فرض قرار التقسيم رقم 181 من تاريخ 29\11\1947 الصادر عن الامم المتحدة ، ضم مدينة حيفا للدولة اليهودية المزمع اقامتها في فلسطين. وبدأت المنظمات العسكرية الصهيونية بتحسين خططها العسكرية لبسط وفرض سيطرتها على هذه المدينة . بينما كانت مؤسسات المجتمع المدني اليهودي في حيفا بواسطة دعم الوكالة اليهودية واللجنة القومية ( هفاعاد هلئومي) وغيرها من المؤسسات قد نجحت في الاستيلاء رويدا رويدا على المجلس البلدي ( اصبح شبتاي ليفي رئيسا لبلدية حيفا في العام 1940) ، واقام اثرياء يهود شبكات من المصانع والمحلات التجارية الهامة مستغلين تطور حيفا بفعل الميناء واتخاذ الانجليز هذه المدينة مركزا قياديا لهم في فلسطين وسواها من مناطق الشرق الاوسط. في واقع الامر سقطت حيفا بيد النفوذ الصهيوني قبل سقوطها الرسمي في ليلة 21 ـ 22 نيسان من العام 1948. فالتعداد السكاني لليهود بلغ في ذاك العام ما يقارب 70 الفا، بينما بلغ عدد العرب ما يقارب 65 الف ، أي ان اليهود تفوقوا على العرب ابناء المدينة الاصليين بنسبة تجاوزت الـ 50% . اضافة الى ان اليهود قد تبوأوا اهم المراكز وادق الوظائف وارفعها في الاجهزة الادارية التابعة للانتداب البريطاني، بينما حصل العرب على الوظائف الثانوية والهامشية . ومن جهة اخرى لم تبني القيادة العربية الفلسطينية او الخارجية سيناريوهات لمواجهة احتمال أي هجوم يهودي على الاحياء العربية في المدينة . في حين كانت المنظمات العسكرية اليهودية وفي مقدمتها الهاغاناه تدرس انتشار العرب في الاحياء السكنية ،وتضع الخطط الحربية والمخططات اللازمة لتفريغ المدينة من المواطنين العرب العائشين فيها منذ عشرات بل مئات السنين.
ومن جهة اخرى لقد كان للاحياء السكنية اليهودية تفوق كبير من ناحية الموقع الاستراتيجي على الاحياء العربية ، فاليهود استقروا في الاحياء المرتفعة على هضاب وتلال جبل الكرمل ، وهذا كان احد العوامل في سرعة سقوط المقاومة الفلسطينية الحيفاوية في ليلة السقوط. وعملت ادارة الانتداب البريطاني على تسهيل بناء المنظمات والهيئات العامة اليهودية في حيفا وسواها من المدن والمواقع الاخرى في فلسطين. واهتم الانجليز بتطوير قدرات اليهود الادارية والتنظيمية ، اضافة الى كون اليهود اصحاب خبرات في هذا المجال احضروها معهم من البلدان التي عاشوا فيها في اوروبا. ويبدو اليوم ان القيادة اليهودية للييشوف(تسمية الاستيطان والادارة اليهودية في فلسطين زمن الانتداب) قد عرفت معرفة جيدة المواعيد التي حددتها قيادة الجيش البريطاني لمغادرة المدن الفلسطينية ،على ان تكون حيفا اخرها ، اذ ستكون المغادرة الكبرى عبر الميناء. ولكن حصل العكس ، اذ ان قائد لواء الشمال في الجيش البريطاني الجنرال هيو ستوكويل قد اخبر قيادة الهاغاناه ان جيشه سيترك معظم القواعد الحربية في حيفا في 21 نيسان أي قبل الموعد الاخير في منتصف ايار ، وعرفت القيادة العامة للهاغاناه بهذا الامر فجهزت فرقها المدربة جيدا والمدججة بالسلاح ونظمت هجوما كاسحا في حيفا على الاحياء العربية في ثلاثة مواقع اساسية ، عرفت هذه الحملة بـ " المقص" ( مسبراييم) . الموقع الاول كان في بيت عائلة خوري ( حيث بناية الانبياء) وكانت فيه معركة قاسية ، انتصر فيها جنود الهاغاناه بعد مقاومة عنيفة من المقاومين الفلسطينيين ومتطوعين عرب من خارج فلسطين.
والموقع الثاني في شارع اللنبي قرب مفترق شارع الملك جورج الخامس( همجينيم اليوم) . والموقع الثالث في الحليصا في بيت النجادة حيث كانت المعركة ضارية للغاية . وفي نهاية اليوم الثاني للمعارك سقطت حيفا بتاريخ 22 نيسان 1948 بيد القوات اليهودية . ولكن ما كان هذا السقوط ليتم لولا ان القوات اليهودية قد قامت بسلسلة من الخطوات المسبقة ، حيث استغلت قرار التقسيم وبدأت بقصف الاحياء العربية بالقذائف ودحرجة براميل تحتوي على متفجرات ن وتنفيذ عمليات ارهابية وتخريبية في الاحياء العربية مثل تفجير سيارات مفخخة في شارع العراق ، والتعرض للمارة بالقتل والضرب والتعذيب وغيرها من العمليات الارهابية والترهيبية التي نفذتها فرق من الهاغاناه والايتسيل. هذه الخطوات بين موعد صدور قرار التقسيم وموعد سقوط حيفا عسكريا اضطرت مئات من العائلات الى ترك المدينة حماية لأبنائها ،واعتقادا منها ان هذه الحالة لن تدوم كثيرا . ولكن الامر تفاقم جدا في اعقاب فشل القيادة العسكرية العربية من احضار ذخيرة ومواد حربية لدعم المقاومين الفلسطينيين والعرب في صمودهم في وجه قوة الهاغاناه. امام هذا الانهيار وانتشار الخوف الشديد انهار المجتمع العربي الفلسطيني الذي فقد امانه ووطنه . وكان لانباء مجزرة دير ياسين التي وصلت الى الاحياء العربية في حيفا الاثر البالغ في اثارة المزيد من الرعب في صفوف المواطنينن مما دفع بالكثير من العائلات الى الهرب عبر الميناء الذي فتحت بواباته على يد الانجليز وبتواطىء من قيادات عربية محلية منتفعة ماليا ، وكذلك وجهت القوات البريطانية المواطنين العرب الفارين الى البوابة الشرقية قرب جامع الاستقلال لمغادرة المدينة بباصات وشاحنات تم تنظيمها جيدا لمثل هذه الفرصة ، وكان من بين شركات الباصات التي ساهمت في عمليات نقل اللاجئين والفارين شركات عربية تعمل الى اليوم وتدعي انها شركات وطنية !! وفرضت قيادة الهاغاناه شروطا مذلة ومهينة على المواطنين العرب وكان ستوكويل هو الوسيط بين الهاغاناه والعرب بدلا من ان يعمل على حماية المواطنين العرب من هجمات واعتداءات الهاغاناه. وبعد ان تبين للقيادة اليهودية حجم التفريغ الذي حصل للمواطنين العرب في حيفا قاموا بعملية ارهابية اخرى تحت اسم " بيعور حميتس" أي حرق الممنوع قبل الفصح العبري ، وهذه العملية تعني تنظيف كافة جيوب المقاومة وتفريغ نهائي للاحياء العربية المتبقية في المدينة وتجميع قلة من العرب في حي وادي النسناس في ظروف رهيبة للغاية.ويدعي كثيرون من اوساط المؤرخين اليهود او المتنفذين سياسيا ان رئيس البلدية شبتاي ليفي قد وجه نداء الى المواطنين العرب طالبا فيه الا يدعوا جمهورهم يترك المدينة كي يعيش الشعبان سوية. ولكن هذا النداء لم يصدر الا بعد ان انجزت عملية تفريغ المدينة والسيطرة على بيوت العرب وممتلكاتهم وخيراتهم وثرواتهم الغالية ماديا وانسانيا.
سقطت حيفا بصورة غامضة للغاية ، وحتى اليوم لا نعلم السر في سرعة سقوطها ولماذا . اذ كان من المفروض ان تتمترس فيها فرق مقاومة كثيرة لكونها بوابة فلسطين ومن اهم مدنها الاقتصادية والتجارية .
اننا في هذه المناسبة نحيي ذكرى سقوط شهداء حيفا الذين قاوموا وصمدوا في وجه هجمات الهاغاناه لكونهم احبوا مدينتهم وتفانوا في حبهم لها حتى بذلوا نفوسهم فدية عنها . يستحقون لحظة واحدة من الذكرى والتذكر والتقدير.
الدكتور جوني منصور
كاتب فلسطيني مقيم في حيفا
الجمعة ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥
المصدر: منتديات صوتك حتى العالم يسمعنا
نشر بتاريخ: 14 حزيران 2006