الانتهازيون "4 " – د. محمد الكثيري

بواسطة قراءة 4322
الانتهازيون "4 " – د. محمد الكثيري
الانتهازيون "4 " – د. محمد الكثيري

ملاحظة من اللجنة العلمية بالموقع: لكثرة هؤلاء وانتشارهم وتفشي هذا المرض العضال والداء الخطير، واستشراء الأضرار المترتبة على ذلك وتضييع الحقوق والمبادئ والثوابت، وللتحذير من هذا المرض الفتاك وتنبيه جميع الزوار والقراء منه، ولتعميم الفائدة ارتأينا نشرها.

 

الانتهازيون "4 " – د. محمد الكثيري

 

(في الأجزاء الثلاثة من المقال سبق وتعرفنا على مفهوم الانتهازية ورؤية عامة حول خطر الانتهازيين ثم نحدثنا في حول وصفهم والتعريف بهم وبصفاتهم وسلوكهم وطريقة حياتهم ثم تحدثنا حول تاريخ الانتهازية والحديث عنها في القرآن والسنة النبوية ثم بعضا من سماتها , وفي هذا الجزء الأخير نتكلم حول أسباب ظهور هذه الظاهرة سواء في الأسرة أو في المجتمع , ونحتتم المقال بالتعريف بالعاقبة والمصير ثم رؤية مختصرة للحل كما يراه الكاتب ..)


أسباب ظهور الانتهازية:

إن الانتهازية داء خطير قد ينمو مع الشخص منذ طفولته، وللبيئة دور في استئصاله أو تكريسه بحسب جودة هذه البيئة أو دناءتها، لا سيما وقد غلب على البيئة التي نشأت فيها الأجيال المعاصرة تقديس المادة والتعلق بها مما يعزز هذه الظاهرة ويهيئ المناخ لتفشيها في ظل فقدان التربية المستقيمة، البعيدة عن دهاليز الانتهازية المظلمة وأساليبها الملتوية التي تورث الناشئة مزيداً من العقد النفسية والقيم الأنانية، وهذه البيئة قد تكون الأسرة التي ينشأ فيها المرء منذ نعومة أظفاره، وقد تكون بصورة أوسع تمثل المجتمع على اختلاف فئاته وطباعه وثقافته.

أولاً: الأسرة:

للأسرة دور مهم وخطير في تكريس قيم الانتهازية وتأصيلها عند الأطفال، فمن الأساليب التربوية التي تسبب الخلق الانتهازي عند تنشئة الطفل في الأسرة ما يلي:

1-انتهاج الأسرة أو أحد أفرادها هذا السلوك، فينشأ الطفل في بيئة انتهازية خصبة فيتعود عليه فيصبح خلقاً طبيعياً، وممارسة يومية معتادة في حياته.

2-ضعف التربية الوجدانية الإيمانية وعدم تنمية روح الثواب والعقاب الأخروي لدى الطفل.

3-ضعف الاتصال العاطفي وعدم شعور الطفل بالحب والحنان وتقبل الوالدين.

4-التسلط وفرض التبعية على الطفل، وتجبر الوالدين أو أحدهما وعدم منح الطفل فرصة للحديث والتعبير وطرح التساؤلات.

5-تلقين الناشئة بعض الأمثال الشعبية المتداولة ذات المضامين الانتهازية وجعلها بمثابة القواعد الثابتة في التعامل مع الآخرين.

6- فرض الطاعة بناء على معايير هشة لا تتعلق بالأهلية أو الجدارة مثل كبر السن أو الغنى أو الجاه أو الوظيفة أو الرتبة أو سواها مما ليس له علاقة بالرأي المطلوب اتباعه.

7-تعميق شعور التنافس لدى الناشئة، وغلبة روح الشح والأثرة في نفوسهم، وغياب قيم التعاون والتكافل والتكامل مع الآخرين، وفقدان الإنجازات الجماعية التي يشترك الجميع في تحقيقها والاعتزاز بها، وعندما يوجد شيء منها فقد ينتحله أحد الأشخاص أو ينسب إليه بحكم موقعه، ويغفل أي دور للآخرين في تحقيقه، وكأن القمة لا تتسع إلا لشخص واحد، أو أنه لا قيمة لمن ليس في القمة!

ولبعض الألعاب الحديثة دور في تكريس الروح التنافسية، لكون الفوز فيها يتطلب تدمير الطرف الآخر وسحقه، وكأن النجاح الحقيقي لا يتحقق إلا على أنقاض الآخرين وتحطيمهم.

ثانياً: المجتمع:

ويشمل المجتمع المدرسة والسوق ومكان العمل ونحو ذلك، ويعتمد مدى التأثر بالمجتمع وسرعة التطبع بطباعه على طبيعة الشخص أو قوة تأثير المجتمع والبيئة التي يعمل بها، ومن أبرز هذه الأسباب:

1- الطبع وما جبلت عليه بعض النفوس الضعيفة وما اعتادته وترتب عليه من نيل ما تريد بالتمسكن والتضعف والتملق والتخضع، ولهذا الطبع ثقافة بدأت تسود وتتفشى بين فئات المجتمع من منطلق: تمسكن حتى تتمكن.

2-ضعف الإيمان بالله تعالى وقلة الوازع الديني، وعدم الخوف من الله جل وعلا ومراقبته في السر والعلن.

3-ما يصنعه بعض المديرين من حبٍ وتشجيعٍ للمدح والثناء – ولو زوراً – شعراً تارة ومقالة تارة وحديثاً أو خطاباً تارات أخرى.

4-التملق للتخلص من عبء المساءلة والمحاسبة حال الفساد أو التقصير.

5-حب الدنيا والتطلع لتحقيق مكاسب مادية أو معنوية ووجاهة اجتماعية زائفة، وقد شخص ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". وكما قيل: "عندما يبدأ الإنسان في الكفاح للوصول إلى السلطة، يبدأ الفساد يدب في سلوكه".

6-ضياع الأمانة عندما لا يوسد الأمر لمن هو جدير به، ويقدم عليه من هو دونه، لاعتبارات كثيرة أبعد ما تكون عن الجدارة والكفاءة والأهلية.

7- ضعف الجهات الرقابية وعدم فعاليتها في ممارسة صلاحياتها، أو أحياناً يكون قد دب إليها هذا الداء، وأصبحت الرقابة تحتاج إلى رقابة! فكيف تداوي الناس وأنت عليل؟ كما قيل.


وأخيراً فإن للسلوك الاستهلاكي دوراً مهماً في انتهاج السلوك الانتهازي في التعامل مع الناس، فعندما يعتاد الشخص نمطاً استهلاكياً معيناً في حياته فإنه وللمحافظة عليه وإشباع نهمه المتنامي لا بد وأن يتخلى عن كثير من الأخلاق والقيم التي تحول دون تحقيق هذا النمط أو تؤثر فيهن فتجده عندما يستلم منصباً معيناً يكون هاجسه الأكبر هو تحسين وضعه المادي بشكل سريع قبل مغادرة هذا المنصب، وبأي وسيلة كانت، بالتزلف تارة أو الرشوة تارة أخرى، أو التفريط في أهداف العمل أحياناً ما دام أن هذا سيكفل له ارتفاع الرصيد.


المصير والعاقبة:

لا يعرف الانتهازي شيئاً اسمه السعادة أو الطمأنينة أو انشراح الصدر وراحة البل، وكل نصيبه من ذلك متعة زائلة تعقبها حسرات دائمة، حياته كلها اضطراب وتوتر وقلق، يتقطع ندماً على ما فات، ويحمل هماً لما هو آت، لا يقنع بما عنده، ولا يرضى بما قسمه الله له، تدركه عقوبة الظالم لما انطوت عليه انتهازيته من ظلمٍ وتعدٍ وانتهاكٍ للحقوق.


عواقب الظلم لا تخفى على أحد، فمنها العاجل في الدنيا، ومنها الآجل في الأخرى عندما يأتي يوم القيامة مفلساً، والظالم متعرض لدعوة المظلوم التي لا ترد، وقد أقسم الله أن ينصرها ولو بعد حين، والشواهد ماثلة ومصارع الظالمين معروفة.

قال عبد العزيز الكتاني – صاحب كتاب الحيدة – للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رؤي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن. فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير ابن الزيات قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر. فقال: يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين إلا كافراً، ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال: قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً. ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً، قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار. وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني بالفالج – ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً.


وذكر ابن القيم – رحمه الله – بعض المفاسد المترتبة على حب الرياسة وعاقبتها فقال: "إن طلاب الرياسة يسعون في تحصيلها لينالوا بها أغراضهم من العلو في الأرضن وتعبد القلوب لهم، وميلها إليهم، ومساعدتهم لهم على جميع أغراضهم مع كونهم عالين عليهم قاهرين لهم، فترتب على هذا المطلب من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله من البغي والحسد والطغيان والحقد والظلم والفتنة والحمية للنفس دون حق الله، وتعظيم من حقّره الله، واحتقار من أكرمه الله، ولا تتم الرياسة الدنيوية إلا بذلك، ولا تنال إلا به وبأضعافه من المفاسد، والرؤساء في عمى عن هذا، فإذا كشف الغطاء تبين لهم فساد ما كانوا عليه، ولا سيما إذا حشروا في صور الذرّ يطؤهم أهل الموقف بأرجلهم إهانة لهم وتصغيراً كما صغَّروا أمر الله وحقَّروا عباده"، نسأل الله أن يمن علينا جميعاً بالهداية والتوفيق لكل خير، وأن يعيذنا من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والله وحده المستعان.

 

ما الحل؟

في ظل الواقع المرير الذي يجثم عليه الانتهازيون، وتسود فيه أدبياتهم، ويقع المجتمع – أي مجتمع – ضحية لعتاتهم الذين يقومون بنحر قيمه وتبديد طاقاته وثرواته وإفساد أجياله دون هوادة أو رحمة، يبرز التساؤل المهم: ما الحل؟ نعم، ما هو الحل ونحن نرى كثيراً من خيرة أبناء المجتمع وهم يفقدون روح التفاني والتضحية بسبب شعورهم بالإحباط الذي يصل إلى حد اليأس في بعض حالاته، مما دفعهم إلى العزلة والانزواء بعيداً عن مواقع التأثير، تاركين لهؤلاء الشراذم من مزيفي الضمائر حرية العبث بمقدرات المجتمع وطاقاته يبيعونها بأبخس الأثمان في سوق نخاسة لا مثيل له.

إنها بداية الهزيمة والخسارة الاجتماعية الجسيمة حينما يستولي شعور اليأس من الإصلاح على النفوس، فترضى بالاستسلام في معركتها مع الانتهازيين من سماسرة المبادئ والقيم والمثل، ماذا عساه أن يصنع هذا المحبط بل واليائس وهو يرى التعليم مثلاً، صناعة المستقبل والأجيال، في انحدار، والبطالة في ازدياد رغم وفرة الموارد! والأقساط والديون التي تثقل كواهل كثير من الأسر، وفي المقابل بذخ البعض في سفريات مدفوعة مهما طالت أو كلفت! وتخبط السفهاء من الإداريين، وسموم المخدرات وهي تفتك بالشباب يوماً بعد يوم دون أي اكتراث من قبل هؤلاء السماسرة في هذه المؤسسات "التربوية"!

ولكون هذه الظاهرة تتفشى وتستفحل عندما تجد المناخ الملائم لها، فإن أنجع وسيلة وأسهل طريقة للقضاء عليها والحد من خطرها والتخلص من آثارها النكدة، هي كشف دهاقنتها وفضح أحابيلهم التي ينصبونها لمجتمعنا الطيب بكل فئاته، لئلا يفتكوا بقيمه السامية وخصاله الكريمة وأخلاقه النبيلة وأهدافه الكبرى وغاياته العظمى بنحرها قرباناً على بساط التزلف والتملق والتكسب، أو بسريان نفَسهم الخبيث فيه، وانتشار طرائقهم بين الناشئة فيتطبعوا بطباعهم، لا قدر الله.

إن كشفهم بكثرة الحديث والكتابة عنهم والتحذير منهم، وكشف صفاتهم وأحابيل مكرهم تجعل من أساليبهم الملتوية أوراق توت تتهاوى لتسفر عن وجه قبيح المنظر، كريه السمات، فأُولى خطوات الحل إذن للقضاء على هذا الداء واقتلاعه من جذوره وتطهير المجتمع من فيروساته وجراثيمه المتعفنة – وإن كان يبدو عسيراً أو مستعصياً – هي الرقي بوعي الناس تجاه هذا الداء وصقل مواهبهم وتدريب حواسهم لتكون قادرة على كشف أنماط الانتهازيين وتعريتها بكشف الانتهازيين والحديث عن ممارستهم والتحذير منهم، والتضحية في سبيل ذلك، لئلا ينشأ جيل يتربى على القيم الانتهازية وثقافتها، فيصاب بمرض نقص المناعة "إيدز الانتهازية" فيفقد الحصانة من دائهم، ويتوهم أن هذه هي الطريقة المثلى للعيش وتحقيق الهدف، فيستشري شرهم ويتأصل في النفوس، فيتفاقم خطرهم ويستعصي علاجهم.

 

د. محمد الكثيري

 

المصدر: موقع المسلم