ولعظم منزلة التقوى كانت وصية الله للأولين والآخرين، قال - تعالى -: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ)) النساء ـ 132
، قال القرطبي رحمه الله : الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله، لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.هـ
خيرالزاد التقوى.. دخل علي رضي الله عنه المقبرة فقال: يا أهل القبور ما الخبر عندكم: إن الخبر عندنا أن أموالكم قد قسمت وأن بيوتكم قد سكنت وإن زوجاتكم قد زوجت، ثم بكى ثم قال: والله لو استطاعوا أن يجيبوا لقالوا: إنا وجدنا أن خير الزاد التقوى...
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ((اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )) آل عمران:102 :
تقوى الله أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر...
قال ابن رجب رحمه الله : وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.هـ..
فالمسلم في حال صيامه ممسك عن اللذات من الطعام والشراب والجماع وهي من المباحات تاليا لكتاب الله ذاكرا له ..جل وعلا.. امتثالا لأمره واجتناب نهيه .. ..وهو في شهر تصفد فيه الشياطين وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار ..
فهذه الأجواء الروحاية التي يستشعرها الصائم تنتقل به من عالم البهيمية إلى عالم صفاء الروح ونقائها وزيادة الإيمان ونمائه ...فكل ما شرع من أعمال حال الصيام تعين على التقوى ...
وفي مناسبة التقوى كأثر ونتيجة للصيام قال القرطبي : ...لعلكم تتقون ... لعل ترج في حقهم كما تقدم و تتقون قيل : معناه هنا تضعفون فإنه لما قل الأكل ضعفت الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وهذا وجه مجازي حسن هـ..
وقال ابن كثير : .... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ....لأن الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان؛ ولهذا ثبت في الصحيحين: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ...هـ..
أخي المسلم هنالك شياطين من الأنس و الجن تحاول حرف مسيرتك الإيمانية عن وجهتها الصحيحة : قال تعالى : ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا))..112 الانعام ... فينصبون لك الفخاخ في شهر رمضان ليسلبوا ويخطفوا منك حقيقة الصيام وما لأجله شرع فيكون صيامك عبارة عن جوع وعطش لاغير.. وقد اخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع و رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر...[1]
قال جابر رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ، والمأثم ، ودع أذى الخادم ، وليكن عليك وقار وسكينة ، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء..
ولتجتب أخي الصائم كل ما يخدش صومك ويذهب بحكمته من النظر إلى المحرمات وسماع مالا يرضي الله من الأغاني والموسيقى وخاصة ما يعرض من الباطل في ثوب الحق وهو ما يسمى البرامج الرمضانية زورا وبهتانا ..
فلا يصوم أحدنا عن الحلال تعبا ومشقة ويفطر على الحرام بأيسر الطرق وأسهلها...
وعلى الصائم أن يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه ونظره اليه...
كذلك ينبغي على الصائم ترك الغيبة والنميمة ..وهي ذكرك أخاك بما يكره .. وترك الكذب في كل صوره .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه..[2]
وعلى الصائم التحلي بالصبر والحلم والأخلاق الفاضلة وعدم الإنفعال والغضب قال عليه الصلاة والسلام : إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يجهل فإن امرء شاتمه أو قاتله فليقل : إني صائم إني صائم..[3]
فكل هذه وغيرها صور تخدش حقيقة الصيام وتعرقل الوصول إلى ثمرته والحكمة العليا له وهي التقوى....
وفي المقابل يحرص الصائم على قراءة القران وذكر الله وعلى أداء الصلوات في المساجد وصلة الأرحام وزيارتهم والعفو والصفح والصلح وصدق الحديث والصدقة على الفقراء وإعانتهم فهذه الأعمال تسقي شجرة التقوى وتنمي ثمرتها يما يعود على المسلم في أن يحشر في زمرة المتقين قال تعالى : ((قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد)) 15 ال عمران ....
نسأل الله تعالى.. أن يعيننا على تقواه في شهر رمضان المبارك... اللهم آمين
وليد ملحم
مكة المكرمة
25 شعبان 1436 هـ
[1] حديث رقم : 3488 في صحيح الجامع..
[2] الالباني : صحيح ، ابن ماجة ( 1689 )
[3] حديث رقم : 783 في صحيح الجامع