وقفات تدبرية في سورة السجدة (27)-أيمن الشعبان

بواسطة قراءة 7194
وقفات تدبرية في سورة السجدة (27)-أيمن الشعبان
وقفات تدبرية في سورة السجدة (27)-أيمن الشعبان

قال تعالى( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ).[1]

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ لَمَّا بَيَّنَ الْإِهْلَاكَ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ بَيْنَ الْإِحْيَاءِ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِيَدِ اللَّهِ، وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الْيَابِسَةُ الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا.[2]

واختير المضارع في قوله نسوق لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على القدرة الباهرة[3]، الدالّ على التجدّد والاستمرار، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب، فينزل منها المطر على الأرض (الجرز).[4]

والسوق يكون تارة للسحاب كما في قوله سبحانه ( والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ )، إذ تسوق الرياح السحاب فتنقله إلى حيث يأمرها الله، ثم يسوق الماء من السحاب بإنزاله إلى الأرض، ثم يساق إلى الأنهار، ويسلكه ينابيع في الأرض.

وكلمة جرز فيها قوة، تتناسب مع مادة السورة وموضوعها اليقين والخضوع.

قَدَّمَ الْأَنْعَامَ عَلَى الْأَنْفُسِ فِي الْأَكْلِ لِوُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الزَّرْعَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ يَصْلُحُ لِلدَّوَابِّ وَلَا يَصْلُحُ لِلْإِنْسَانِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ غِذَاءُ الدَّوَابِّ وَهُوَ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَأَمَّا غِذَاءُ الْإِنْسَانِ فَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّ الْحَيَوَانَ يَأْكُلُ الزَّرْعَ، ثُمَّ الْإِنْسَانُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَيَوَانِ.

الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّوَابِّ وَالْإِنْسَانُ يَأْكُلُ بِحَيَوَانِيَّتِهِ أَوْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَمَالُهُ بِالْعِبَادَةِ.[5]

أَوْ بَدَأَ بِالْأَدْنَى ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الْأَشْرَفِ، وَهُمْ بَنُو آدَمَ.[6]

وَجَاءَتِ الْفَاصِلَةُ: أَفَلا يُبْصِرُونَ، لِأَنَّ مَا سَبَقَ مَرْئِيٌّ، وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهُ مَسْمُوعٌ، فَنَاسَبَ: أَفَلا يَسْمَعُونَ.[7]

من هداية الآية:

كمال وعظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيوميته على الخلق من قوله " نسوق".

هذه آية نشاهدها جميعاً، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عَزَّ وَجَلَّ.[8]

في الآية السابقة والتي معنا تذكرة بليغة في الموت والحياة، فكما أن الأرض تموت ثم تحيا بالماء، كذلك أنت يا إنسان ستموت وتفارق الدنيا، ثم يبعثك الله مرة أخرى لتقف بين يدي الله سبحانه في مشهد عظيم للحساب.

يصور لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية مشهد عجيب لكمال قدرته وتمام تدبيره، فكأن الرياح تسوق السحاب كالسائق للدابة، ثم ينزل الماء منها إلى الأرض الجرز!

نعم الله ومننه علينا كثيرة وعظيمة، وهنا يذكرنا منها إحياء الأرض التي مات نباتها أو يبس، للنتفع من ثمرها وحبها.

في الآية إشارة وتشبيه القلوب القاسية التي لا تنتفع بالمواعظ والآيات، بالأرض الجرز التي لا نبات فيها فهي ميتة كالقلب القاسي ميت.

قال ابن عطاء فى الآية نوصل بركات المواعظ الى القلوب القاسية المعرضة عن الحق فتتعظ بتلك المواعظ.[9]

من تمام رحمة الله بنا أن جعل الأرض عبارة عن خزان كبير للماء، حتى نجده عند فقده لا أن نفقده عند وجوده!

ينبغي لطالب الحق ومنشد الاستقامة الاجتهاد في العبادات والطاعات، فكما أن الأرض الميتة تحتاج للماء باستمرار حتى تنبت وتحيا، كذلك القلب يحتاج للعبادة الدائمة حتى ينتعش ويحيا.

فرق بين قلب ميت لا تنفع فيه موعظة ولا تذكرة، كالأرض السبخة التي لا تنبت نباتا البتة، وهنا مصداق قوله تعالى( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )، وبين قلب ضعيف الإيمان لو ذكرته ذكر، وزجرته انزجر، وكررت عليه الموعظة استجاب وتذكر، كالأرض الجرز.

أهمية تخول الناس بالموعظة وعدم تركهم غافلون لاهون ساهون، فكما أن الأرض الجرز تحتاج للماء، فالعصاة والمبتعدون عن صراط الله يحتاجون للموعظة من العلماء والدعاء والوعاظ.

تشير الآية إلى أهمية شكر النعم، بعد مشاهدتها والنظر إليها والاعتبار الذي ينتج عنه بصيرة، ثم شكر لله على نعمائه، بطاعته وامتثال أوامره.

أهمية النظر لنعم الله المشاهدة وعجيب صنعه ومخلوقاته وإتقانه، فإنها ترقق القلب وتثبت الإيمان بعد التأمل والتفكر والتدبر.

اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك.

 

14/9/2015



[1] (السجدة:27).

[2]مفاتيح الغيب.

[3]ابن عاشور.

[4]الشعراوي.

[5]مفاتيح الغيب.

[6]البحر المحيط.

[7]البحر المحيط.

[8]الشعراوي.

[9]روح البيان.