مع أن العلاقات الفلسطينية مع أي دولة عربية أو غير عربية هي فعلا ، وينبغي أن تكون ، أكبر بكثير من ارتهانها لموقف أي دولة تمارس سيادتها من أي جالية فلسطينية فيها أيا كان حجم هذه الجالية ، فإن قيام "أطراف العملية السياسية" الأميركية الحاكمين في المنطقة الخضراء ببغداد اليوم باجتثاث الجالية الفلسطينية لينخفض عديدها من خمسة وثلاثين ألف نسمة إلى (11) ألفا الآن خلال أقل من ثلاث سنوات بعد الغزو عام 2003 هي حالة استثنائية توجب على أي قيادة فلسطينية أن تتعامل مع العراق الذي يفتقد الدولة والسيادة في وضعه الراهن كحالة استثنائية أيضا تقتضي إبقاء ملف اللاجئين الفلسطينيين في العراق هو المحك الأول والأخير لأي علاقات ثنائية .
وإلى حين تتكشف الأسباب الحقيقية لها ، لا يوجد أي سبب مقنع ظاهر يسوغ الزيارة التي قام بها وفد فلسطيني برئاسة محمود عباس في الخامس من الشهر الجاري لحكومة "الرئيس" جلال طالباني و"رئيس الوزراء" نوري المالكي لمنحها شرعية سلطة حكم ذاتي فلسطينية تحت الاحتلال بينما العراق نفسه ما زال تحت الاحتلال .
طبعا يستطيع الوفد الاحتجاج بمثل مذكرة رفعها إلى عباس في السابع من تشرين الثاني / نوفمبر عام 2005 بعض اللاجئين الفلسطينيين في العراق مطالبين ب"إرسال وفد فلسطيني رسمي يمثل السلطة الوطنية الفلسطينية إلى العراق والتفاوض مع الحكومة العراقية" حول أوضاعهم ، لكن ذلك يشبه اجتزاء "لا تقربوا الصلاة" من الآية القرآنية الكريمة إذا تجاهل الوفد مطالبهم الأخرى ب"تسهيل عودتهم" إلى مناطق السلطة ومنحهم جواز سفرها وتفعيل دور وكالة الأونروا لخدمتهم والتنسيق مع الجهات المعنية لتسهيل أدائهم فريضة الحج واستخدام علاقات السلطة مع الدول العربية لفتح فرص العمل والدراسة أمامهم ، إلخ .
وتلخصت النتائج التي تمخضت الزيارة عنها حسب ما أعلنه طرفاها في اعتبار عباس أن الفلسطينيين في العراق هم الآن "في أيد أمينة" وأن حكومة طالباني - المالكي "ستحرص عليهم كحرصها على كل فرد من أفراد الشعب العراقي" وأن "حكومة الوحدة الوطنية" التي يقودانها وعدت عباس بأن تكون "حريصة على تقديم شتى أنواع الدعم للأخوة الفلسطينيين بما يمكنهم من إقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف" . غير أن الوقائع على الأرض تثبت عدم حدوث أي تغيير بعد الزيارة يسوغ القول إن الفلسطينيين في العراق كانوا أو أصبحوا في "أيد أمينة" .
فملفهم ما زال مفتوحا بعد الزيارة كما كان قبلها ، ولا يمكن للمسؤولين عن اجتثاث الفلسطينيين أن يعطوا "ضمانات" لسلامتهم بينما هم بانتظار من يحاسبهم على الجرائم التي ارتكبت تحت قيادتهم بحق ضيوفهم الفلسطينيين ، لأن مرتكبيها كانوا وما زالوا في صفوفهم أو صفوف حلفائهم السياسيين ، فإذا لم يتحملوا هم المسؤولية من يتحملها إذن ؟ .
إن أي زيارة فلسطينية مهما بلغ مستوى القائمين بها لن يمنحهم صك براءة وليس من حق أي فلسطيني أن يمنحهم صك براءة عن مسؤوليتهم المباشرة أو غير المباشرة ، ولا يمكنهم أن يتنصلوا من هذه المسؤولية في وقت ينظمون فيه محاكمات زائفة لجرائم يدعون أنها وقعت قديما بينما الجرائم ضد الجالية الفلسطينية ما زالت مستمرة وما زال مهجروها منذ ثلاث سنوات ضحايا حر الصيف وقر الشتاء في صحراء بادية الشام .
والمذكرة نفسها التي طالبت ب"إرسال وفد فلسطيني رسمي" إلى العراق تحدثت عن "حملة إعلامية تحريضية ضد الوجود الفلسطيني في العراق في الصحف الرسمية والقنوات الفضائية التابعة للحكومة ولبعض الأحزاب الحاكمة" ، وسرعان ما تحولت هذه الحملة إلى "الاعتقالات" ثم إلى "اغتيالات منظمة" قبل أن تصل إلى "الاختطاف والتعذيب البشع والتمثيل ثم القتل" ، لتخلص المذكرة إلى القول: "فلا ندري هل نحن لاجئون أم وافدون أم مقيمون أم مواطنون أم بدون" ، قبل أن تتهم سفارة دليل القسوس الفلسطينية "بعدم إيصال هذه المآسي بشكل حقيقي وواقعي لأسباب سياسية وغيرها" ، وبالتالي كما يقول المثل فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، فمن لم يؤتمن على أمن شعبه نفسه لا يمكن أن يؤتمن على سلامة ضيوفه الذين وصلوا إلى العراق في شاحنات جيشه الوطني .
حتى عام 1952 كان حوالي ثلاثة آلاف لاجئ فلسطيني برعاية وزارة الدفاع العراقية لأن الجيش العراقي المقاتل في فلسطين عام 1948 أعادهم معه إلى العراق بعد أن خيموا في مدينة جنين التي كانت بحمايته بعد نزوحهم من ثلاث قرى جنوب حيفا سقطت في أيدي العصابات الصهيونية ، قبل أن تنتقل المسؤولية عنهم إلى دائرة خاصة بهم تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تعهدت برعايتهم ورفضت تسجيلهم لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" التابعة للأمم المتحدة . وبعد أن وضع الغزو الأميركي عام 2003 نهاية دموية لشهر العسل الفلسطيني العراقي ، تحولت المسؤولية عن اللاجئين الفلسطينيين إلى وزارة الداخلية ، حيث يجري "تنسيب أسوأ" ضباط هذه الوزارة "على القسم الخاص بالفلسطينيين لغرض التضييق عليهم" ، حسب المذكرة المشار إليها .
وطبقا لتقرير بعنوان "قرار عراقي خطير بشأن اللاجئين الفلسطينيين" نشرته مجلة الحرية الناطقة بلسان الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين قبل عشرين يوما فقط من زيارة عباس لبغداد فإن الأيدي التي وصفها بأنها "أمينة" عليهم في 4/11/2008 قد "أعادت الحياة إلى قانون اللجوء السياسي للعام 1971 لتطبقه على اللاجئين الفلسطينيين وتجاهلت قانون العام 2000 الذي يساوي اللاجئ الفلسطيني بالمواطن العراقي" .
وقانون 1971 الجديد خاص ب"اللاجئين السياسيين" وتحفظ معلوماته لدى مديرتي الأمن والاستخبارات "العسكرية" ويوكل مهمة "مراقبتهم" إلى وزارة الداخلية ويحق لوزيرها "تعيين محل إقامة اللاجئ وتغييره" وإصدار الأمر بإبعاده أو محاكمته إذا أخل "بأمن الدولة أو مصالحها السياسية" ولا يحق للاجئ مغادرة العراق إلا بموافقة الوزير ولمدة "شهر" فقط وهو يحتاج إلى "موافقة رئيس الجمهورية" إذا تجاوزت فترة الغياب مدة الشهر !.
ووصف تقرير الحرية القرار العراقي الجديد بأنه "قفزة إلى الوراء" تضعف الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين "باعتبارهم جزءا من شعب" ويحولهم إلى "مجرد أفراد ، اضطروا للجوء المنفرد ، كلا على حدة" ومن شأن ذلك المس بحق اللاجئين في العودة لأنه "يفرغ قضيتهم من مضمونها السياسي الحقيقي" ويمنحها "مضمونا سياسيا جديدا لا يمت إلى الواقع بصلة" .
فهل يعني ذلك وغيره أن الفلسطينيين في العراق ، هم وقضيتهم الوطنية ، موجودون في "أيد أمينة" حقا" !
نقولا ناصر
كاتب عربي من فلسطين
11/4/2009