ملاحظة من اللجنة العلمية بالموقع: لكثرة هؤلاء وانتشارهم وتفشي هذا المرض العضال والداء الخطير، واستشراء الأضرار المترتبة على ذلك وتضييع الحقوق والمبادئ والثوابت، وللتحذير من هذا المرض الفتاك وتنبيه جميع الزوار والقراء منه، ولتعميم الفائدة ارتأينا نشرها.
الانتهازيون "3 " – د. محمد الكثيري
(تحدثنا في المقال الأول حول مفهوم الانتهازية ورؤية عامة حول خطر الانتهازيين ثم نحدثنا في الجزء الثاني حول وصفهم والتعريف بهم وبصفاتهم وسلوكهم وطريقة حياتهم وفي هذا الجزء نتحدث إن شاء الله حول تاريخ الانتهازية والحديث عنها في القرآن والسنة النبوية ثم بعضا من سماتها)..
الانتهازية عبر التأريخ:
سؤال يطرح نفسه عند الحديث عن هذه الظاهرة الاجتماعية: متى نشأت هذه الظاهرة، وما هي بداياتها؟ وهل هي حديثة أم أنها ملازمة للإنسان منذ أيامه الأولى؟ ولا شك أن هذا الأمر بحاجة إلى تقصي واستعراض للتأريخ البشري لكي نتمكن من تحديد البدايات الأولى لبروز هذا الخلق وأثره في الحضارة البشرية، ولئن كان من الصعب تحديد البداية الفعلية لهذه الظاهرة إلا إن من المؤكد أن الانتهازية ليست مصطلحاً جديداً خاصاً بالمثقفين أو السياسيين المعاصرين ولكنها أسلوب ملازم لوجود الشر في النفس البشرية منذ القدم، كما لا يختص بها شعب دون غيره أو مجتمع دون آخر، ولكنها ظاهرة إنسانية ممقوتة عند جميع الأمم والثقافات.
انتهازيون تحدث عنهم القرآن الكريم:
بتأمل القرآن الكريم وما عرضه من قصص السالفين، ومعاناة الأنبياء والرسل يدرك أن هذا الطبع موجود في النفس البشرية متى وجد الشر فيها واستقر؛ فعندما أراد إخوة يوسف أن يستأثروا بالحب والمكانة عند أبيهم سلكوا وسيلة انتهازية تطلبت التضحية بأخيهم: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9)، والملأ من قوم فرعون يحرضونه على موسى بقولهم: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف: من الآية127)، وقولهم: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) (الأعراف: 109، 110)، وقول السحرة قبل إيمانهم: (أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) (الشعراء: من الآية41)، فالباعث لهم على خوض المعركة هو الحصول على المكاسب المادية العاجلة ليس إلا. وهذا السامري ينتهز غياب موسى عليه السلام لتلقي الوحي وأخذ الألواح فتزعم قومه فيغير دينهم، ويصنع لهم وثناً يعبدونه من دون الله، وهذا خلَفه قارون الذي كان من قوم موسى (فَبَغَى عَلَيْهِمْ) (القصص: من الآية76) بعدما تمكن من الكنوز والأموال، فدأب الانتهازيين البغي بعد التمكن، وهذا الذي آتاه الله العلم والآيات فانسلخ منها وباعها بأبخس الأثمان فلا تراه إلا لاهثاً خلف المال حلالاً كان أم حراماً (كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف: من الآية176).
وإذا كان القرآن الكريم لم يتطرق إلى الانتهازية بلفظها إلا أنه أفاض في الحديث عن النفاق – أبشع صور الانتهازية – وعن المنافقين، وبيّن صفاتهم، وكشف أساليبهم، وفضح خططهم وأحابيلهم، بل وجلّى خبايا نفوسهم، وحقيقة نواياهم، وذلك في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والتوبة "التي تسمى الفاضحة" والنور، والأحزاب، والفتح، والمجادلة، والحشر، بل وخصهم بسورة تحمل اسمهم: المنافقون، إضافة لآيات كثيرة في سور متفرقة من كتاب الله الكريم.
أما في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيشكل المنافقون نموذجاً للانتهازية في أبشع صورها، ففي أحد وبعد أن عزمت قريش على التحرك لأخذ الثأر لهزيمتها في غزوة بدر، علم الرسول صلى الله عليه وسلم بتحركهم فعزم على الخروج لمواجهة جيش قريش بما لا يزيد على ألف مقاتل، وبينما كان الفريقان يستعدان للنزال، إذا بزعيم النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ينخذل راجعاً إلى المدينة بأكثر من ثلث الجيش، بحجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطاعهم وعصاني" وأنه لم يحترم رأيهم ولم يأخذ بكلامهم، فلم تُجدِ معهم الدعوات المتتابعة للثبات وعدم الخذلان، كيف وقد غلبت عليهم الانتهازية وانتظار الفرصة للانتقام في أحلك الظروف وأحرج الأوقات، وكأنهم وجدوا ضالتهم حيث الفرصة مواتية للتسلل والرجوع، والتصرف ذاته حدث في معركة الخندق، تحت شتى الذرائع، فمنهم من شكك في فكرة الخندق وجدواها، وآخر يطلق عبارات التخويف والسخرية: "كان محمد يعِدُنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يقدر أن يذهب إلى الغائط"! وآخرون يتشدقون بالغيرة والحرص على الحرمات: (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً) (الأحزاب: من الآية13)، وغيرهم يقول: (يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) (الأحزاب: من الآية13(.
ومنهم دعاة التثبيط والتخذيل: (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب: من الآية18)، حيث بدأوا بتشكيل جبهة وذلك قبل اشتداد الأمر، وحلول الكرب الذي جعلهم: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (الأحزاب: من الآية19)، وبعدما زالت الغمة رجعوا إلى طباعهم وخستهم المعهودة حيث الخيانة والتآمر والوقيعة بين المخلصين وشن الحملات عليهم: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) (الأحزاب: من الآية19).
في السنة النبوية:
حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الفئة ونبّه على بشاعتها وعظم شرها في أخطر صورة لها، عندما تكون قريبة من موقع التأثير واتخاذ القرار، عندما تكون هي البطانة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله تعالى".
يا له من وصف جامع ودقيق: "تأمره بالشر وتحضه عليه" وأطلق لخيالك العنان ليتصور كل شر، نعم كل شر فـ"أل" هنا للاستغراق، ثم لا تلبث أن تجد هذه الحثالة وما يمكنها أن تزينه وتقننه للمسؤول، فالاختلاسات والاتهامات زوراً، وإساءة الظن والتجني، ومحاصرة الناجحين وتشويه سمعتهم، والتآمر لإقصاء الكفاءات وتسريحهم، وتقريب الفاشلين المتملقين باعة الضمائر، كل هذه لا تعدو أن تكون بعض صنوف الشر الذي أشار إليه الحديث الشريف.
هم أمثال السوس ينخر في جسد أي بيئة، فتحولها إلى مستنقع للحسد والغيبة والنميمة والتمزق وتفريغ الأحقاد في غياب شمس المصارحة والمكاشفة والنزاهة وتغليب المصالح العامة.
وفي حديث آخر يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخبر على من يتسم ببعض سمات الانتهازيين ويبين عاقبتهم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.." ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مجابة، فالشقاء والهلاك والخيبة ملازمة لعبيد المال والجاه والمنصب والمظهر لا ينفك عنهم، ومن كان بهذه المثابة فهو مستحق لأن يدعى عليه بما يسوؤه من العواقب في الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
سمات الانتهازيين وأساليبهم:
يتسم الانتهازيون بسمات وسلوكيات شخصية تميزهم عن غيرهم، وهذه السمات لا تكاد تخطئها العين، وهم يتفاوتون في هذه السمات بحسب شدة انتهازيتهم وضعفها، فبينما تجد معظم هذه السمات عند شخص فقد لا تجد إلا القليل منها عند آخر، كما أن السمة الواحدة تتفاوت من شخص لآخر، وأبرز هذه السمات والأساليب:
1-انعدام الصدق:
مما تقدم يتضح بجلاء أن أهم صفة عند الانتهازيين هي انعدام الصدق، بمفهومه الشامل؛ أي الصدق في القول والعمل والقصد والهدف، فلا ترى الانتهازي صادقاً مع نفسه ولا مع ربه ولا في نيته ولا في عمله ولا في وظيفته ولا في عبادته وتدينه ولا مع المجتمع الذي ينتمي إليه، فتجد الكذب قد أحاط بالانتهازي وتشربه فأصبح سمة له وجزءاً من كيانه وقاسماً مشتركاً لجميع الانتهازيين، فالأصل فيما يقوله أو يعمله هو الكذب، وأما الصدق فهو الاستثناء، ولأن الكذب يهدي للفجور فإن سائر الصفات المذمومة الأخرى التي يتسم بها لا تعدو أن تكون إفرازاً طبيعياً لهذا الخلق المشين.
وهذا يؤدي إلى انقلاب للمفاهيم وانتكاس الموازين، فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وهنا يقع الخطر على المجتمع حينما تختلط فيه المقاييس، وتلتبس المعايير، ويفقد أفراده القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، والحقيقة والزيف، فيتمزق المجتمع من داخله ويصبح بنيانه هشاً واهياً سرعان ما ينهار عندما يتعرض لأدنى صدمة، بسبب البلبلة الشديدة الناتجة عن غلبة المعايير الانتهازية وانتشار ثقافتها المشوهة، فلا إبداع ولا إنتاج فكري أو علمي أو تقني، وما الداعي للتنافس في ذلك والعملة الرائجة في هذه السوق هي العملة النحاسية المزيفة التي سكَّت في مصانع الانتهازيين والوصوليين؟ فتعطلت مراكز البحوث ومراكز الدراسات الجادة، بل أتت الانتهازية على كثير من البحوث والمؤلفات فأحالتها إلى وسيلة للتكسب وتورم الذات والتعالي، ففقدت أصالتها وروحها العلمية الإبداعية واستقرت على الأرفف تكسوها الأتربة، إذ لا تستحق الحيز الذي تشغله، أو الحبر الذي طبعت به، أو الورق الذي كتبت عليه، لذا فإن البيئة الانتهازية تعد مرتعاً خصباً للتخلف بشتى صوره، وهذا يؤكد ما سيرد من أن الانتهازيين هم العدو الأول لأي تنمية.
2-كثرة تشدقهم بالمثاليات والمبادئ:
وذلك ذراً للرماد في العيون وإبعاداً للتهمة عنهم وإمعاناً في خداع الناس، وهذه جناية أخرى يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (ثم إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منزلتها ومحاولة متعمدة لإسقاط قيمتها وهذا جرم آخر).
3-يجيدون الضجيج دون أي إنجاز:
فهم "ظاهرة صوتية" دون إنتاج؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، وهم يدركون ذلك فيرتكزون على جهود الآخرين ويسرقونها دون أدنى حياء ويتزلفون بها، فتجد التركيز على ما له مردود إعلامي وتضخيمه وكأنه من المعجزات، والتفريط بما هو أهم وما يعد بمثابة فرض العين لعدم جدواه الدعائية، ويعتبر آخر الاهتمامات، ويصرح بذلك دون اكتراث!!
4-تقديم المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية:
عندما يُخيَّر الانتهازي بين خدمة المصالح العامة والقيم أو خدمة المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية ينحاز دون تردد لما يخدم مصالحه الذاتية دون غيرها، فرغم ما يتشدقون به إلا إنهم نادراً ما يقومون بفعل أي شيء لا يتعلق بخدمة الذات، فهم أناس غارقون في الأثرة والأنانية، ويفاخرون بما يحققونه من مكاسب على المستوى الشخصي، ويشعرون بارتياح تام لذلك دون أي اكتراث بما تسببوا به من جناية على المستوى العام.
5-الاستبداد والتعسف والتكبر:
الاستبداد والانتهازية قرينان لا ينفك أحدهما عن الآخر، يقول الكواكبي: "أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان"، فلسمة الاستبداد نصيب وافر عند الانتهازيين إذا قدروا، وما ينتج عنها من مصادرة للرأي الآخر واحتقار للآخرين وازدراءٍ لهم، يحيطون أنفسهم بهالة من الوهم وكأنهم خلق آخر، وغالباً ما يؤتون وتحل بهم النكبات من هذا الجانب لكنهم يكابرون وفي غيهم يتمادون، لا تنفعهم نصيحة ولا تردعهم عبرة حتى ينزل بهم أمر الله وهم سادرون، يقول أكثم بن صيفي وقد عُمّر طويلاً:
(لن يهلك امرؤ حتى يضيّع الرأي عند فعله،
ويستبد على قومه بأموره،..
ويغتر بقوته والأمر يأتيه من فوقه،
وليس للمختال في حسن الثناء نصيب،
ومن أتى مكروهاً إلى أحد فبنفسه بدأ،
إن الهلكة إضاعة الرأي، والاستبداد على العشيرة يجر الجريرة،...
وأقل الناس راحة الحقود،...
ومن العفو ما كان مع المقدرة، ومن سوء الأدب كثرة العتاب،
ومن اغتر بقوته وهن، ولا مروءة لغاش،
ومن سفه حلمه هان أمره،
والأحداث تأتي بغتة، وليس في قدرة القادر حيلة،
ولا صواب مع العجب، ولا تثقن بمن لم تختبره).
وهذا تفسير تشبث الانتهازيين بالكرسي – أي كرسي – فمنه يستمدون النفوذ الذي يؤهلهم لممارسة الابتزاز لرؤسائهم ومرؤوسيهم، لعلمهم بأن عامة الناس لا يترددون في عمل ما يمليه عليهم صاحب السلطة بغض النظر عن طبيعة هذه المهام ومدى تطابقها مع المبادئ والقيم، فهم أحرص الناس على منصب مهما كانت المسؤولية فيه ثقيلة أو كانت قدراتهم محدودة، ولا يمكن أن يتركوه بإرادة منهم، "وإنما يتركونه وكأنهم عقارب ساعة كفّت عن الدوران، إنهم يصارعون، وبعضهم يهدم ما كان قد بناه".
6-التبرير لتجاوزاتهم:
من سماتهم أنهم ينتهجون ثقافة تبريرية للتجاوزات والسلوكيات السلبية ويروجون لذلك؛ ليتواروا خلفها وليتسنى لهم تحقيق مكاسبهم بأكبر قدر ممكن وبأقل الخسائر، وكأنهم مخلصون وأمناء وشرفاء دون أن ينكشف أمرهم، وفي المقابل تمتلئ قلوبهم حقداً وضغينةً على الصادقين المخلصين لخطرهم عليهم، فيسعون لإلصاق شتى التهم الزائفة والنقائص بهم، ويتحينون الفرص للوقيعة بهم كحال أسلافهم المنافقين مع المؤمنين.
7-انعدام التضحية:
هم أبعد ما يكونون عن التضحية فهم يسعون لتحقيق المكاسب بأقصر الطرق والحصول على الامتيازات بأقل جهد، (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ...) (الفتح: من الآية15)!! لذا فسرعان ما تجدهم يتقهقرون عندما تبدو أول بوادر لأي خطر، مسببين هزة في تماسك المجتمع وقوته بل ويحطمون صموده عندما تمر به ظروف حرجة، والواقع شاهد بذلك، وهذا يتناغم مع موقف أسلافهم المنافقين في غزوة أحد يوم رجعوا بثلث الجيش وتخذيلهم عن القيام بواجب النصرة يوم تبوك، شواهد لها دلالاتها العميقة على مدى خطورة هذا النمط من البشر على المجتمع، وقد استحقوا بجدارة الوصف الإلهي بعد غزوة الخندق بأنهم: (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) (الأحزاب: من الآية17، 18)، وذلك لمواقفهم وأقوالهم الانتهازية المخزية التي تكشفت في أحلك المواقف.
8-تضخيم أخطاء الآخرين:
يحكمون على الشخص في ضوء أخطائه فحسب، فعندما يقيمونه فمن خلال أسوأ أعماله، يفقدون الإنصاف والموضوعية، لا يعينون الشخص لتجاوز الخطأ، وإنما يوظفون هذا الخطأ لدفعه لارتكاب مزيد من الأخطاء، وذلك للحصول منه على مزيد من التنازلات.
9-الجبن والضعف والخوف:
يتسمون بالجبن والضعف والخوف، وهذا ناتج لفقدهم فضيلة الصدق، وكونهم أبعد ما يكونون عن مسالك النزاهة والاستقامة وأنهم كأسلافهم الذين وصفهم القرآن الكريم: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (المنافقون: من الآية4) فمن أين لهم بخلق الشجاعة أو القوة إذن؟ يقول الشيخ محمد الغزالي: (وإن الرجل الخرب الذمة أو الساقط المروءة لا قوة له ولو لبس جلود السباع ومش في ركاب الملوك).
لذلك أصبحوا هدفاً سهلاً للأعداء يحقق بهم أهدافه، وطابوراً خامساً ينفذون من خلاله إلى داخل المجتمع وتنكشف لهم نقاط ضعفه، بل ويطلعونهم على الثغرات التي يقوضون بها بنيانه ويحطمون كيانه.
10-الإيقاع بين الناس والتصيد في الماء العكر:
بل يقومون بتعكير الماء ليتسنى لهم الاصطياد فيهن ويتفننون في ذلك بألوان من الحيل والخداع، فقد يختصون بعض الأشخاص بكثير من المزايا، المادية والمعنوية، ليضمنوا ولاءهم وتجاوبهم ومساندتهم في وجه من يرفض الانسياق معهم، الذي سيكون نصيبه المضايقات والحرمان من الفرص والحقوق طالما أنه خارج دائرتهم الداخلية أو ما يعرف بـ"الشلّة".
أهم عوامل النجاح لديهم استنزاف من حولهم في صراعات داخلية، لأنها توفر الفرصة السانحة للاستحواذ بالفرص والتمتع بالمزايا بعيداً عن إشغال الناس ومنافستهم، على المبدأ الفاسد: فرِّق تسد.
11-الابتزاز:
من أساليبهم ابتزاز الآخرين بالتهديد والوعيد لتحقيق أغراضهم، فهم لا يحظون بالحب أو التقدير ممن يعملون معهم، ولا يتورعون عن استخدام أي شخص واستنزاف جهده أو ماله أو معنوياته بهدف إشباع حاجاتهم دون أدنى شعور بلوم النفس أو تأنيب الضمير، وعندما يكون الفرد بحاجة لهم فهي فرصتهم الذهبية لممارسة ألوان الإذلال والمساومة والخداع لتحقيق أغراضهم منه، فهم دائماً يأخذون أكثر مما يقدمون، فيجب ألا يمنحوا هذه الفرصة بل لا بد من حرمانهم منها مهما كلف الثمن!
12-التنصل من المسؤولية:
يلجأ الانتهازيون إلى الإسقاط في إقصاء التهم عنهم، لما قتل ابن الزبير رضي الله عنه ارتجت مكة بكاءً عليه، فخطب الحجاج الناس وكان مما قاله: يا أهل مكة، إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير! فإنه كان من خيار هذه الأمة حتى رغب في الدنيا، ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله وألحد في الحرم.. وأنه غير كتاب الله!
13-التشبث بالغير:
يبحث الانتهازي عن ذاته فلا يجدها، فيتشبث بأذيال الآخرين، ويرتمي بين أيديهم، فيصف فشلهم بأنه نجاح باهر لا نظير له، وتصرفاتهم ذات العواقب الوخيمة بأنها إنجازات أشبه بالإعجاز، إما بالمدح والإطراء أو الدفاع والتبرير أو الامتطاء والمسايرة، فيظفر بمساندتهم وتأييدهم فيحتمي بهم ليسوم من تحته سوء العذاب، ويستغلهم أسوأ استغلال.
فالانتهازية خلق منبت لا أصالة له، وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، تميل حيث تتجه الريح.
د. محمد الكثيري
المصدر: موقع المسلم