أندونيسيا هي من أقرب الدول على السواحل الأسترالية. ولهذا السبب،
فهي ليست سوى مرحلة انتقالية يختارها المهاجرون غير الشرعيين من الدول التي تعتبر
في محيط الهجرة الأسترالي والتي تعاني الحروب أو القمع أو الفقر كأفغانستان أو
العراق أو إيران أو سيريلانكا. في حالة الطفلة أميرة، فهي من جيل النكبة
الفلسطينية الرابع الذي لجأ جدا أبويها من قرية جَبعة (قضاء حيفا) إلى العراق عام
١٩٤٨.
لم يعرف عمر إبراهيم ملحم- والمولود في ١٩٧٧- في حياته بلدا آخر
غير العراق، لا بل لم يعرف مدينة أخرى غير بغداد. فيها ولد وأنهى دراسته وبدأ
حياته العملية في مجال الحلويات، وفيها أسس له أسرة صغيرة، وفيها سمع حكايا
الأجداد عن فلسطين، وفيها شكـّل هويته التي تشابكت جوانبها بين رصافة بغداد
وطنطورة حيفا، فكان عليه ما على العراقي من رغد العيش حينا وعسره
أحيانا.
ولكن يبدو أن بغداد قد أحبته أكثر من بعض أهلها، فقد
تكررت قصة لجوء جد عمر من حيفا عام ١٩٤٨معه هو وعائلته هذه المرة عام ٢٠٠٥ عندما
أجبره التهديد بالقتل على ترك بيته في منطقة أبو دشير/ الدورة في بغداد- لا لشيء
إلا أنه فلسطيني كان بعض العراقيين يرغبون بالاستيلاء على منزله. يُنظر للفلسطيني
بالعراق بالكثير من الحقد من قبل بعض فئات المجتمع العراقي على اعتبار اصطفافهم
السياسي المزعوم مع البعث وخرافة التمييز الإيجابي الذي مارسه صدام حسين مع
الفلسطينيين ولا سيما أثناء فترة الحصار الاقتصادي الخانق والظالم على العراق في
الفترة ما بين عامَي ١٩٩١ و ٢٠٠٣.
لجأ عمر ملحم وعائلته بعدها
إلى منطقة البلديات في بغداد ذات الأغلبية الفلسطينية. إلا أن حالة الاستقطاب
الطائفي التي اجتاحت العراق إثر تفجير المرقدين في مطلع عام ٢٠٠٦ جعلت من هذه
المنطقة هدفا للدك بقذائف الهاون والقتل على الهوية ولمئات بل آلاف المداهمات
المسلحة من قبل الميليشيات العراقية المسلحة ذات التمويل الإيراني والتي نشأت إبان
الغزو الأمريكي للعراق مثل قوات المهدي التابعة لما يعرف بالتيار الصدري أو قوات
بدر التابعة للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي. حتى قوات المغاوير المحسوبة على
وزارة الداخلية العراقية كان لها من دم الفلسطيني نصيب إما فعلا أو تواطؤا.
لقد كان للدور الذي لعبه التحريض الإعلامي العراقي
الرسمي بالغ الأثر في تأجيج الاحتقان. كمال غنام من فلسطينيي العراق الـ ٦٨ الذين
منحتهم أستراليا اللجوء الإنساني عام ٢٠٠٩ بعد أن قامت الجمعية الأسترالية لغوث
اللاجئين من فلسطينيي العراق (أسباير) بترجمة وثائقهم وتقديم طلبات الهجرة
بالنيابة عنهم للحكومة الأسترالية، وبعد أن أمضى سنوات في المخيمات الحدودية
الصحراوية بين العراق وسوريا. يروي كمال كيف تم اختطافه ذات يوم وإجباره على تقديم
اعترافات كاذبة في التلفزيون العراقي الرسمي عن مسؤوليته في تفجيرات إرهابية
استهدفت المدنيين الشيعة، وذلك تحت التعذيب الشديد والتهديد بالقتل.
شأنه في ذلك شأن ما يقارب العشرين ألفا من فلسطينيي
العراق، اتخذ عمر ملحم في مطلع ٢٠٠٧ قراره بترك البلد التي وُلد وعاش فيها حتى
الثلاثين من عمره هربا من الموت المحيط به وبعائلته الصغيرة. إلا أن مغادرة
العراق- على مرارتها- تعتبر أمرا في غاية التعقيد بالنسبة لفلسطينيي العراق.
فوثائق السفر التي كان العراق يمنحهم إياها أيام صدام لم يعد بالإمكان تجديدها بعد
الغزو، تارة بسبب التجاهل ثم التعقيدات التي فرضتها حكومات (العراق الجديد)، وتارة
بسبب الخوف من مجرد التوجه لقسم العرب التابع لدائرة الأحوال المدنية العراقية
والتي أصبحت مناطق (اصطياد) سهل للفلسطينيين.
هذه الوثائق أصلا حتى في أيام عزها لم تكن غالبية الدول
العربية تسمح بدخول حاملها، فما بالك الآن؟ لا بل لم يكن العراق نفسه يسمح
للفلسطيني بالمغادرة. قبل أسابيع سمعت عن الرشاوى التي كان يضطر بعض فلسطينيي
العراق دفعها في فترة التسعينيات لمسؤول ما في البعثة الأولومبية العراقية ليتم إدراج
أسمائهم في قوائم الرياضيين المشاركين في بطولة عربية في دولة ما حتى يتمكنوا من
المغادرة. في ظل ذلك كله، لم يبق أمام عمر ملحم سوى دفع ٤٠٠٠ دولار أمريكي ثمنا
لأربع جوازات سفر عراقية مزورة له ولزوجته أميرة وطفليه: يسرى وإبراهيم.
الوجهة الأولى كانت تركيا عبر سوريا. ومن هناك تم الاتصال بعد
شهرين بأحد المهربين لغرض تأمين وصولهم إلى قبرص اليونانية. تم ذلك على مرحلتين:
الأولى من تركيا إلى قبرص التركية بالطائرة- وهو أصلا أمر فيه الكثير من المجازفة
لسهولة انكشاف أمر الجوازات المزورة بعد السفرة الأولى،. وبالتالي فمهمة المهرب هي
تأمين وجود أشخاص يُتفق معهم لتسهيل المرور عبر مطارَي تركيا وقبرص التركية.
والمرحلة الثانية بالسيارة لتهريبهم إلى قبرص اليونانية عبر الأسلاك الشائكة وحقول
الألغام التي تفصل شطري الجزيرة لتتضاعف المجازفة الآن بل وتصبح مسألة حياة أو
موت. الثمن الذي كان على عمر ملحم دفعه هذه المرة هو ١٢٠٠٠ دولار بواقع ٤٠٠٠ عنه
وعن زوجته و٢٠٠٠ دولار عن كل من طفليه.
يتبع
يوسف الريماوي- ملبورن
مؤسس ورئيس أسباير
21/8/2012
المصدر: مدونة يوسف الريماوي" همسات كنعانية"