بسم الله الرحمن الرحيم
في ذات يوم تبادلت أطراف الحديث مع رجل كبير عجوز خبر الدنيا وخبرته حتى أحنى الزمان ظهره وامتلأ وجهه بالتجاعيد وظهرت الخطوط العريضة على محياه الكريم ، قال لي يا بني أريد أن أسالك سؤال لاختبر ذكائك ، قلت له تفضل ، قال لي (كم يبلغ عمر الإنسان الحقيقي) ، قلت له لا يوجد عمر محدد فقد يموت الإنسان بعد الولادة مباشرة أو قد يعيش ليبلغ مئة عام ، قال لي لم أسالك كم يعيش الإنسان بل سألتك عن عمره الحقيقي ، قلت له هل تقصد متوسط عمر الإنسان مابين (60 - 70)عام ابتسم الرجل العجوز وشعرت بابتسامته نوع من السخرية قلت له لا تسخر مني يا عم اشرح لي الموضوع ولا ترهق أعصابي .
قال لي حسنا سأشرح لك إن معدل عمر الإنسان الحقيقي مابين (5 - 10) سنوات ضحكت وقلت له هل هذه (فزورة) أم انك بلغت من العمر حتى لم تعد تعلم من العلم شيئا ، قال لي لا تستعجل سأوضح لك الأمر لو أخذنا نموذج إنسان متوسط عمره 60 سنة فان هذا الإنسان سيقضي أكثر من نصف عمره نائما أي حوالي (35 ) سنة لأنك تعلم ان اليوم نصفه نهار ونصفه ليل والنائم يعتبر ميت إضافة إلى ما يقضيه الإنسان من نوم خلال فترات النهار الطويلة فكم بقي من عمره ، قلت له (25) عام ، قال لي حسنا متى يبلغ الإنسان سن الرشد وحق التكليف والسؤال في الدنيا ، قلت له عند العمر (18) سنة ، قال لي اطرح من الـ(25) عام 9 سنوات النهار لأننا قد حسبنا سنوات الليل سابقا فكم يبقى من عمر الإنسان ، قلت له (16) عام ، قال لي كم يقضي الإنسان من عمره في السفر والتنقل وفي أكله وشربه وقضاء حاجته ، قلت له أكثر من نصف المدة المتبقية أي بقي (8) سنوات ، قلت له ما الغاية من كل حساباتك هذه ، أجابني هل يستحق هذا العمر القصير كل هذا الصراع في الدنيا وكل هذا القتال والجشع واللهو والتنافس والطمع والغش والحسد ثم بدء يحدثني على ان كل ما يقضيه الإنسان من صلاة في اليوم لا تتعدى ساعة من نهار ومع ذلك يتكاسل بها ويقضي ساعات اليوم وهو يقابل التلفزيون أو في اللهو الغير مفيد وهل يستحق هذا العمر القصير أن يدفع الإنسان مقابله خلود دائم في النار وعذاب الجحيم بدلا من جنات النعيم وبقيت استمع له وهو يشرح لي عن فضائل الآخرة وخلودها وتفاهة الدنيا وقصرها حتى توقف عن الكلام فابتسمت ، قال لي لماذا تبتسم الم يعجبك كلامي ، قلت له أعتذر يا عم ولكن حكمتك وتجربتك خانتك هذه المرة لقد خلق الله الأرض وخلق الإنسان ليعمرها وزينها وأحسن زينتها وملئها بالخيرات وجعل في الإنسان صفات كريمة وصفات لئيمة فتفوقت الصفات اللئيمة على الصفات الكريمة وقد قال الله جل جلاله في ذلك { إن الإنسان خلق هلوعا . إذا مسه الشر جزوعا . وإذا مسه الخير منوعا } [المعارج : 19-21] ، وقال في وصف الدنيا وزينتها وطمع الإنسان وجشعه وحبه للشهوات { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والآخرة والله عنده حسن المآب } [آل عمران : 14] ، وقال الله تعالى وهو يصف الإنسان بحبه ورغبته للخلود { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } [ البقرة : 96] ، وبقيت أقول وأقول ثم قلت له لولا هذا التكالب على الدنيا والطمع فيها لما وجدت عمارة قد بنيت ولا شارع ولا مزرعة ولا جامعة ولا شيء نراه على وجه الأرض قد انشأ ولو اقتنع كل إنسان بكسرة خبز وشربة ماء لما بنيت الحضارات والدول ، إن طمع الإنسان وجشعه هو الدوامة لهذه الدنيا ولو عشت لمليون سنة فسوف ترى الإنسان هو نفس الإنسان لم يتغير ، لا تغير لخلق الله ، إن حلمك الجميل في الحياة الفاضلة لا يوجد على الأرض الا في مخيلة الحالمين بالحياة النرجسية الفاضلة إنما هو موجود في الآخرة عند رب العالمين ، شعرت بان الحاج قد انزعج وتضايق وأصيب بالإحباط لذلك توقفت عن الكلام مع الاعتذار له .
مات الرجل الطيب العجوز ودفن معه حلمه الجميل في الحياة الفاضلة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
بقلم الكاتب : د. محمد خيري الماضي
31/1/2012
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"