الوعي الذي أظهره عقلاء المخيم ، ورجالاته وعموم أبنائه فوت على اللاعبين بالنار فرصة جر المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سوريا إلى آتون الأزمة الداخلية في البلاد ، وأظهرهم على حقيقة موقفهم الوطني المنادي بالحياد الإيجابي الحقيقي القائم على التضامن مع سوريا ومع شعبها ، والمنادي بالمحافظة على وحدة البلاد والعباد ، في ظل تشابكات اللعبة الإقليمية والدولية الخطيرة التي لا تريد الخير لا لسوريا ولا لشعبها .
لقد كانت فاجعة اليرموك ، مؤلمة بكل المقاييس ، فقد نزفت دماء بريئة من شبان ورجال وأطفال مخيم اليرموك لا ذنب لأصحابها، واختلطت دماء أبناء سوريا وأبناء فلسطين معاً مثلما اختلطت على الدوام على أرض فلسطين والجولان ولبنان ، فيما قام أهالي المخيم وحكماؤه ومتعقلوه بلملمة الجراح ، والإسراع بدفن "الشهداء" ، وإحكام العقل والحكمة في معالجة الأمور ، وإبعاد ونفي لغة وسلوك الغرائز والتفلتات حفاظاً على الناس وعلى دمائهم ، وعلى الأمن المجتمعي ، وعلى دور مخيم اليرموك الإيجابي في جواره المحيط والمتميز باكتظاظه السكاني من مختلف مناطق سوريا .
فلماذا هذا الاستهداف اللئيم والغادر لمخيم اليرموك ولعموم الفلسطينيين في سوريا ، خصوصاً وان عمليات الاستهداف طالت في وقت سابق عددا من ضباط وجنود جيش التحرير الفلسطيني ؟ .
أغلب الظن ، أن الموقف الوطني العاقل والمتعقل المُتخذ فلسطينياً وبإجماع وطني وعلى كل المستويات ومن قبل جميع القوى والفصائل من حركة حماس إلى حركة فتح وما بينهما ، وعموم المؤسسات والهيئات الشعبية والمجتمعية الفلسطينية ، لا يروق للكثيرين ممن يَدعون وينظّرون لزج الفلسطينيين في آتون اللهيب المشتعل في سوريا ، تحت عناوين براقة ولمّاعة ، لكنها عناوين تجانب الحكمة والبصيرة والتبصر والتعقل ، وتصب في مسار لا يخدم لا القضية الفلسطينية ولا حتى القضية السورية ولا مطالب الشعب السوري الشقيق .
إن للفلسطينيين قضية حية متقدة منذ أكثر من ثمانين عاماً إبان صدور وعد بلفور اللئيم ، وهي أنبل قضايا العصر والإنسانية ، تفترض عليهم على الدوام الانشداد لحلقتها المركزية المتمثلة بالصراع مع الاحتلال الصهيوني داخل الوطن الفلسطيني المحتل ، إضافة للتركيز على دور فلسطينيي الشتات في توفير الجبهة الثانية في تدعيم وتطوير العملية الكفاحية الفلسطينية في الداخل بعد انتقال ثقل الحركة الوطنية الى قلب فلسطين .
إن وعي الفلسطينيين ، وارتقاءه وسموه ، يُشكّل الآن سلاحاً هاماً للنأي بهم عن مسارب مخيفة ومظلمة لا قدر الله في أزمات طاحنة تعيشها المنطقة ككل ومنها سوريا على وجه الخصوص ، ويدفع بهم هذا الوعي الراقي في سموه وفي نباهته وحذقه الرفيع لمساعدة سوريا وشعبها الشقيق من أجل وقف نزف الدماء ، وفتح الدروب أمام التغيير الحقيقي في بلد كان ومازال موئلاً لفلسطين وشعبها .
فالحكمة تقضي أن يبقى اللاجئون الفلسطينيون في سوريا خارج معادلة الأزمة السورية ، لا لأنهم لا يأبهون لما يجري في سوريا الشقيقة ، بل لأن دخولهم في آتون تلك الأزمة من شأنه أن يضيّع اتجاه بنادقهم ، ويعقّد المشهد السوري أكثر ولا يقدم أي مساعدة للشعب السوري ولسوريا ، ولا يخدم على الاطلاق مشروع التغيير والإصلاح في سوريا .
لقد تعلم الفلسطينيون من تجربتهم، ومن كيسهم خلال العقود الأخيرة من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، وقد تاهت سُفنهم في فترات معينة بأزمات فُرضت عليهم في أكثر من مكان من بلاد العرب ، فدفعوا الأثمان الباهظة والمكلفة ، وكان أخرها ما جرى معهم في الكويت .
وفي العراق حيث ضاقت أرض العرب بثلاثين ألف مواطن فلسطيني على اتساعها ، فلم يجدوا لهم مكاناً في دنيا العرب سوى التوسل للمنظمات الإنسانية والدولية التي استطاعت نقل غالبيتهم للهجرة الى بلاد نائية وبعيدة عن كل منطقة الشرق الأوسط ، إلى تشيلي ونيوزلندا وكندا والأرجنتين وماليزيا وغيرها من أصقاع المعمورة الممتدة بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب .
إن الغيرة الفلسطينية على سوريا وشعبها ، والتضامن اللصيق والتعاضد النهائي مع الشعب السوري وسوريا ، أمر مطلوب وواجب من منطلق الوفاء ، ومن موقع الحرص على شعبٍ وعلى بلد أنجب قائد الثورة الفلسطينية الكبرى عامي 1935/1936 "الشهيد" عز الدين القسام ، ابن مدينة جبلة الواقعة على الساحل السوري جنوب مدينة اللاذقية .
وعليه ، فإن ما أبداه أهالي مخيم اليرموك من شبابه ورجاله وعموم أبنائه في محنتهم الأخيرة ، يشكّل رسالة طيبة ، ورائعة في الحكمة ، وفي المعالجة الحية الدقيقة والحساسة لمسائل طارئة بدت في مراحل حرجة من حياة سوريا الشقيقة والشعب السوري الطيب النبيل .
المصدر : صحيفة البيان الإماراتية
21/8/2012