قال
تعالى (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ).[1]
ثم
يشرع الله سبحانه بذكر فظائع من أحوال أهل النار، فقال سبحانه( إِذَا أُلْقُوا
فِيهَا ) أي طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى بهم، ولم يقل سبحانه(
أدخلوا ) مع أنهم داخلون للنار، لبيان شدة عذابهم وصغارهم ومهانتهم وتحقيرهم حال
دخولهم نار جهنم، كما يشير ( ألقوا ) أن النار سفلية فيلقى بهم من أعلى لأسفل.
ونظير
ذلك ما بينه الله سبحانه في آيات أخرى وكيفية سحبهم ودفعهم في النار، قال تعالى( يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا
تُكَذِّبُونَ )[2]،
أي يدفعون إليها دفعا ويساقون سوقا، وقال عز وجل( إِذِ الْأَغْلَالُ فِي
أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ )[3]،
وقال جل وعلا( يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ
سَقَرَ )[4].
قالوا:
الشهيق فى الصدر، والزفير فى الحلق،أو شهيق الحمار آخر صوته، والزفير أوله،
والشهيق: رد النفس، والزفير: إخراجه.( وَهِيَ تَفُورُ ) أي والحال أنها تغلى بهم
عليان المرجل بما فيها من شدة التلهب والتسعر؛ فهم لا يزالون صاعدين هابطين كالحب
إذا كان الماء يغلى به لاقرار لهم أصلا،والفور شدة الغليان.[5]
قَالَ
الثَّوْرِيُّ: تَغْلِي بِهِمْ كَمَا يَغْلِي الحَبّ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ
الْكَثِيرِ.[6]
والآية
كأنها تشير لقوله تعالى في موضع آخر أن الناس والحجارة هم وقود النار وحصب جهنم،
إذ يقول سبحانه(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )[7]، فالهيئة والصفة التي
يدخلون بها كصفة صب الوقود على النار المستعرة، كما أن طريقة إلقائهم تؤكد ذلك.
وهنا
صورة جديرة بالتأمل يعطيها لنا القرآن؛ وهو مشهد النار كسجن كبير بعيد القعر تستعر
ناره بشدة، ويلقى فيه أعداء الله مهانين صاغرين أذلاء، فيشهق إليهم ويفور بهم
ويغلي ويرتفع ويحطم بعضه بعضا، أو صورة النار كقدر كبيرة تستعر النيران فيها فإذا
ألقى فيها الكافرين شهقت من شدة الغليان بهم ولك أن تجلس فتتدبر وتنظر كم سيكون
هناك من صراخ يصم الأذان وآلام وخوف وحسرات واضطراب ولعنات ورعب وذل ونحوذلك .
كان
عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، وقال
أنس رضي الله عنه: كان أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام ( ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )[8].
وبين
عليه الصلاة والسلام بأن جهنم يؤتى بها ولها مرابط عظام وملائكة يجرونها، إذ يقول
عليه الصلاة والسلام( يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف
ملك يجرونها ).[9]
ويقول
عليه الصلاة والسلام( لا تزال جهنم يلقى فيها و تقول: { هل من
مزيد } حتى يضع فيها رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط
و عزتك و كرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول
الجنة ).[10]
ويقول
عليه الصلاة والسلام( ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها ).[11]
ويقول
عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه( يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في
النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار
فيقولون:يا فلان! ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن
المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر
وآتيه ).
كان
السلف الصالح يستحضرون عذاب النار وما فيه من أهوال خوفا وشفقة، حتى انعكس على
حالهم وأقوالهم، قال عمر رضي الله عنه: لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم
داخلون الجنة كلكم إلا رجلا واحدا لخفت أن أكون أنا هو.
قال
يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة.
وقال
محمد بن واسع: إذا رأيت في الجنة رجلا يبكي ألست تعجب من بكائه؟
قيل:
بلى..
قال:
فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري ماذا يصير هو أعجب منه.
وكان
طاوس يفرش فراشه ويضطجع عليه فيتقلى كما تتقلى الحبة في المقلاة، ثم يقوم فيطويه
ويصلي إلى الصبح ويقول: طيّر ذكر جهنم نوم الخائفين.
ولله
در مضاء بن عيسى يقول: من رجا شيئا طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه، ومن أحب شيئا آثره
على غيره.
فإن
قال قائل: لماذا عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ: الشهيق، وفي الآية الأخرى بلفظ
الزفير؟ الشهيق -كما هو معلوم لديكم- إدخال الهواء بشدة إلى الجوف, فكأن جهنم
عندما يلقى فيها الكفار تشهق شهقة تأخذهم وتسحبهم إلى جوفها من الداخل، أما (إِذَا
رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) فكأنها كانت تكتم شيئاً في صدرها، فأخرجت النفس
ارتياحاً لأنها رأت بغيتها! فلما رأتهم من مكان بعيد أخرجت الهواء الذي بداخلها ثم
لما ألقوا فيها سحبتهم بشهيق زائد حتى أدخلتهم في جوفها حتى يتمكنوا فيها من
الداخل, والله أعلم.[12]
اللهم
أعذنا وأجرنا من عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار يا عزيز ويا غفار.
7/ رمضان / 1434هـ
16/7/2013م
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة
النشر بشرط ذكر المصدر"