصارح، سيما في زمن طغت فيه الماديات وانغمس الناس في الملذات، واستحسنوا الهوى دون النظر في الانعكاسات والسلبيات والمآلات!

الأخوة في الله نعمة عظيمة، ومنحة ربانية جليلة، ومنة إلهية ثمينة؛ لا يعطيها الله عز وجل إلا لعباده الأصفياء وأولياءه الأتقياء، فهي طريق السعادة وروح الإيمان ونبراس الهدى، وخير ولذة في الدنيا، وعدة وسعادة في الآخرة.

يقول ربنا سبحانه وتعالى( وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )[1]، فَصِرْتُمْ، بِنِعْمَتِهِ بِرَحْمَتِهِ وَبِدِينِهِ الْإِسْلَامِ، إِخْواناً فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ بَيْنَكُمْ[2]، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً متحابين مجتمعين على الأخوة في الله.[3]

يقول محمد بن واسع: مَا بَقِيَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَلَذُّهُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ وَلِقَاءَ الْإِخْوَانِ.[4]

قال ابن المقفع: فإن صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر: كالريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً، وإذا مرت بالنتن حملت نتناً.[5]

عاشِر أخا الدِّين كي تحظَى بصُحبَتهِ * فالطبعُ مُكتسَبٌ من كل مصحوبِ

كالـرِّيـحِ آخِـــــذةٌ مــا تــمــرُّ بـــه * نتنًا من النَّتنِ أو طيبًا من الطِّيـــــبِ

لما كانت نعمة مجالسة الأخيار وصحبتهم في الدنيا عظيمة، ومنافعها كبيرة؛ فإن أهل النار يتحسرون يوم القيامة على التفريط فيها، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ . وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.[6]

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَهُوَ تَتْمِيمٌ أَثَارَهُ مَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ سُوءِ الْمُعَامَلَةِ مِنْ كُلِّ مَنْ يَمُرُّونَ بِهِ أَوْ يَتَّصِلُونَ، وَمِنَ الْحِرْمَانِ الَّذِي يُعَامِلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَسْأَلُونَهُ الرِّفْقَ بِهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ تَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فَإِنَّ الصَّدِيقَ هُوَ الَّذِي يُوَاسِيكَ أَوْ يُسَلِّيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ.[7]

كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ عُدَّةُ الدُّنْيَا وَعُدَّةُ الآخرة،أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ النَّارِ:" فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ".[8]

ولأهمية الأخوة وعِظَم مكانتها وصف الله أهل الجنة بها بل هي من نعيمهم فقال سبحانه(إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[9]، أي جالسين على سرر جمع سرير، متقابلين بوجوه مقبلة فرحة مستبشرة، وهذه نعمة أخرى من أجل النعم الإنسانية وهي نعمة الأخوة والمحبة المتوادة المتراحمة.[10]

فالواجب الذي ينبغي استحضاره دائما والسعي لتحقيقه، أن الأخ الصالح والصديق الناصح؛ صحبته نعمة ومجالسته منة.. لقاءه لذة وجواره ذخيرة.. مخالطته طمأنينة ومعاشرته راحة.. محادثته منفعة ومرافقته سعادة.

ولا تجلِـــــس إلـــــى أهل الدنايا * فإن خلائِقَ السُّفهاء تُعدِي

وصاحِب خيارَ الناس تنجُ مُسلَّمًا * وصاحِب شِرارَ الناس يومًا فتندَمَا

ولتحقيق إتمام نعمة الأخوة، لابد من شيئين اثنين استحضارا وتطبيقا:

الأول: معرفة الحقوق والواجبات المترتبة على كل أخ.

الثاني: شكر نعمة الأخوة من خلال تطبيق وتحقيق تلك الحقوق على أرض الواقع.

والمتأمل في أحوال السلف وحياتهم، يجد استشعار واهتمام وتحقيق عجيب لنعمة الأخوة، انعكس على سلوكياتهم وتصرفاتهم بل أقوالهم.

يقول عَبْدَ اللَّهِ الْبَغَوِيَّ: سَمِعْت الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: إذَا مَاتَ أَصْدِقَاءُ الرَّجُلِ ذَلَّ.[11]

وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ لِي أَيُّوبُ: إنَّهُ لَيَبْلُغُنِي مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ إخْوَانِي فَكَأَنَّمَا سَقَطَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِي.[12]

وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: مَنْ اتَّخَذَ إخْوَانًا كَانُوا لَهُ أَعْوَانًا.[13]

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِقَاءُ الْإِخْوَانِ جَلَاءُ الْأَحْزَانِ.[14]

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

يَمْضِي أَخُوك فَلَا تَلْقَى لَهُ خَلَفًا * وَالْمَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَالِ مُكْتَسَبُ

فكيف لا تكون الأخوة في الله نعمة، ومن الذين يُظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه"، فلم تجمعهم ضياع الأوقات والسهر والقيل والقال! أو التجارة والمصالح الدنيوية الزائلة! أو الجاه والوظيفة، كما أنه لم تفرقهم الدنيا وما فيها من منغصات فتأمل حفظك الله.

وقيل لأعرابي: أي شيء أمتع؟ فقال: مُمَازَحَة المحب، ومحادثة الصديق، وأمانيّ تقطع بها أيامَك.[15]

وقيل: رُبَّ صديق أودُّ من شقيق!

وقيـل لمعاوية - رضي الله عنه - أيُّما أحب إليك؟ قال: صديق يُحَبِّبُنِي إلى الناس.

وكيف لا تكون الأخوة في اله نعمة، وهي من أقصر الطرق لنيل محبة الله ورضوانه، يقول عليه الصلاة والسلام: ( قال اللهُ تعالى وجبتْ محبتي لِلْمُتَحابينَ فِيَّ، والمتجالسينَ فِيَّ، والمتباذلينَ فِيَّ، والمتزاورينَ فِيَّ ).[16]

والحال عندما تكون الأخوة نعمة ورضا وعن طيب نفس، كالموقف العجيب عندما جاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه فأخذ من كيسه حاجته، فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته فقال: إنْ كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله تعالى سروراً بما فعل.

وقال عمر بن عبد العزيز: إياك ومن مودته على قدر حاجته إليك، فإذا قضيت حاجته انقضت مودته.

لكن الواقع المؤلم والحال المخزي، بخلاف ما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقة الجميلة والنعمة العظيمة، فتحولت من نعمة إلى نقمة! وانقلبت المنة إلى محنة!

المتأمل لأحوال كثير من الناس، والمتتبع لسلوكياتهم وعلاقاتهم " الأخوية في الظاهر" يجد المجاملة على حساب الدين والمودة عند الحاجة! حتى أصبح مقياس اللقاء والزيارة والتواصل، حسب المصلحة الزائفة، والمنفعة الدنيوية والمادية المؤقتة، والوجاهة المفترضة!

فالأخوة الصادقة التي هي نعمة وعدة وزاد؛ ليست شعار يُرفع أو كلمات نتظاهر بها، ولا رسائل عبر مواقع التواصل منزوعة الدسم! – على طريقة النسخ واللصق- بل هي شعور حقيقي متبادل، ومواقف عملية تلقائية وتصرفات عفوية غير مصطنعة، وتجرد من أي شائبة نفعية ابتداء!

قال مالك ابن دينار: أخوة هذا الزمان مثل مرقة الطباخ في السوق؛ طيب الريح لا طعم له.

الله أكبر هذا في زمانه فكيف لو رأى زماننا!

نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويهدينا سواء السبيل.

 

12-10-2015م



[1](آل عمران:103).

[2]تفسير البغوي(1/486).

[3]تفسير البيضاوي(2/31).

[4]حلية الأولياء(6/291).

[5]كليلة ودمنة ص153.

[6]الآداب الشرعية لابن مفلح(3/567).

[7]تفسير ابن عاشور(19/155).

[8]تفسير القرطبي(13/117).

[9](الحجر:47).

[10]زهرة التفاسير (8/4092).

[11]الآداب الشرعية(2/175).

[12]الآداب الشرعية(2/175).

[13]أدب الدنيا والدين، ص161.

[14]أدب الدنيا والدين، ص161.

[15]جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة (3/252).

[16]صحيح الجامع برقم 4331.