رحلة الخروج من الجحيم – الحلقة الثانية – عيسى الحسن

بواسطة قراءة 2372
رحلة الخروج من الجحيم – الحلقة الثانية – عيسى الحسن
رحلة الخروج من الجحيم – الحلقة الثانية – عيسى الحسن

هل كانت السنة سنة انفصال البحر عن مدن الرماد كما يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش؟
ترى ما الذي يمكن أن يبقى من الرماد إذا ما خالطه موج البحر ثم انفصل عنه؟ هل يدرك العرب، حكاما ومحكومين، أن الفلسطيني وقضيته كانا على الدوام ملح طعامهم، وخبز يومهم، ورداءَ سترِ عوراتهم، والسقف الذي يظلهم، رغم أن الفلسطيني نفسه لا سقف له يستظل به!
هل يدرك العرب، حكاما ومحكومين، أنهم حينما يقتلون الفلسطيني وقضيته إنما يقتلون أنفسهم، وأنهم ما زالوا يعانون في كل بقاع أرضهم المترامية الأطراف منذ أكثر من ستين عاما لأنهم اعتبروا الفلسطينيين وقضيتهم حملا لا ينبغي عليهم أن يحملوه؟!

وهل يدرك العرب، حكاما ومحكومين، أن المعادلة ليست معادلة ضعيف وقوي أو فقير وغني؟ وأن الرماد أوهن من أن يقاوم موج البحر؟!

هل يدرك العرب، حكاما ومحكومين، ان قوة الفلسطينيين تكمن فيما يراه الناس ضعفا فيهم، وأن غناهم يبزغ من بين مظاهر فقرهم، وأن صمودهم مختزن في شتاتهم؟! وأنهم ما تصنّعوا ذلك يوما، ولكنهم كانوا قساة على أنفسهم قبل أن يقسوا عليهم الآخرون، وأنهم كانوا وما زالوا قانعين راضين بالذي كتب عليهم ولهم، فلم يزدهم الفقر والقلة إلا ارتفاعا وشموخا وعزة نفس، وأنهم خبروا القوة والضعف فاختاروا قوة الإرادة على قوة الجسد، فكانت وحدة الإرادة وإرادة الوحدة هاجسهم وطريقهم حتى أصبح شتاتهم عنوانا لوحدتهم وليس لذوبانهم؟

نعم، كانت السنة (سنة 2003) سنة انفصال البحر عن مدن الرماد. وكان على البحر أن يصرخ بهديره معلنا انه قد آن الأوان لكي يعرف العالم كله ان من يدعون أنهم يحملون همّ فلسطين وقضيتها انما يتبجحون بذلك لكي يواروا سوآتهم وخيانتهم وجرائمهم، والا فما معنى ان تضيق الارض العربية كلها على ثلاثين الف فلسطيني هم كل من امتصهم جرس النسيان في العراق على مدى نحو ستين عاما، فلا يجد الفلسطيني "الهارب" من الجحيم في العراق مأوى له حتى على تخوم صحراء الحدود بين الدول التي تدعي العروبة والتفاني من أجل فلسطين والأقصى؟ وما معنى أن يقبع الفلسطيني هو وأطفاله بلا طعام وشراب كباقي البشر وبلا حياة ولا تعليم ولا علاج ولا أمل بالمستقبل لسنوات وسنوات خلف أسوار من الأسلاك الشائكة وتحت عامود خيمة لا يعرف متى ستسقط على رؤوس أطفاله أو متى سيجتاحهم سيل المطر أو حريق الصيف، لكي "ترأف" بحالهم بعد ذلك دولة "أجنبية" لتغرِّبهم من جديد، وليتجرعوا مرة أخرى مرارة الغربة والحرمان والتشرد والموت في أرض بعيدة عن أرضهم آلاف الأميال لأن أبناء جلدتهم رفضوا وجودهم بينهم؟

أليس هذا بحد ذاته كافيا لكي يعرف العالم أن خطابات الحرص على فلسطين وقضيتها وأهلها ما هي إلا كذبة كبيرة آن لها أن تنكشف.

ولكن، لماذا بدأ الفلسطيني "يهرب" من جحيم العراق بعد عام 2003؟ سؤال لطالما وُضِعَتْ مشروعيته على المحك.

إذ أنه أول سؤال يقفز إلى ألـْسنةِ المشككين بحق الفلسطيني في الحياة.

ولنُعِدْ صياغة السؤال بلسانهم هذه المرة.

يقول السؤال: لماذا رضي الفلسطيني بالعيش في العراق عندما كان آمنا، وعندما أصبح "الأمن" فيه على المحك بدأ الفلسطيني بـ "الهروب"؟

هل هو سؤال مشروع حقا أم أنه تشكيك بقدرة الفلسطيني على الصمود في الظروف الصعبة؟
يرجعني هذا السؤال إلى مقالة للكاتب الإيطالي كونسيليو باولو كان قد كتبها بعد نكسة حزيران عام 1967 محاولا الأجابة من خلالها على السؤال عن أسباب هجرة الفلسطينيين بشكل مكثف بُعيد عدوان حزيران الذي تصادف ذكراه الثالثة والأربعون هذه الأيام.

يقول باولو: ترى ما الذي جعل الفلسطينيين، بعد أن احتلت "إسرائيل" كامل الضفة الغربية عام 1967، وأصبحوا عمليا خلف المدافع الإسرائيلية، ما الذي جعلهم يجمعون رحالهم ويرحلون ليحطوا أمام فوهات المدافع في الضفة الشرقية للنهر؟

ويجيب باولو على السؤال بالقول: لا بد أن أمرا عظيما ذلك الذي يجعل الانسان يهرب من خلف المدفع ليجلس امام فوهته.

نعم، إنه أمر عظيم ذلك الذي جعل الفسطيني يذهب الى المجهول تاركا خلفه بيته ومتاعه وتجارته وماله وأقرباءه وحياته كلها.

ليس الخوف من الموت هو ما جعل الفلسطينيين يبدأون بالخروج من العراق زرافات ووحدانا بعد عام 2003، إذ أنهم يعرفون أنهم ميتون لا محالة، ذلك أنهم يؤمنون بقضاء الله وقدره ويعلمون أن الموت حق ولا بد أن يردوه.

لقد كانوا وما زالوا يدركون أنهم بخروجهم إنما يذهبون الى المجهول، والمجهول، في مقاييس الخوف والشجاعة، أخطر من الموت وأكثر رهبة، ومع ذلك خرجوا ويخرجون.

ما هو السر إذن؟

ولماذا يهجر الفلسطيني الحياة التي بناها ليذهب الى المجهول؟

في الحلقة المقبلة لنا لقاء إن شاء الله.

 

عيسى الحسن

5/6/2010

 

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"