بنت دار أبو فتحي - عبد الحميد شاهين

بواسطة قراءة 6446
بنت دار أبو فتحي - عبد الحميد شاهين
بنت دار أبو فتحي - عبد الحميد شاهين

فهذا سيد الدعاة وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم كان صدق حاله من أعظم ما استدل به بعض من آمن على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء عبدالله بن سلام رضي الله عنه، إذ قال بعد أن رآه: "فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب".

لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يؤتى بالوحي وخبر السماء من عند الله تباركت وتقدست أسماؤه، لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من عباد الله إلى الإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه، ومنهم من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره منه أو لمشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام لما رأوه من المواقف منه صلى الله عليه وسلم، واختار الله له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدق رسالته، وليقرأ في سيرته وهديه من سمع بدعوته؛ الصدق وسمو المنهج ، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين.

وكذلك كانت حال أصحابه ومن تبعهم ممن فتحت البلدان الكبرى بمجرد رؤية أهلها لأحوالهم وأخلاقهم، قل مثل ذلك -إن شئت- في ماليزيا وإندونيسيا، وقله في كثير من بلاد إفريقيا، فقد فتح المسلمون تلك البلدان، وتحولت كلها إلى بلاد مسلمة، لا بكتائب المجاهدين، ولا بقوافل الدعاة، ولكن بتجار المسلمين، فتأملوا!.

وعلى هذا؛ فربما كان نَفْعُ وآثارُ رَجُلٍ حسن السيرة لم يكمل المرحلة الابتدائية، أو لم يتعلم أصلاً أعظم من آثارِ كثير من حملة الشهادات الأكاديمية العُليا ممن لم يتعلموا العلم لينتفعوا به هم، أو لينفعوا به عباد الله، بل تعلموه لغايات أخرى، فكم التقيت برجال من هذا الصنف -لا كثرهم الله- كانوا إذا جلسوا في المجالس رفعوا عقيرتهم بالتفاخر بما يحملون من شهادات، وما شاركوا فيه من مؤتمرات ومناقشات، وكم تذكرت وأنا أستمع إلى البعض من هؤلاء قول القائل:

فلا تأمن سؤال الله فيه ** بتوبيخ علمت فما عملتَ

فرأس العلم تقوى الله حقا ** وليس بأن يقال لقد رأستَ

إذا مالم يفدك العلم خيراً ** فخير منه أن لو قد جهلتَ

وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ ** فليتك ثم ليتك ما فهمتَ

ستجني من ثمار العجز جهلاً ** وتصغر في العيون وإن كبرتَ

وتَذْكُر قولتي لك بعد حينٍ ** إذا حقاً بها يوماً عملتَ

وإن أهملتها ونبـذت نصحا ** وملت إلى حطام قـد جمعتَ

فسوف تعض من ندم عليها ** وما تغني الندامة إن ندِمتَ

(بنت دار أبو فتحي) لقب لفتاة سمعته يتردد في حَيِّنا كثيراً في بداية ثمانينيات القرن الماضي في سياق ذكر الزوجات الصالحات، ثم ما لبثت أن علمت أنها فتاة مسلمة من فلسطين، ولدت في العراق وعاشت فيه، كانت من دعاة الخير، دعت إلى الله وعَلّمت الناس، وقربت الكثير من أخواتها من فتيات الحي الفلسطيني الأكبر في العراق، حي البلديات، قربتهن إلى الله، ولكن بِصَمْتِها وفعلها لا بالكلام، وربما من غير أن تعلم ذلك أو تتعمده!...

لم أرَها ولا لمرة واحدة، لكنني سمعت كثيراً عن عملها الصامت، ودعوتها غير الناطقة!، وعملها لربها ودينها، ونشرها للحق، وتسببها في هداية الكثير من فتيات جيلها دون أن تحتاج إلى محاضرة أو دعوة باللسان والقول، ذلك أن الدعوة بالعمل أبلغ بكثير من دعوة اللسان التي يحسنها الأكثرون، أما الدعوة الصامتة بالعمل والإلتزام فقليلون هم من يقدرون عليها، إنما يصطفي الله تعالى لها من يشاء من عباده، وقد كانت (بنت دار أبو فتحي) إحدى من اختارهن الله تعالى لذلك في حَيِّنا الفلسطيني.

معظم فتيات الحي كن يغبطنها، ويتمنين أن يكُنّ مثلها، كن يغبطنها على مظهرها الإسلامي المميز، كن يغبطنها على حشمتها التي بلغت بها –كما قالت لي إحدى قريباتي مرة- أن تكون أقرب إلى الملكة المتوجة منها إلى فتاة من عادي الناس، كما كن يغبطنها على حيائها الذي كان يمنعها –كما تقول أخرى- حتى من مجرد التبسم أو الالتفات!.

كانت الفتيات المتحجبات قلة في ذلك الزمان، وأقصد بالمتحجبات الملتزمات بالحجاب الشرعي مظهراً وخُلُقاً، لا اللاتي ظَنَنَّ أن الحجاب ليس أكثر من قطعة قماش تضعها المرأة على رأسها وقُضي الأمر!!.

وكانت (بنت دار أبو فتحي) متحجبة بالمعنى الذي قصدته لا بالمعنى الثاني، لذلك كانت تلك الفتاة دائماً على رأس قائمة الاختيار عند غالب أمهات من يرغبون في الزواج من شباب ذلك الحي، ملتزمين وغير ملتزمين! فالكل كان يبحث عمن هي في عفتها وأمانتها وحشمتها.

تقول إحداهن لصاحبتها يوماً بحسرة: أردتُ أن تكون تلك الفتاة زوجة لابني، لكنه لا يستحقها!.

تصوروا أن تقول هذا الكلام امرأة من نساء هذا الزمان في حق فتاة تمنت خطبتها لابنها غير الملتزم! إن هذا لَعَمْرُ الله لمن النوادر، لكن إيمان والتزام وحرص تلك الفتاة دفع تيك المرأة إلى ذلك القول دفعاً وإن كان مراً.

لقد سمعت عن فتيات كثيرات التزمن بالحجاب الشرعي، وسألت بعضهن (عبر امرأة كبيرة في القدر والسن) -في استبيان مبسط في حينه- عن دوافع ذلك التحول في طريقة التعامل مع هذه الفريضة الربانية الغائبة، فجاءتني أغلب الإجابات أنهن تأثرن بمجرد رؤية (بنت دار أبو فتحي) التي لم يكن أكثرهن يعرفن شيئاً حتى عن اسمها!.

تقول إحدى الفتيات: "كنت إذا رأيتها تخيلتها عملاقة، وتخيلت نفسي صغيرة جداً، مع العلم أني لم أكلمها ولم أجلس معها يوماً، وكنت أتمنى ذلك، وقد كنت سمعت قبل ذلك عن الحجاب، وأن على المرأة أن تستر نفسها، سمعت ذلك من خطب ودروس المشايخ في الراديو والتليفزيون، لكنني لم أتأثر بما سمعت تأثُري بما رأيت، كان تأثري بمجرد رؤيتها أكبر بكثير مما تأثرت به من كلام المشايخ وغيرهم، لقد كنت أحسدها، وشيئاً فشيئاً تحول حسدي لها إلى محبة وغبطة" أ. هـ.

وسمعت شاباً في إحدى المرات يكلم صاحبه عن البنات (والحديث عنهن بمناسبة وبغيرها ديدن كثير منهم هداهم الله) وكيف إنه يستطيع التأثير على أي فتاة ببضع كلمات! فلما ذَكر له صاحبه تلك الفتاة الصالحة قال: لا.. لا.. إلا هذه! أنا كلما رأيتها تجنبت طريقها!! لأن لها هيبة واحتراماً عجيبين. ثم ختم كلامه بعبارة بأن دعا لها!: (الله يستر عليها).

إنني على ثقة تامة أن أختنا (بنت دار أبو فتحي) لم تكن تعلم أن هذا هو حديث الناس عنها، ولربما ما أهمها ذلك ولا شغل بالها ولا فكرت فيه أصلاً، لكنها كرامة الله التي يجعلها للخُلَّص من عباده وإمائه، أن يكونوا دعاة خير في صمت، وأن يهتدي الناس بمجرد رؤيتهم، وأن يثني العباد عليهم دون سعي منهم لهذا الثناء الذي يدفع غيرهم من أجله الأموال الطائلة.

تعتقد قلوب كثير من النساء هداهن الله على أن على البنات أن يكثرن من الخروج، وأن يتبرجن بالزينة، وأن يظهرن المحاسن طلباً لـ(ابن الحلال)! وينسين أن من بيده قلوب أبناء الحلال إنما هو الله جل في علاه، وأن ما عند الله لا يُنال بمعصيته، وأن أي فتاة مهما احتالت لنفسها، ومهما تذاكت، ومهما ظنت أن بإمكانها اختيار الأمثل من الرجال لنفسها، فإنها لن تَنال إلا ما كتب الله لها، ولن تتزوج إلا بمن قدر الله تعالى وكتب في علمه الأزلي أنه زوجها، رُفِعت الأقلام وجفت الصحف (والله يحكم لا مُعَقِّب لحُكمه).

نعم.. لا مانع من أن تطلب المرأة الزوج الصالح، وتسعى إلى ذلك، لكن ليس بمعصية الله، وقد يكون الله قدر لإمرأة ما رجلاً غير مرضي في دينه ولا خلقه، حتى إذا عادت إلى ربها وأسلمت نفسها وعقلها وقلبها إليه أبدلها الله به خيراً، أو ربما أصلحه لها، فأم الكتاب عنده سبحانه، وهو يمحو ما يشاء ويكتب ما يشاء ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) وقد قال مَن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : ( ... وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) رواه البخاري ومسلم .

وإنما قلت ذلك لأن الله تعالى كان قد من على تلك المرأة الصالحة بأحد خيرة الشباب الفلسطيني في بغداد آنذاك –إن لم يكن خيرهم- إيماناً وعقلاً وعلماً وسيرة، بل أقول أن الله تعالى من على كليهما بأن جمع بينهما، فكلاهما دعا إلى الله، لكن الفرق يكمن في أنها كانت داعية صامتة نطق عنها عملها، ونطقت عنها سيرتها!...

عذراً أيها السادة والسيدات، عذراً.. فالحديث عن الملوك ليس كحديثٍ عن غيرهم، حديث الملوك له حدود لا يمكن تجاوزها.

لم أعد أتذكر -بكل أسف- من هم (دار أبو فتحي) بالضبط، فقد اشتبه الأمر علي، وللسن أحكامه القاسية، إلا انني أتذكر منهم الأخ فتحي والأخ محمد، وكانوا يسكنون آخر مدخل من عمارة الحرية، ولم أسعَ إلى معرفة اسم تلك المرأة الصالحة احتراماً لحشمتها وحيائها ودعوتها الصامتة المؤثرة، التي يجب أن تكون درساً لفتياتنا اليوم في زمن تساهل فيه الأمهات والآباء والرجال والنساء والشباب والشيوخ، وتهاونوا، بل واستهانوا بنظرة الناس إليهم، فما عاد يهمهم قول الناس فيهم، ولا عاد يهمهم أهتدى الناس بسيرتهم أم ضلوا.

إنني أكتب للمرة الثانية عن امرأة مسلمة من نسائنا من فلسطينيي العراق، ولي الشرف في ذلك، ولا غَرو، ففينا والله من النساء لمَن تُرفع بأمثالهن رؤوس الرجال حتى تطاول الثريا، وما هذه المرأة الصالحة إلا واحدة منهن، أحسبها كذلك، والله حسيبها، ولا أزكيها على الله.

 

عبدالحميد شاهين

6/12/2013

 

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"