(( قول كلمة الله أكبـــر كادت تقتلني ويا ليتها فعلت))
هذه مقدمة وتمهيد لسلسة مقالات لاحقة سأتكلم فيها عن بغداد وما جنينا، والمخيمات وما عانينا ، والغربة والاغتراب التي يا ليت ما كتبت علينا!
في سنة ما .. في شهر ما .. في يوم ما .. لم تعد الذاكرة تتحمل من ثقل أحمالها.. ولا تحتمل لأكتنازها بما هو أهم من كثرة سؤالها.. ولم يعد العقل يلبي مطالبنا حين نناشده كي يسترجع بنا ما كنا عليه.. أو يستحضر ما أصبحنا فيه.. أو يقفز خطوة إلى الأمام ليرينا ما سنؤول اليه.. لذا شطبنا كل ما اختزنته بأمر منا.. وبرغبة ملحة منها.. فايً منا انصاع لطلب الآخر لم نعد نعرف .. أهو لأننا عن قصد لا نريد أن نعرف حتى لا نعرف؟! أو لأننا وهي أمسينا في وئام دائم.. ما دامت الذاكرة فينا غاصت بسبات مستمر؟! لذا ركناها جانبا للحظات كي نستمر وإن كنا مثقلين بالجراح.. لأن الحياة ما خلقت للمتسمرين في أماكنهم.. ولا الأيام ترحم الواقفون دون حراك ... لكنه في غفلة منا تفتق الذهن.. حتى بات ينزف خارج حدود التواريخ والأزمان والأماكن.. ليخط بذراعه ما اعتمرت به الذات الفلسطينية في العراق.. وليكتب ما حل بتلك الذات.. ولما استطابت رمال الصحراء على زفت الطرقات المعبدة.. والتحفت السماء وافترشت الأرض تحت خيمة متهرئة.. لتلبس جلودها عزا وهي على مرمى حجر من أولاد عمومتها.. جاعلاً من جحور الأرض قصورا لما تبقى من أسرها.. صارخا يدوي جرحاً ما توقف نزفه لثانية.. حتى صاحبه مل منه لأنه لم يكف يوما عن نزفه.. وهو مل من صاحبه لطول حمله وصبره واحتماله له.. ما سمعنا ولا سمعتم يوما عن جرح يتكلم.. نعم علمنا أن حامل الجرح يتألم.. لكن الجراح الفلسطينية جاءتكم اليوم لتتكلم.. وبلسان عربي فصيح لتهزكم من أكتافكم.. لتصيح قبل أي منكم عن عرشه يطيح.. أو يصحو يوما ليرى في مرآته وجهه القبيح.. جاءكم جرحنا ليقول لكم ... هبوا من قبوركم.. وانفضوا عنكم ماعلق من تراب على حرير أكفانكم.. لأن أعز فقيد هو الضمير.. وأضيق القبور هي الصدور.. وأسود السواد تغييب العقل.. وأقبح البياضات تغليب اللا عقل.. وأعفن الجثث قلب ميت.. وأنتن الجيف لسان يسلق الكذب حتى نضج.. لذا جاءكم اليوم ليقول:
أن سنين وأشهر وساعات العذاب والخوف والمهانة.. ولحظات فقدان الكرامة.. و ومضات استباحت الإنسان لأخيه الأنسان.. والتي سعت الذاكرة لمحوها.. واستماتت الذكريات كي تنسينا إياها.. ويا ليتهن استطعن.. حبلت الأيام.. لتتراكم الأحزان..و تتواصل الآلام.. وتتشظى الهموم .. وفي عز صيف بغداد القائض.. ترى سمائها ملبدة بالغيوم.. منذرة بمطر أسود.. يحمل بين ثناياه عبق دمائنا.. وشمس ظهيرتها شمرت عن ساعديها لتسهم في إيقاد النار كي تنضج لحومنا .. ولحضات المغيب تأتي ثقيلة معلنةً أسماء المغيبين من أبنائنا.. هي لحظات وتسمع البكاء المر والعويل الأمر معلنا عن أسماء من خطف أو من قتل أو من ذهب صباحاً لكنه لم يعد.. لتمني النفس ولعله زرع هناك في غيابات الجب.. أو أنه قدم أضحية لهذا المساء.. أو أصبح وجبة شهية لكلاب الطرقات.. وهو الآن يسأل من قبل ملائكة السماء..
والأرض تنبت بالمزيد من مناجل الحقد لتحصد رقابنا.. والريح الصفراء القادمة من مشرقها محملة بشتى أنواع العذاب.. وعواصف الغرب جائت تحمل لنا شهادات وفياتنا وليس حلوى لصغارنا ملأها السموم.. والقادم من الأيام كان ينذر دوماً بتسريع عجلة الموت للقدوم نحونا ساحقة كل ذكرياتنا.. فلا مجال اليوم لا لحاضر مشرق ولا لمستقبل رغيد.. فماضينا هو قاضينا .. وحاكمنا هو جلادنا.. وحبال الود والمودة بالأمس علقت اليوم لتكون مشانقاً لما تبقى من أعمارنا.. والحقد الدفين والغدر المعلن يلوح بكلتا يديه هلموا يا فلسطينيو العراق فاليوم يومكم.. وزفير حز الرقاب ينظر لأعناقنا بشغف.. وشهيق حب الحياة قد فر بعيداً و ولى بغير رجعة.. وعيون الذئاب جاحضة لتحدق بنا نحن فلسطينيو العراق.. لا لشيء اقترفناه.. ولا لذنب لم نستغفر ربنا على فعله!!
يكفي أنك فلسطيني فلا مفر من الموت سوى الارتماء بأحضان الموت.. فلم يعد متسع للحياة.. حيث أصبح الموت زادنا.. تارة نلوكه ولا نستسيغه.. وتارة يلوكنا ويستسيغنا.. هي لعبة الحياة في بلد لم تعد الحياة فيه تعني شيئا.. فالفلسطيني إن لم يكن شاهد فهو شهيد ولكن على قائمة الأنتظار!
كيف لا ؟! إنه موسم الحصاد.. والسنابل قد أينعت.. والرؤوس قد اشرأبت على الأعناق.. لا مفر من الموت سوى الارتماء بين أحضانه.. لم يعد لنا منجى ولا مغيث ولا منقذ سوى الله.. فهو ناظرنا وناظرهم..
كيف لا ؟! إنه موسم جني الثمار.. وبرتقالات أعمارنا قد نضجت.. وعناقيد أرواحنا نضجت ولابد من جنيها..
كيف لا ؟! وموسم شم النسيم قد حل.. وزهور أطفالنا قد تفتحت.. لتبعث في الجو عبق عبيرها ..
كيف لا ؟! إنه زمن هتك الأعراض.. لكن هيهات ان يمس طرف ثوب لبناتنا..
كيف لا ؟! ولا عروبة لمن كان عربي.. والعقال يجب أن يداس..
كيف لا ؟! والناطقين بالشهادتين هم اصبحوا أشر الناس!! ولابديل سوى تهشيم أسنانهم وإخاطت أفواهم وليس تكميمهم..
كيف لا ؟! وكلمة فلسطيني تذكرهم بعارهم مثلما تذكر شرفائهم بالفخر.. فللعار والفخر وجهان لعملتين مختلفتين ..
إذا ما نظر الى الشريف ...قال مزهوا ما أشرفك.. وإن نظر الى العــار .. قال زدتني عار بشرفك..
نعم إنه غم وهم وظلم وجور وعدوان وأفواه ملئت بالدماء.. نعم هذا ما حصل.. وهذا الذي جرى.. وهذا الذي كان.. فيالَ بأس فعلكم.. وعار العار لما اقترفتم وما أنت يا هذا سوى إنسان .. فاسأل ذاتك ولو مرة واحدة أحقا أنك إنسان؟
يا من استعذبتم أنين الثكالى من نسائنا.. وطربتم لصوت تهشيم عظامنا.. وانتشيتم لعبق دمائنا.. هل راقكم صوت بكاء أمهاتنا؟! وطربتم لصرخات خوف وفزع ورعب حناجر أطفالنا؟!
إليك أهدي قصة شعب تخلى عنه كل شيء عندما تمسك بكل شيء إنه خالقنا وخالقكم.. لذا الله بقي في قلوبنا.. لذا بقي الله معنا.. هذا ما لم تستطيعوا اغتياله من ضمائرنا.. يالَ بؤسكم قد نسيتم خنق إيماننا بالله.. وعجزتم عن قتل حبنا لنبينا.. وسقط في زحمة هيجانكم أننا فلسطينيون ..
الموت منذ الأزل قماطنا ولم يزل.. وما الحياة كانت وستبقى سوى دثارنا.. وبعدما تتعرى نفوسكم ستدركون أنكم بدوننا أصبحتم عراة في وضح النهار.. وبعدما تركنون في حفرة الموت ستعلمون أي منقلب ستنقلبون.. فيا عاركم ويالَ فخرنا..
وللحديث بقية .. إن كان هنالك بالعمر بقية إن شاء الله ..
بقلم / جمال أبو النسب
الولايات المتحدة الأمريكية - كاليفورنيا
2011/01/10
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
هذه الصور حصرية لموقع" فلسطينيو العراق" فلا يجوز إعادة نشرها بغير ذكر المصدر