الأحداث السياسية التي عرفتها فلسطين منذ عام النكبة وما بعد والتي أدت من جملة ما أدت إليه لتهجير ونزوح عدة ملايين من أبناء الشعب الفلسطيني كان لها كما نعرف نتائج سلبية جمة على هذا الشعب. من جملة هذه الإشكاليات ما له علاقة بالتجربة المعاشة للهجرة في البلد المضيف وبالإشكالات الاجتماعية والنفسية المتعلقة بهذه المسألة .
يمكن القول بداية أنه ولأسباب مختلفة، زادت وتيرة الحركات السكانية في العقود الأخيرة من هذا القرن انطلاقا من بيئة طاردة باتجاه بيئة جاذبة يتوقع أن تتوفر فيها ظروف حياتية أفضل. وبغض النظر عن خصوصيات كل وضع، يمكن التأكيد على قاسم مشترك، يعيشه كل من يتعرف على هذه التجربة، من صدمات وتوترات وضغوط نفسية. ذلك إلى جانب التغييرات الاجتماعية والثقافية والبيولوجية والاقتصادية وغيرها التي تطرأ على الفرد والجماعة المعنية.
هذه الإشكاليات تنسحب تأثيراتها على الأبناء والأحفاد حيث تؤثر على تكوين شخصيتهم وتشكيل الأنا لديهم وتحديد هويتهم.من العوامل الأساسية التي لوحظ تأثيرها القوي على مواجهة هذه التجربة هو طبيعة هذا الاحتكاك، أي مفروضاً كان أو مختاراً. كذلك قابلية البلد المستقبل لاستيعاب مهاجريه وتوفير الظروف المعيشية التي تسمح بانخراطهم فيه، مع ما يحتم ذلك من قوانين وإجراءات تؤهل لذلك، أو العكس من رفض لهم وتهميش وتضييق فرص العمل عليهم الخ.بالنظر لهاتين النقطتين في المثل الذي يهمنا، يبدو جلياً من خلال ردود الأفعال التي سجّلت تأثير الصدمة العنيفة التي نتجت عن طرد الفلسطينيين من أرضهم وعن الظروف التي رافقت اقتلاعهم من جذورهم وما والتي شردوا منها ولوحقوا واستشهدوا فما كان لديهم الا الصحراء والحدود واللجوء .
تبع ذلك من خلال أوضاع سياسية فرضت بقاءهم في المخيمات وعلى الحدود العربية شاردين لاجئين من فلسطين فالعراق فالمخيم فالبرازيل. وهنا ندرك أن المعاناة هذه لم تقتصر على الجيل الأول منهم، أي الذين عاشوا النكبة فحسب، بل طالت أجيال أبنائهم وأحفادهم. ففي الوقت الذي ينتفي فيه وجود عوامل مشجعة للتقارب بين الشعبين البرازيلي والفلسطيني مثل الاختلاف العرقي والثقافي واختلاف اللغة وغيره بما يؤثر على فعالية الاختلاط والتفاعل، يأتي عامل أساسي ليضيف للأول ما يضفي على هذه التجربة من طابع مؤلم بنوع خاص. هذا العامل هو طريقة تعامل البيئة المستقبلة وبالأخص لمفوضية السامية للاجئين ومؤسساتها المسماه آساف و ال م د أجا وغيرها من هؤلاء المؤسسات.يمكن القول باختصار شديد أنه خلال أكثر العام والنصف لم يكن هناك تنظيم للعلاقات مع اللاجئين الفلسطينيين انطلاقا من مواقف عقلانية تحدد ما لهم وما عليهم. فهم ليس عليهم فقط واجبات تجاه البلد المستقبل وإنما أيضا حقوق بالنظر للقوانين الدولية والأعراف المرعية في هذا الشأن. فبغض النظر عن المراحل المختلفة التي طبعت هذه العلاقة بين المجتمع البرازيلي والأخوة اللاجئين الفلسطينيين وعن النسبة المتزايدة بشكل متصاعد بين صفوف البرازيلين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، كانت السمة الطاغية لتعاطي غالبية المجتمع البرازيلي وبالأخص الطبقة الشعبية خلال هذه الفترة . وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للشقيقة العراق , وما تبعها من حرب على اللفلسطينين وتشردهم .و الاتهامات الموجهة للفلسطينيين بارتكاب الجرائم واستعمال السلاح وتحويل البيوت “لبؤر أمنية فالتة”.هذا كله بهدف تهجرير وطرد الفلسطنين للمخيمات والتي كانت محاصرة منها مخيم الرويشد والذي كان مخيم للاجئين البرازيل فكان كسجن مشيك يخرج منه اللاجئ بامر وتصريح هذا بالإضافة لمنع دخول مواد الترميم إليه مع ما رافق ذلك من إجراءات أمنية وتشديدات على قاطنيه. فترك هذا المخيم للتلف والحرائق والزوابع الرملية والأفاعي والعقارب والإهتراء .
مما يخلّف آثاره على تدمير البوتقة الاجتماعية للفلسطينيين ويترك انعكاساته النفسية الوخيمة عليهم، خاصة عندما لا توفر الدولة البدائل، إلى أن تأتي ظروف موآتية تسمح لهذا الاحتقان أن ينفجر في ردة فعل طبيعية على هذا العسف.كل ذلك يضاف طبعا للتشديد المستمر بحرمان الفلسطينيين من الحصول على فرص العمل التعليم والتطبيب . وفي الحالات القليلة التي يعمل فيها الفلسطينيون، يتم ذلك غالبا بمساعدة بعض ابناء الجالية العربية الفلسطينية ، وهناك فئة من الشبان يعملون في مسالخ الدجاج والذبح الحلال بمرتب 420 ريال برازيلي شهرياً أي ما يعادل 220 دولار أمريكي وذلك شهرياً لآب عائلة يعمل 10 ساعات يوماً ما لا يكفي قوته أكثر من أسبوع أو عشرة أيام هذ وفي ظروف استغلال شديد من قبل أرباب العمل.
تطالعنا دراسة عن أزمة البطالة عند القوى العاملة لدى اللاجئين الفلسطينين في البرازيل ) أن 25 منهم فقط يعملون بشكل مستقر، والباقون إما عاطلون عن العمل وإما مياومون. هذا في الحين الذي تشكل فيه القوة العاملة بينهم، أي الفئات العمرية ما بين 16 و65 سنة، ما نسبته 15% وتشكل القوة الشابة بين 21و30 سنة الفئة الغالبة. هي الفئة الممارسة للعمل، ..كل ذلك يخالف بالدرجة الأولى شرعة حقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعاهدات التي وقع عليها المفوضية أكنور .فحتى اليوم لم يحصل الفلسطينيون في البرازيل على ما فتئوا يطالبون به منذ دخولهم البرازيل إثر مفاوضات عديدة وتقديم مذكرات ومقترحات وبكل الطرق السلمية للمفوضية أكنور والمسؤولين فيها من أجل تحسين أوضاعهم. واحدة من هذه المذكرات ما تقدموا به السنة الفائتة، في مطلع عهد جديد وعقب شعور بجو من الأمل بإمكانية فتح حوار مع أكنور بعد ما ردوا في شوارع العاصمة برازيليا لمجرد المطالبة بحقوقهم ولا ننسى بأن المفوضية استعملت كل اساليب القمع لطلبات اللاجئين مما اضطرهم لسكون الخيم والشوارع ومما اسفر عن موت السيد حمدان أبو سته والذي سكن خيمته أمام مقر المفوضية لمدة عام وشهرين مع اخوانه ورفاقه السيد فاروق وغيرهم من اللاجين الذين دائما ذهبوا لبرازيليا للمطالبة بحقوقهم فهم باتو رفاق للسيد المسن المرحوم حمدان ابو سته والسيد المسن فاروق منصور .
وذلك لمجرد أنهم طالبوا باتخاذ “إجراءات لمعالجة عدد من القضايا التي تمس كرامة الفلسطيني وحقوقه الإنسانية و(التي) ليس لها مسوّغ لا قانوني ولا سياسي وتخلق احتقانا وتوترا في نفسية اللاجئ الفلسطيني لتتحول إلى نزعة “غيتو” ضارة على مستقبل العلاقات الأخوية بين الشعبين الفلسطيني والبرازيلي . هذا وتؤكد دراسة بدأت تظهر نتائجها أجرتها مؤسسة حقوقية على اللاجئين الفلسطينيين أنه، بما يخص الوضع الصحي، هناك فردا على كل خمسة أفراد من العينة يعاني من بعض عوارض الأمراض المزمنة، لكن فقط 7 من بين كل 10 يعانون من أمراض حادة يعرضون أنفسهم على طبيب.
كما أن الأوضاع الصحية للأفراد تحت سن الخمس سنوات هي أكثر سوءا مقارنة بمخيمات الوليد والتنف والحسكة وأن واحدا من خمسة أشخاص يستخدم أدوية بسبب الضغوط النفسية.أما بما يتعلق بالتعليم، فتدل النتائج الرئيسية على مستوى تعليم منخفض ومستويات أمية عالية وعدم التحاق بالتعليم بشكل مرتفع بين صغار السن وخصوصا الذكور، كما وأن الكثير من الطلاب يتوقفون عن الدراسة لأسباب اقتصادية أو لعدم توفر عوامل الحث أو التحفيز. هذا في الحين الذي كان يعرف في الفلسطينيين قبل انهيار الوضع الامني في العراق والتشرد توجههم الشديد للعلم وحمل الشهادات بحيث يكاد أن ينعدم وجود الأميين بين الأجيال الشابة.نتائج كهذه لا تفاجئ المختصين بمشاكل الطفولة الذين يعرفون أن الطفل يمكن أن يعبر عن أزماته النفسية، التي هي بعلاقة شديدة مع معاناة أسرته المادية والمعنوية، عبر تسربه الدراسي أو رسوبه الناتجين عن عدم قدرته على التركيز الذهني واستيعاب البرامج الدراسية.
وهو إضافة لذلك قد يقع ضحية سلبيات النظام الدراسي الذي لا يهتم كفاية بمعاناة الأطفال النفسية ويطالبهم بالوقت نفسه بالإنتاج الفكري والتحصيل العلمي في جو يفتقد شروط التحفيز النفسي. هذا في الحين الذي قد يمتلك من يقع ضحية هذا النظام من رسوب وتسرب على طاقات عقلية ومعدلات ذكاء عالية تؤهله لتحصيل علمي رفيع في وضع مختلف. فما يبدو كسلا أو عدم اهتمام كاف بالدراسة قد يكون منبعه إشكالات عصابية ناتجة عن التأثيرات السلبية للبيئة الحاضنة والتي بدورها تتأثر بالمحيط المباشر.
وقد يكون الرسوب ترجمة لعدم قدرة الطفل على التوفيق بين متناقضات متطلبات الأهل، كما يمكن أن يكون دليلا على صعوباته في تحديد “من هو” و”لمن ينتمي”.يشعر الفلسطيني في البرازيل اليوم وفي أكثر من أي وقت أنه، إضافة لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية والصحية، هو عبارة عن ورقة في صفقة، بجزء منها مالية، تلعبها المفوضية أكنور من وراء ظهره ثمنا لتمرير التوطين كاحتمال مطروح. مما يعزز في ذهنه فكرة المؤامرة الدولية التي تحاك حوله في الخفاء. .
فالعودة المرجوة إلى الوطن تبدو حتى الآن بعيدة المنال بسبب مباحثات السلام المتعثرة، وخاصة مع ما يجري في الآونة الأخيرة من مستجدات على الساحة الفلسطينية مع انتفاضة الأقصى واستمرار مقاومة الاحتلال حتى النصر والاستقلال رغم القمع الدموي للانتفاضة وتصعيد المواقف لاجهاضها وفرض حالة حصار على الأراضي الفلسطينية المحتلة. كل ذلك يترتب عنه بالطبع مضاعفات بالغة الأثر على وضع فلسطينيي الشتات، في الحين الذي يبقى حق العودة إلى فلسطين المطلب الأساسي الذي يتمسك به هؤلاء والذي ظهر جليا في أحاديث كل الفلسطينيين في البرازيل .الانخراط في المجتمع المستقبل:لقد بدا واضحاً إذن التأثير القوي لنوعية استقبال ومعاملة المفوضية أكنور لهم على إضعاف قدرة اللاجئين الفلسطينيين لتحمل ظروفهم الحياتية والانفتاح على المجتمع المحيط بهم والتفاعل معه. فكان أن تصاعدت، في أخر فترات ,الأزمات بشكل خاص، ظاهرة الانغلاق على النفس والتقوقع في ما يشبه الغيتو وتفعيل المشاعر العدوانية تجاه رفض الآخر لهم، والتي منها اللجوء للإنعكاف لتنفيس الاحتقان.إن معاناة اللاجئ الفلسطيني النفسية كما أسلفت مؤلمة جداً في مجتمع يرفضه وينظر له نظرة دونية، في الوقت الذي يشده انتماءه للبلد الأصل وتبعده عنه السياسات الاستيطانية لإسرائيل. فهو كمن يعيش حياته بين مزدوجتين بانتظار ما تسفر عنه المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية كحل لهذا الوضع. لكن تمر السنوات تلو الأخرى والأمور تجري نحو الأسوأ في حالة من عدم الاستقرار والانتظار.
فهل له في جو كهذا أن يندمج في المجتمع المحيط ويتفاعل معه؟ وكيف له أن يفعل ذلك ويتجنب الصراعات النفسية المفككة للهوية دون أن يشعر أنه يخون قضيته؟ في جو من العزل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، يبقى غريباً حتى ولو حمل الجنسية التي لا تصلح أحيانا إلا لتسهيل بعض الإشكاليات الإدارية. فيغدو تحقيق الذات سراباً في جو فرض شروطه وافتقر للمقومات الدنيا للتصرف بالحياة بحرية.شعوره بالغربة في البلد المستقبل وانقطاعه عن التواصل مع مجتمعه الأصل يجعل ملجأه الأساسي العائلة التي هي قارب الأمان وملاذه الوحيد. فهي، رغم خطر الانفجار في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية التي تجتازها والتي تؤثر على تماسكها .
فإلى متى سيبقى اللاجئ
لاجئ ؟؟؟؟؟؟
هل من مجيب.؟
هبه عياد – البرازيل
6/5/2010
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"