مررت بنفس الطريق الذي يؤدي الى بيتي وكالعادة لا جديد ,, فالشارع نفس الشارع والوجوه هي ذاتها ,, كل من تصادفه بطريقك أما يبادرك بكلمة ( هاي ) أو أنه يتبسم لك رغم عدم معرفتك به ,, أو أنه ينظر اليك نظرة خاطفة وكأنك كائن هبط من كوكب آخر ؟؟ أو مخلوق سقط من مركبة فضائية ضلت طريقها الى المريخ ؟؟؟
هذا وإن كان الناظر إليك أبيضاً أو أسوداً أو برونزياً أو من ذوي الدماء الصفراء ,, فذلك شيء معمول به بين كافة شرائح المجتمع الأميركي ,, وإن لم يكن لي سابق معرفة بالولايات الأخرى ... إن كان يفعلون مثل هذا الأمر عندهم .
ولكن اليوم كان هناك أمر مختلف عن سائر الأيام ,, رأيت رجلاً على مشارف الستينات من عمره يجلس على مسطبة احد الأرصفة وهو مطرقاً برأسه الى الأرض ,, وما لفت أنتباهي هو صوت نحيب وحشرجة تصدر منه ,, كأنه فقد عزيزاً عليه تواً ,, أو خسر كل ما يملك بلمح البصر ,, كما أن ملامحه الشرقية أثارت فضولاً في داخلي ,, مما دفعني للجلوس الى جانبه ,, ومن غير مقدمات وبلهجتي الفلسطينية بادرته بالسلام عليكم يا أخي ,, فجأة توقف نشيجه ونحيبه معاً و بقيت دموعه تنساب على وجهه بغزارة وقد أبتلت لحيته البيضاء…
رد عليً السلام قائلاً أنت فلسطيني من العراق ,, قلت نعم ,, وأنت من أين يا أخي قال أنا كذلك ,, قلت بالله عليك يا أخي ما الذي يبكيك ,, وهل لي أن أقدم لك أي مساعدة ,, فأنا بالخدمة ,, قال ساقول لك ما بي وما الذي يبكيني بعدها أنت قدر هل ممكن أن تقدم لي يد العون أوالمساعدة أم لا ؟؟.
قال جيًء بي مع من جاءوا بهم من بلدتي عام 1948 وكنت أبلغ من العمر بضعة سنين ,, وكان أبي وأمي يتناوبان على حملي عندما يشتد بي التعب من طول المسير عبر الطرقات الوعرة ,, لأن اليهود ومعهم الأنكليز كانوا يطاردون النساء قبل الرجال والصغار قبل الكبار ,, كنا نتعرض لعملية اقتلاع من جذورنا بل كانوا يفعلون بنا ما يسمى بـ (( الإبادة بشرية )) بكل ما تعنيه هذه العبارة ,, بقينا أياماً على حالنا هذا الى أن عثر علينا جنود عرب بعدها عرفنا بأنهم عراقييون ,, لأنهم أركبونا بسيارات عسكرية وكانت وجهتنا العراق ,, وكنت أسمع أبي يقول لأمي مواسياً لها ,, كلها أيام أو عدة أشهر ونعود الى بيتنا وأرضنا وحقولنا وذكرياتنا وأيامنا الحلوة فلا تبتأسي ,, وترد عليه بأبتسامة حائرة ترسمها عنوةً على وجهها المائل للاصفرار الذي أعتلاه الغبار الممزوج بدمعاتها ,, حتى خيل الي أني أرى تضاريس أرضنا قد خطت على محياها ,, أو كأن يحسبها الناظر لها هناك خارطة وطن قد رسمت ما بين الجفن والعين ؟؟
كان نصيبنا ملجأ الشعيبة في البصرة ؟؟ ثم تم نقلنا الى بغداد الى ملجأ سمي فيما بعد ( التورات المحروقة ) الى أن أستقر بنا المقام في ملجأ ( طلفاح ) بغرفة مظلمة والعفونة الصادرة منها تزكم الأنوف ,, فالجدران والسقوف أشبه برجل مسلول لا شفاء له ؟؟ أما الأرض كان فيها من الثقوب يمكن لي أن أواري جسدي كله لأختبيء بأي منها ؟؟ والشبابيك قامت أمي بتغطيتها بقطعة نايلون كي تجنبنا الهواء ولاتحجب أشعة الشمس التي كانت تتخللها بين الفنية والفنية خجلاً ,, والباب لم يكن نصيبه أقل حظاً من الشبابيك فقد قدت أمي أخر ماتبقى لها من ثياب لتجعله منه باباً ؟
أعذرني يا أخي فأنا أعرف نفسي كثير الكلام ,, فهم واقفاً ماداً لي يده كي يصافحني مودعاً ,, فسارعت له بالقول الى أين يا أخي ,, لن أدعك حتى تكمل لي قصتك التي بت مشغوفاً لسماعها حتى النهاية ..
قال لي قد يستعوقوني أهل بيتي ,, والتعب من الكلام قد أخذ مني مأخذ ,, وقد أرحت جسدي بعض الشيء من طول جلوسي على هذه المسطبة ,, والكلام معك يا أخي قد أراحني ونفس عني همي ولو أنه أباح سري لك ,, وأنا للأن لا أعرفك قلت له أرى فيك بعض الشيء مما يشبهني أو يشبه حكايتي فكلانا فلسطينيان من العراق قال أذن لي لأنه صار لزاماً عليً الذهاب الأن ,, وسنلتقي غداً أو بعد غد وسيكون للحديث بيننا بقية ,, هذا أن كان هنالك في العمر بقية أن شاء الله ,,,
بقلم / جمال أبو النسب
الولايات المتحدة الأمريكية / كاليفورنيا
13/4/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"