الله سبحانه وتعالى جعل شهر رمضان، موسما من
مواسم الخيرات والتقرب إلى الله بسائر الطاعات، ومن أجل خصائصه التنوع في
العبادات، فقد جمع هذا الشهر جميع أركان الإسلام، من توحيد لله عز وجل متمثلا
بالاستجابة والاستسلام لأوامر الله، والصلاة متمثلة بصلاة التراويح، وهو شهر
الصيام، وكثير من الناس يدفعون زكاة أموالهم فيه ويتصدقون، وعمرة في رمضان تعدل
حجة.
الله عز وجل جعل المدخل لهذا الشهر الفضيل،
ترك المباحات التي اعتاد عليها المسلم بشكل يومي في حياته الطبيعية، من الطعام
والشراب والملذات، كإشارة وعلامة للدخول بهذا الموسم، إلا أن الغاية والثمرة ينبغي
أن تتركز على غذاء الروح والقلب لا البدن والجسد!
كثير من المسلمين ينصب اهتمامهم باستقبال شهر
البركات والخيرات والعبادات؛ بأصناف المأكولات والمشروبات، حتى تستغرقهم وتصرفهم
عن الطاعات والاستزادة من الخيرات، مع أن الحكمة من الصيام ليست مجرد ترك الطعام
والشراب في النهار ليعوض ليلا بشكل مبالغ فيه، بل بعضهم ينتقم بطعام وشراب الليل
من صيام النهار، غير مكترثين ما يجره عليهم من أضرار وكسل وسوء عاقبة.
من أسوأ العادات التي لا ينبغي فعلها في رمضان – بوجه خاص- وغيرها من
الأوقات عموما؛ الاهتمام الزائد والتركيز فوق الطبيعي، في أنواع وأصناف المأكولات
والمشروبات قبل وأثناء رمضان، وكأنهم مقبلون على أيام قحط وجوع، فتجد الإسراف
والتبذير، والتفنن بأصناف الأطعمة وأنواع الحلويات والادخار وملئ الموائد إلى حد
الشره والتبذير والنهم!!
يقول ربنا سبحانه( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )[1]،يذكر أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس
في كتابكم من علم الطب شي، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له
علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا.[2]
وقد أخطأ من ظن وفهم أن رمضان شهر المنافسة في الأطعمة في الليل، بسبب
ترك ما يباح منها في النهار! بل من أسمى معاني هذا الشهر هو الاقتصاد والحمية والتقشف
والزهد وترشيد النفقات، والتقليل من الطعام التي تؤدي لتضييق مجاري الشيطان في
الدم، وبالتالي ينشط العبد في طاعة الله معظم ساعات اليوم، فرمضان شهر غذاء الروح
والقلوب لا تخمة الأبدان والأجساد.
يقول عليه الصلاة والسلام( الكافرُ يأكلُ في سبعةِ أمعاءٍ. والمؤمنُ يأكلُ في مَعِيٍّ واحدٍ )[3]،
والعلة لأن الكافر يأكل للشهوة والمؤمن يأكل للضرورة، ويقول عليه الصلاة والسلام( ما
ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنِه، بحسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالة،
فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنفَسِه )[4].
يقول عليه الصلاة والسلام في بيان أن الغاية من الصيام ليست ترك
الطعام والشراب فحسب( مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه
وشرابَهُ )[5].
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :
أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْبِطْنَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهَا
مَكْسَلَةٌ عَنِ الصَّلاةِ، مُفْسِدَةٌ لِلْجَسَدِ، مُوَرِّثَةٌ لِلسَّقَمِ،
وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ، وَلَكِنْ
عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي قُوتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَدْنَى مِنَ الإِصْلاحِ،
وَأَبْعَدُ مِنَ السَّرَفِ، وَأَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَإِنَّهُ لَنْ
يَهْلِكَ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْثَرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ.[6]
وقيل: من كان همّه ما يدخل في بطنه،
كانت قيمته ما يخرج منه.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا
تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثيِرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَخْسَرُوا
كَثِيرًا.[7]
وَفِي حِكْمَةِ لُقْمَانَ: يَا
بُنِيَّ إِذَا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَتِ الْفِكْرَةُ، وَخَرِسَتِ
الحِكْمَةُ، وَقَعَدَتِ الْأعْضَاءُ عَنِ الْعِبَادَةِ .[8]
يقول الزعيم الإسلامي الهندي شوكت
علي بعد أن زار مصر في شهر رمضان عام 1931م ورأى موائدها الحافلة بصنوف الطعام :إن فتات موائد المصريين كفيل بأن يملأ بلادهم بالمساجد
والمدارس والملاجئ والمستشفيات.[9]
فكيف لو رأى موائدنا هذه الأيام والله المستعان!!
بحسب دراسات فإن نسبة الاستهلاك الغذائي في رمضان تصل في بعض الدول
العربية إلى ثلاثة أضعاف ما تستهلكه في الشهور العادية!
للأسف تفنن الناس في هذا الشهر الكريم بأصناف المأكولات، حتى باتت بعض
الأكلات تسمى
" مأكولات رمضانية"! لا تؤكل إلا في هذا الشهر!
غاب عن كثير من الصائمين، أن شهر رمضان هو معسكر تدريبي للنفس حتى تكف
عن جميع المحرمات، للوصول إلى غاية مهمة ونتيجة عظمى ألا وهي تقوى الله.
لقد أصبح صيام رمضان لدى الكثير عادة وليس عبادة، وروتين متشابه لا
يشعرون بأي تغيير منذ دخول أول أيامه حتى انقضائه، كما هو حال ممارسة كثير من
العبادات مهتمين بالإجزاء والشكل دون الحقيقة والروح والمضمون!
يقول ابن
القيم: المقصود من الصيام حبس
النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما
فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع
والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين.
وتضيق مجاري الشيطان من العبد
بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما
يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه، فهو
لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين.[10]
بدلا من أن يشعر بعض المسلمين بآلام
الفقراء والمعدمين، وبمن تصيبهم المجاعات في كثير من أنحاء المعمورة، فيتوجهون إلى
العلي القدير بالشكر على نعمه الظاهرة والباطنة، ويقتصدون في الطعام ويسارعون إلى
الخيرات، فإنهم يفرطون في التغذية، وأول مظاهر الإفراط في التغذية في شهر رمضان
زيادة أوزانهم بصورة مفرطة، وينسون أن بعض المصحات العالمية تمارس عملية تجويع
المرضى، وتجبرهم على الصوم والامتناع عن الغذاء وذلك بغية الوصول بهم إلى الوزن
الطبيعي والصحي.[11]
قال ابن المقفع: كانت ملوك الأعاجم
إذا رأت الرجل نَهما شرِها أخرجوه من طبقة الجد إلى باب الهزل، ومن باب التعظيم
إلى باب الاحتقار.
تقول العرب: أقلل طعاما تحمد مناما.
ومن الطرائف: نزل أحد المسافرين على
رجل ضيفا وقت الإفطار، فقدم إليه المضيف خمسة أرغفة، وذهب ليحضر الإدام، فحمله
وجاء فوجده قد أكل الخبز، فذهب وأتى بخبز آخر فوجده قد أجهز على الإدام، ففعل معه
ذلك عشر مرات، ولما أراد الضيف الانصراف سأله المضيف عن مقصده فقال له:
إني ذاهب إلى البلد المجاور، فقد
بلغني أن بها طبيبا حاذقا أريد أن أسأله عما يصلح معدتي فإني قليل الشهوة إلى
الطعام! فقال له المضيف: إن لي لديك حاجة. فقال له: وما هي: قال: إذا ذهبت وأصلحت
معدتك، واعتدلت شهيتك.. فلا تجعل طريق عودتك علي.
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وسائر
أعمالنا.
11- رمضان- 1435هـ