كي لا ننسى: كيف سقطت حيفا بيد اليهود؟- سلمان ناطور

بواسطة قراءة 6477
كي لا ننسى: كيف سقطت حيفا بيد اليهود؟- سلمان ناطور
كي لا ننسى: كيف سقطت حيفا بيد اليهود؟- سلمان ناطور

كان ذلك في نيسان 1948 .. في  هذا الشهر الربيعي .. كان جنود بريطانيا يجمعون أمتعتهم ، بعد أن سلموا أسلحتهم لقوات الهاجانا ، واستعدوا لمغادرة هذه المدينة التي انتعشت فيها التجارة وازدهرت في السنوات الخالية. وأول خبر وصل عن دير ياسين روى كيف كان الجزارون يشقون بطن المرأة الحامل ويمزقون حناجر الأطفال ويطوفون بجثث القتلى عند باب الساهره .. وإذاعة الملك عبد الله وبريطانيا العظمى ترعب قلوب الناس بما سيفعله اليهود للعرب الذين سيبقون في بيوتهم .. كانت مدافعهم تقصف المدينة من عمارة البرج ، هرب اليهود لمنطقة الهدار .. وظل العرب تحت القصف المركز ، وصرير المدافع .. وسمعوا نداءات تقول لهم :

ابقوا في بيوتكم ولا تغادروا الوطن ! لكن المدينة الحالمة أفزعتها "بومباية" (قنبلة) سقطت على المحطه ، وأخرى على الساعة التي كانت "تشبه ساعة لندن " ، وأخرى بهيئة برميل معبأ بالبارود دحرجوه على الدرج النازل الى وادي النسناس وأخرى .. وأخرى .. وأخذ جيش الهجاناه ينظف الاحياء العربية من أهاليها.

 .. "كان الانجليز يدخلوا على البيوت ويسألونا : بعدكم قاعدين ؟ اليهود راح يدبحوكم اذا بقيتم في بيوتكم ! احملوا أغراضكم ويالله عالبور ..

الانجليز لعبوا اللعبه القذره .. من جهة يصرحوا أنهم بيدعموا الملك ضد اليهود ومن جهة ثانية ما تركوا قطعة سلاح الا وسلموهم اياها .. وكانوا يساعدوهم على تهجيرنا .. كل ما شافوا عربي كانوا يسوقوه للجمارك . جمعوا العرب عند المينا وأغلقوا عليهم خط الرجعه .. وصارت هالقوارب تحمل وترمي في صور وصيدا ، الناس كانت مرعوبه .. من الاخبار اللي سمعوها عن معاملة الجيش .. تركوا بيوتهم مثل ما هي .. الخبز في الفرن .. والطبيخ عالنار .. السوق تركوه مفتوح ، صارت توصل سيارات وتحمل في البضاعه ، نهبوا كل شيئ ، القمح والاكل وأدوات الكهربا .. وهدموا بيوت جديده وباعوا حديدها وحجارها للناس .. أنا وزوجتي وأولادي تخبينا في دار القلعاوي .. قلت : والله باقي حتى لو ذبحوني أنا وأولادي وعملوا منا سرسيسو .. كنا نبعث الولد ناحية الحسبه ليطل على جيوش الملك عبد الله اذا وصلت مثل ما وعدنا .. العلامه على رؤوسهم طاقية فيصلية وعلى رأسها حربة .. لا شفنا طواقي ولا ما يحزنون .. راحت علينا وعلى اللي ركبوا في الشخاتير .. بعد يومين رجعت على دارنا ، لقيت الدار فارغه وما فيها شي .. شفته في عيني .. كان ختيار اشكنازي فرغ الدار وما ترك فيها غير ورقة النفوس .. قلت في نفسي ، يالله ، على الأقل حافظوا على أسماء أولادنا . " .

حيفا لم تمسح من خريطة هذا الوطن. لكن معالمها تتغير وتتبدل ، حيفا عتيقة وحيفا جديدة .. واحدة نعرفها نحن وواحدة لا يعرفها الا أولئك الذين تمر في ذاكرتهم أيام البوابة الشرقيه وسوق الشوام وبندر التجار والقشلي .. كما مرت السنوات الطويلة .. نذكر الكثير وفي الذاكرة تهترئ أكثر الاشياء .. تختفي ، يأكلها صدأ هذه الايام ، تتحول الى صور وخيالات تنخز في القلب وتجرح العاطفة ، وماذا نطلب من شيخ تشقق وجهه ، وينتظر قدوم الساعة أو أن يفرجها ربك مع "هالـ ... حرمونا نعمة الحياة ، وقطعونا ، ومزقونا وشتتوا أولادنا " ..

وكيف يمكن أن نسجل كل شيئ عن حيفا ؟ قلنا ، نذكر القليل ، القليل ، لعل شيخنا العربجي ينبش معالمها المخفيه ، في الذاكره ، أو على أطلال جامع الجريني أو حمام الباشا الذي تلمع على سطع قبته نتؤات الزجاج الازرق كلما طلعت الشمس ومسحت خيوطها عامود فيصل الرخامي ، الذي أقيم على قبر الشيخ مبارك.

"أهالي حيفا القديمه ، كانوا فقراء ، حجّاره وصيادين سمك .. كانوا يقلعوا الحجار من وادي رشميا ويبيعوها ، وبعدين لما جاء الانجليز ، ووسعوا البور (الميناء) صارت العالم تشتغل في البور .. رفعت كان صياد ماهر ، "فش منه وقدام " كان عنده حمار أسود ، يوقف على ظهر الحمار ، ويمد نظره للبحر ، كان يشوف أفواج السمك جاي ، يرمي شبكته ، ما تفلت منه ولا سمكه .. راحت الايام وإجت الايام ، وهالبحر صار يجيب ناس ويقذف ناس ، "ولانشات " دار أبو زيد تحمل هالعرب.

لوين ؟ لمينا عكا..  

لوين ؟ لمينا بيروت ..

لوين ؟ لمينا صيدا ..

لوين ؟ لجهنم الحمرا .. "

جاري في حارة الكنايس كان الشيخ عز الدين القسّام .. أصله من اللاذقيه .. كان فقير ورجل دين تقي يهدي علي ويوعظني ، لأني كنت أشرب كثير ، كل المشايخ كانوا ضده : الحج خليل وحسن بك وابراهيم بك وسليمان بك الصلاح والحج عبدالله ، كلهم كانوا ضده. ليش : لأنه فقير حربجي بده يحرر هالبلاد ، جماعته كلهم الفقراء والفلاحين المقطعين ، هون .. منا يا هالفقرا .. قتلوه الانجليز .. هو وجماعته ، حصدوهم في يعبد .  

حدثنا الشيخ المشقق الوجه عن ساحة الحناطير ، "كانت مثل محطة التكسيات هالعربات والحناطير واقفه تنتظر .. واحد رايح على المحطه يدفع عشر قروش ويركب .. واحد رايح على أم الجمال .. على الشونه .. أم العلق .. الخريبه .. الياجور .. المراح .. بريكه .. الغيبه .. كان يركب معنا ونوصله " ..

 

من ذكريات الكاتب الحيفاوي

سلمان ناطور

 

المصدر: موقع حيفا نت