الحمد لله الخافض الرافع القابض الباسط المعز المذل الحي القيوم السميع البصير، وأصلي وأسلم على البشير النذير السراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور، وبعد:
من خلال تواصلنا الدائم مع أهلنا وأصحابنا وأحبتنا، الذين اضطرتهم الظروف والمحن، لمغادرة ما كان يعتبر حاضنةً ووطن، فتشتتوا وتهجروا وتغربوا وتعرضوا للابتلاءات والفتن؛ كانت تصلنا العديد من الاستفسارات وطلب التوضيحات والأسئلة المتنوعة في شتى المجالات، لما يواجههم من أحوال جديدة ومواقف فريدة وتحديات عديدة وسلوكيات غريبة وظروف قاسية عنيدة وحالات مقيتة، لأن البيئة والتقاليد والأعراف والأخلاق والسلوكيات بل الاعتقادات مختلفة وغير منضبطة.
مرة يتعلق الاستفتاء بحالات الطلاق، ومرة أخرى بأحكام الربا والقروض، وتارة يرتبط بالتعاملات اليومية، وأخرى بالمطاعم والمأكولات وبعض الأعمال، ناهيك عن إهمال أو إغفال العديد من القضايا العقدية والأخلاقية والسلوكية، حتى أصبحت عادات ومظاهر واندماج وتأقلم، ألِفتها العيون، واستساغتها الآذان، وتشبعت بها القلوب، وقبلتها العقول.
هذه الحقائق وغيرها جعلتني أتوقف قليلا وأتأمل خطورة الموقف، مع ضرورة البيان والنصح والتوضيح والتفصيل والتواصي بالحق، لأن " تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز" وهذه من أهم وأعظم القواعد الأصولية، حتى نقل العلماء الاتفاق على عدم جواز تأخير ذلك البيان مطلقا.
بادئ ذي بدء وقبل الدخول في العديد من التفاصيل المتعلقة بعامة المسلمين في بلاد الغربة؛ لابد من تقعيد المسألة وتأصيل القضية وتوضيح الرؤية الشرعية لحقيقة الحكم، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد من تصور وافي شافي متكامل للموضوع من جميع جوانبه ومختلف زواياه، لاسيما الحكم الشرعي المبني على أدلة من الكتاب والسنة، مع بيان الضرورات وما يتعلق بها.
إن قضية السفر أو الإنتقال والعيش في بلاد الغربة والكفر، ليست وليدة اليوم، بل منذ بزوغ فجر الإسلام بيّن الله عز وجل في كتابه العزيز الأحكام التي تتعلق بهذا الأمر، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام وضح ذلك، حيث أعقب الله عز وجل ذكر المصرّين على الإقامة في بلاد الكفر بعد ذكر القاعدين والمتخلفين عن الجهاد.
يقول سبحانه وتعالى }إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا { ( النساء: 97).
بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة بعد بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد ... ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورةِ الكفارِ الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ .[1]
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.[2]
فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية.[3]
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( أنا بريء من كل مسلم ، يقيم بين أظهر المشركين ، لا تراءى نارهما ).[4]
ويقول عليه الصلاة والسلام من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه (من جامع المشرك ، و سكن معه ، فإنه مثله ).[5]
( هذان الحديثان هما من الوعيد الشديد المفيد غلظ تحريم مساكنة المشركين ومجامعتهم، كما هما من أَدلة وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهذا في حق من لم يقدر على إظهار دينه. وأَما من قدر على إظهار دينه فلا تجب عليه الهجرة، بل هي مستحبة في حقه ...
وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك. إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أَنواع الكفر والضلال ).[6]
ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته .[7]
مما تقدم يتبين لنا حقيقة الحكم الشرعي لأصل التواجد والإقامة في بلاد الكفر والإشراك والإلحاد، وقد تحدث عن هذه القضية جمع غفير من العلماء قديما وحديثا، مستنبطين من أدلة الكتاب والسنة أقوالهم وفتاواهم وتوجيهاتهم ونصائحهم، فأحببنا توجيه العقول والتفات الأذهان وتنبيه الغافلين وتبصير القلوب بهذا الحكم واستحضاره باستمرار، لأن القضية دين وشريعة وحكم شرعي وليست هوى ومزاج وتشهي!!
فالقضية إذا تتعلق بالأحكام الشرعية، كسائر القضايا من تحريم السرقة والخمر وأكل لحم الخنزير والتعامل بالربا وغيرها، ولا تعلق للأمر بالعاطفة أو الأهواء أو الحرية الشخصية أو حقوق الإنسان أو المزاجية أو الماديات وما شابه، فليكن ذلك بالبال.
لكن قد يقول قائل ويعترض معترض: الدول الإسلامية والعربية هي من تطردنا وتدفعنا دفعا لهذا الخيار ولا ترغب بوجودنا، لا سيما فيما يتعلق بفلسطينيي العراق كنموذج معاصر ومثال شاخص، فكيف نصنع وأين نذهب ولا خيار لنا إلا تلك الدول؟!
في الحقيقة هذا اعتراض وجيه وواقعي ومشاهد وملموس وحقيقي ولسنا بمعزل عنه، لكن لابد لنا من تأصيل القضية ببيان الحكم الشرعي الابتدائي والأصلي للمسألة، ثم من هذا التأصيل أيضا القاعدة الفقهية " الضرورات تبيح المحظورات" وهذه قاعدة عظيمة جليلة هامة، لكن لا ينبغي أن تؤخذ بمفردها ولا تطلق باستمرار، بل لابد من استحضار وتوافق وتقييد بالقاعدة الأخرى " الضرورات تقدر بقدرها" فلا يستغنى عن هذه بتلك، فاحفظ ذلك نفعني الله وإياك وهدانا صراطه المستقيم.
الخلاصة أن أصل الحكم التحريم والمنع، إلا في حالات الضرورة والاستثناء والحاجة، لكن لا يجوز التوسع بها، إنما فقط ما يدفع به الضرر ويزال الخطر، ثم لابد من العودة إلى الحكم الأصلي، ونضرب على ذلك مثلا نختم به هذا الجزء على أن نكمل التفصيل في أجزاء وحلقات قادمة بعون الله تعالى.
إنسان في صحراء وشارف على الهلاك والموت، ولم يجد إلا لحم الخنزير، ماذا يفعل ؟ نقول يجوز له أكل لحم الخنزير بالقدر الذي يدفع به هلاكه وموته مع استحضار حرمة ذلك واستقباحه، ثم يرجع إلى الأصل وهو تحريم الأكل، فليس له أن يتوسع ويتلذذ لدرجة الشبع، بحجة أنه سيموت أو جائع، والضرورات تبيح المحظورات!! كلا وحاشا، وهذا المثل يعمم على جميع الأحوال والأحكام والمواقف.
إذاً وجود أي مسلم في تلك البلاد، ينبغي أن يكون من باب الاضطرار لا الاختيار، والاستثناء لا دوام الالتجاء، والفترة المؤقتة لا العيشة المرفهة، والممر لا المقر في هذه الحياة الدنيا، فهذا أصل عظيم وأساس قويم، وبفهمه نفع عميم، نهتدي به إلى صراط مستقيم.
انتظرونا ولا يتعجل متعجل، أو يسارع منفعل، فيُلقي الكلام جزافا من غير تأمل، ويفهم جزء من الكلام ويترك أجزاء ليتقول، فالكلام متواصل متسلسل متداخل، وكل واحد منا يُقَدّرُ ظرفه، ويعرف حاله، ويقيس ضرورته، فلا يعتذر بما ليس عُذر، ولا يسترشد بقليل التقوى والبصر،فالله } يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ { [8] ومهما بلغت معاذير الإنسان فهو أعلم بها وبنفسه من غيره } بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ { [9]
وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
أيمن الشعبان
باحث متخص بشأن الفلسطينيين في العراق
28/10/2010
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"
[1] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، المسمى تفسير أبي السعود.
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، المسمى تفسير السعدي.
[3] تفسير ابن كثير.
[4] حديث صحيح، انظر صحيح أبي داود وصحيح الجامع وإرواء الغليل للألباني.
[5] حسنة الألباني في صحيح الجامع.
[6] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 1/78).
[7] المنتقى من فتاوى الفوزان، المسألة 149.
[8] ( غافر: 19 ).
[9] ( القيامة : 14-15).