ملاحظة من اللجنة العلمية بالموقع: لكثرة هؤلاء وانتشارهم وتفشي هذا المرض العضال والداء الخطير، واستشراء الأضرار المترتبة على ذلك وتضييع الحقوق والمبادئ والثوابت، وللتحذير من هذا المرض الفتاك وتنبيه جميع الزوار والقراء منه، ولتعميم الفائدة ارتأينا نشرها.
الانتهازيون "1 " – د. محمد الكثيري
هذه المقالات المتسلسلة تتناول فئة اجتماعية لها قيمها وسماتها وطريقتها في التفكير التي تميزها، بل لها أهدافها وأولوياتها التي تختص بها، وتنعكس على أساليبها ووسائلها وسلوكيات أفرادها، كما أن لها انتشارها وأثرها , فهي تتغلغل في حياتنا الاجتماعية بشتى مجالاتها؛ الإدارية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية..، وتقدم هذه الصفحات إجابات – مقترنة بالشواهد والأحوال – لعديد من التساؤلات حولها:
من هو الانتهازي؟ وكيف نكتشفه؟ وأين نجده؟ وما هي أساليبه؟ وما مقومات شخصيته؟ وما هو الأسلوب الأمثل للتعامل معه؟ وهل من السهولة أن يصبح المرء انتهازياً دون أن يشعر؟
الانتهازية في اللغة:
مصطلح مشتق من الفعل الثلاثي (نهز) بمعنى دفع وحرّك، والنُّهْزَة: الفرصة تجدها من صاحبك، والمناهزة: المبادرة، يقال ناهزت الصيد فقبضت عليه قبل إفلاته، وانتهزها وناهزها: تناولها من قرب وبادرها واغتنمها، وانتهز الفرصة أي اغتنمها وبادر إليها.
وهي بهذا المعنى خُلُق محمود، وأمر مطلوب شرعاً وعقلاً، فما أكثر ما ورد من النصوص في القرآن والسنة وأقوال العلماء والأئمة التي تحث على المسارعة والمسابقة لعمل الخير والتنافس فيه والمبادرة بالعمل الصالح، والإنسان العاقل هو الذي يغتنم الفرص ويستثمرها لتحقيق أهداف سامية ومثل عليا، أو مصالح ذاتية تكتسب بأساليب مشروعة، فهذا كله عمل مشروع بل واجب شرعي لا يليق التفريط به.
لكن عندما يكون تحقيق المصلحة الذاتية على حساب مصالح عليا أو أهداف سامية، أو يكون ثمنه تقديم قرابين بريئة أو على حساب كدح الآخرين أو الإضرار بهم فهذا هو الانتكاس والارتكاس في حمأة الانتهازية الدنيئة، وهو الموضوع الذي نتناوله .
والانتهازية بهذا المفهوم السلبي تتطابق ونظرة الفيلسوف الإنجليزي توماس هويز – صاحب المدرسة النفعية – للإنسان، حيث يصوره بأنه ذئب يتربص بأخيه الإنسان ليفتك به، فهو يسعى دائماً للحصول على القوة ليقهر بها الآخرين، وهنا ينشأ الصراع لفرض السيطرة وإشباع الرغبات، وإذا افتقر إلى القوة الكافية لجأ إلى الحيلة والمكر والدهاء والخديعة لكي يقهر غيره، مما يجعلها تتناغم مع الضلالات الداروينية التي تنظر للعلاقات بين الأفراد والشعوب والأمم بأنها قائمة على الصراع المستند على منطق: "البقاء للأقوى"
وهي كذلك تطبيق عملي لنظرية (الغاية تبرر الوسيلة) التي تبناها ميكافيلي، وخصص لها كتابه المعنون: "الأمير" شرحاً وتأصيلاً، وقد أصبحت داءً عضالاً يفتك بالأمم والشعوب، ووباء اجتماعياً وخيماً تنهار بسببه الحضارات والمجتمعات عندما يدب في أوصالها وينتشر في جسدها على حين غفلة منها كالسرطان، ويسري بين جميع شرائحها ومختلف فئاتها سريان النار في الهشيم، وتتحول هذه المجتمعات تحت تأثيره إلى مجموعات وعصابات من الانتهازيين النفعيين الذين يضحون بكل شيء من أجل تحقيق مآربهم الخاصة ومنافعهم العاجلة، ثم لا تسل بعد ذلك عن اضطراب المفاهيم، واختلال الموازين كإفراز طبيعي لهذه الممارسات؛ فالكذب دهاء، والتعفف بلاهة، والصدق سذاجة، والنصح حسد أو سوء أدب، والانضباط تعقيد، والباطل حقن والشرف تهمة، وهلم جرا، في سلسلة من المفاهيم المقلوبة والمعايير المضطربة.
وهنا يتضح الفرق الدقيق بين المفهوم الشعري والمفهوم الشيطاني، وذلك لئلا يفهم من حديثنا عن الانتهازية الوباء والتحذير منها أن المراد تضييع الفرص التي قد تسنح للمرء أو أنه دعوة للمثالية والتخلي عن طبيعة النفس البشرية التي تسعى لمصالحها وتحقيق الخير لذاتها فانتهاز الفرص ليس مذموماً لذاته طالما أنه لا يفضي لأحد أمرين:
أ) التفريط بمصالح عامة.
ب) الإضرار بالآخرين.
خطورتهم:مع ما نشهده اليوم من نماذج بشرية مشرقة تقدم أرواحها رخيصة في سبيل رفعة أمتها وتحرير مقدساتها، وتمثل الصورة المثلى للإنسان الذي كرمه الله تعالى وتفضله وأحسن خلقه وجعله في أحسن تقويم، توجد الصورة المنتكسة المتمثلة في الفئة الانتهازية التي تعرض قضايا أمتها للمزاد في سوق النخاسة السياسية وتضحي بمصالح مجتمعها في سبيل منفعتها الخاصة ومصلحتها الشخصية، وهي صورة معتمة ونموذج قاتم للبشر.
الانتهازيون صورة حديثة للمنافقين الجبناء الذين لا يقاتلون إلا من وراء جدر، وهم يحسبون كل صيحة عليهم، ولا يجيدون إلا الطعن من الخلف، يحيكون المؤامرات والدسائس وينصبون الفخاخ ويجيدون نسج الأحابيل التي هي أوهى من بيت العنكبوت عند من يعرف حالهم ولا تنطلي عليهم حيلهم، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
هم أناس فشلوا في حياتهم فابتغوا نجاح الآخرين سلماً لهم؛ لأنهم قد قصرت بهم هممهم وإمكاناتهم عن نيل المعالي، وقعدت بهم أطماعهم الدنيئة، وتقزمت طموحاتهم، واقتصرت نظرتهم لما دون أنوفهم، ليس لديهم الكثير ليقدموه، لكنهم قادرون وبجدارة على إعاقة الآخرين وإيقاعهم في المآزق والمشكلات المستعصية، معيار تفكيرهم ما ينالونه من كسب، أي كسب، جعلوا عقولهم بل دينهم عياذاً بالله ما يلج جيوبهم وما يشبع غرائزهم ونزواتهم البهيمية، لا يقيمون وزناً لمثل أو قيم ولا يسعون لتحقيق منفعة عامة أو رفعة للأمة أو المجتمع.
عندما تلتقي مصالحهم معك فستراهم أصحاباً مخلصين ومتعاونين، ولكن سينقلب كل شيء عندما تفترق حاجاتك مع حاجاتهم وسيتحولون إلى وحوش كاسرة في غابة مدلهمة.
هذه العصابة قليلة العدد لكن خطرها يعظم بما تمتلكه من مراكز للتأثير ومنابر للدعاية والضجيج، فيعبثون بعقول الناس ويستغلون حاجاتهم.
هم أخطر فئة على البشرية، وخفاؤهم يزيد من خطرهم، يلبسون جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب، يبدي لك أحدهم الموافقة لكل ما تريد، ويفيض عليك ما يسرك من القول، ويمدك بالتأييد والتشجيع لكل ما تود أن تنجزه، ثم يتخلى عنك أحوج ما تكون إلى نصرته، ويحفر لك الزبى، ويحيك المؤامرات وينصب الأحابيل ضدك في الخفاء.
ومن المؤسف أنه ليس ثمة أحد – في الغالب – إلا وقد اكتوى بنار الانتهازية أو مسه خطرها أو أزكمه ريحها، فهم في المجتمع مثل السرطان الذي ينتشر سريعاً دون مقاومة إلى أن يستفحل وتتزايد ضحاياه. لا سيما وأن هذا الوباء قد استشرى في كثير من المؤسسات والإدارات لدرجة التطبيع فلم يعد مثاراً للسخط أو الاستهجان بَلْه التقزز والاشمئزاز، فالانتهازية ما حلت في شعب إلا أذلته، ولا صحبت جيشاً إلا هزمته، كما يقال.
لقد كادوا أن يحرموا الأمة – بأجيالها المتعاقبة على مر الزمن – من أحد أئمتها الأعلام، عندما وشوا بالإمام الشافعي عند الرشيد بأنه كان يروم الخلافة، فحُمل – رحمه الله – على بغل في قيد إلى بغداد، فدخلها في سنة 184هـ وعمره ثلاثون سنة، فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده وأكرمه، فرحمهم الله جميعاً.
د. محمد الكثيري
المصدر: موقع المسلم