كلمات قصيرة وإشارات عابرة وتذكرة عاجلة، قد تُقَلِّب المواجع وتُقلِق
المضاجع، لكن لا خير فينا إن لم نتناصح ونتصارح، سيما في زمن طغت فيه الماديات
وانغمس الناس في الملذات، واستحسنوا الهوى دون النظر في الانعكاسات والسلبيات
والمآلات!
الأخوة في الله عقد وثيق ظاهرا وباطنا، وواجب ديني وفريضة شرعية وعلاقة
حقيقية عميقة، ليست مجرد شعور نفسي أو تنظير فلسفي أو علاقة اجتماعية عابرة، بل هي
مجموعة من السلوكيات والأعمال، تنبع من مسؤولية ذاتية، تدفع صاحبها لأداء حقوق وواجبات
مترتبة عليه.
الأخوة حياة الروح وروح الحياة، فالأداء العملي التطبيقي للحقوق والواجبات
المتبادلة انعكاس فعلي للأخوة الصادقة، وبقدر تأدية هذه الحقوق أو ضعفها والإخلال
بها، تدوم الأخوة وتستمر أو تنفصل وتنخرم، فادعاء الأخوة إذا لم تحققه الفعال
وتُقم عليه البينات فأصحابه أدعياء!
وما المرء إلا بإخوانه * كما تقبض الكف
بالمعصم
ولا خير في الكف
مقطوعة * ولا خير في الساعد الأجذم
هنالك ثمانية حقوق عامة بين المسلمين من جهة أنه مسلم، وجمعت في قوله عليه
الصلاة والسلام كما في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:( أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ
الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِبْرَارِ
الْقَسَمِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ
)، وفي رواية لمسلم (وَإِرْشَادُ الضَّالِّ، بَدَلَ إِبْرَارِ الْقَسَمِ )[1].
أما الحقوق الخاصة التي ينبغي مراعاتها، إذا قامت بينك وبين أخيك مودة
ومحبة وعلاقة واقتران، وتحقيق أخوة حقيقية صادقة، لتكون ترجمان عملي لتلك العلاقة
المهمة والآصرة الوثيقة، من أبرزها:
1- من أعظم الحقوق أن تقوم الأخوة على إخلاص المحبة في الله ولله، دون أي
غرض دنيوي أو منفعة طارئة أو مصلحة مؤقتة عابرة.
2- حقوق مالية: من خلال بذل المال والمواساة بحسب الاستطاعة، والمبادرة
بتقديم يد العون دون انتظار السؤال أو طلب المعونة، لأن البذل والعطاء ابتداء من
مقتضيات الأخوة الخاصة، يقول عليه الصلاة والسلام( وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ
أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ )[2].
ومن عجائب تفقد الأخوة والإيثار والصور المشرقة، جَاءَ الرَّبِيعُ بْنُ
خُثَيْمٍ إِلَى أُمِّ وَلَدِهِ فَقَالَ: اصْنَعِي لَنَا طَعَامًا، وأَطْيِبِي
فَإِنَّ لِي أَخًا أُحِبُّهُ أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَهُ فَزَيَّنَتْ بَيْتَهَا وَصَنَعَتْ
مَجْلِسَهُ وَصَنَعَتْ طَعَامًا وَأَطَابَتْهُ ثُمَّ قَالَتِ: ادْعُ أَخَاكَ،
فَذَهَبَ إِلَى سُلَالٍ جَارٍ لَهُ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَجَاءَ بِهِ حَتَّى
أَجْلَسَهُ فِي كَرِيمِ مَجْلِسِهِ ثُمَّ قَالَ: قَرِّبِي طَعَامَكِ، فَقَالَتْ:
فَمَا صَنَعْتُ هَذَا الطَّعَامَ إِلَّا لِهَذَا قَالَ: وَيْحَكِ قَدْ صَدَقْتُكِ
هَذَا أَخِي وَأَنَا أُحِبُّهُ فَجَعَلَ يَأْخُذُ مِنْ طَيِّبِ ذَلِكَ الطَّعَامِ
فَيُنَاوِلُهُ.[3]
والحقوق المالية بين الأخوة على ثلاث مراتب:
أدناها: أن تسد حاجته وتقوم برعايته من فضل مالك.
أوسطها: أن تنزله منزلتك وترضى بمشاركته بمالك.
قال عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِرَجُلٍ: هَلْ
يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ فِي كُمِّ أَخِيهِ وكيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟
قال: لا،قال: فلستم بإخوان.[4]
أعلاها: وهي مرتبة الصديقين بأن تقدم حاجته على حاجتك.
كما في قوله سبحانه( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ )[5]،
وروي أن مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى
دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.[6]
3- حقوق بدنية: بأن تقوم بنفسك بقضاء حوائج إخوانك، وهي على مراتب ثلاث:
أدناها: القيام بحاجته عند السؤال مع إظهار الفرح والاستبشار.
قضى ابن شبرمة حاجة لبعض إخوانه كبيرة فجاء بهدية فقال ما هذا قال لما
أسديته الي فقال خذ مالك عافاك الله إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها
فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى.[7]
أوسطها: أن تكون حاجته مثل حاجتك.
وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه، ويسأل ويقول: هل لكم زيت هل لكم
ملح هل لكم حاجة؟ وكان يقوم بها حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ أَخُوهُ، وَبِهَذَا
تَظْهَرُ الشَّفَقَةُ والأخوة، فإذا لَمْ تُثْمِرِ الشَّفَقَةَ حَتَّى يُشْفِقَ
عَلَى أَخِيهِ كَمَا يُشْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهَا![8]
أعلاها: أن تقدم حاجته على حاجتك.
كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا
بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة.[9]
4- الولاء والنصرة وعدم الخذلان: بأن تواليه على الحق وتآزره وتنصره في
النوائب والمحن، قال تعالى( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ )[10]،
وقال عليه الصلاة والسلام( إنَّ المُؤمِنَ للمُؤْمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا .
وشَبَّكَ أصابِعَهُ )[11].
5-
المواساة وحسن العشرة: بدءا بالابتسامة والكلمة الطيبة والبشاشة في الوجه والفرح
باللقاء، وانتهاء ببذل المال لتأليف قلبه واستمرار أواصر الأخوة، ومن أعظم
المواساة الصدق في النصيحة وتثبيته على الدين، يقول ابن عمر – رضي الله عنهما-: لَقَدْ
أَتَى عَلَيْنَا زمانٌ وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ
أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى
أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَمْ مِنْ جَارٍ متعلقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
يَقُولُ، يَا رَبِّ! هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ![12]
6- من الحقوق المهمة أن تحفظ عرضه، بالسكوت عن
ذكر عيوبه بحضرته وغيبته.
7- حفض الجناح وحسن الخلق وإقالة العثرات والعفو عن الزلات، ومجانبة الحقد.
8- بذل العطاء والشفاعة الحسنة.
9- السكوت عن المماراة والجدال، والثناء عليه بما لديه من محاسن.
10- التودد باللسان وتفقد الأحوال وإخباره بمحبته.
11- أن يدعوه بأحب أسماءه إليه في غيبته وحضوره.
12- الدعاء له في حياته وبعد مماته، حتى أن بعض السلف إذا أراد أن يدعو
لنفسه يدعو لأخيه بتلك الدعوة.
13- الوفاء في حياته، ومع أولاد وأصدقائه بعد وفاته.
14- أن لا يتغير عنهم إذا حدث له غِنى.
15- أن يحفظ سره ولا يقبل عليه قول واش ولا نمام.
لكن المتأمل لما وصلت إليه أحوال الأخوة الإسلامية والصحبة، في زمن طغت
عليه الماديات، وضعفت فيه أواصر المحبة الحقيقية في الله، واستبدلت بشكليات ومظاهر
خداعة، أشبه بالنفاق والتظاهر والتصنع، ترتب عليها نتائج وخيمة ومخاطر تنذر بكوارث
على الأجيال القادمة، حتى صار الحال كما يقول الشاعر في المقارنة بين أخلاق من مضى وأخلاقنا:
سلام الله عليهم إنهم أبرار * لم يبق منهم
إلا أخبار وآثار
يقول ابن الجوزي واصفا حال زمانه: إخواني: نسخ في هذا الزمان رسم الأخوة
وحكمه، فلم يبق إلا الحديث عن القدماء، فإن سمعت بإخوان صدق فلا تصدق!![13]
وكان أعرابي بالكوفة وكان له صديق وكان يظهر له مودة ونصيحة فاتخذه
الأعرابي من عدده للشدائد إذ حزب الأعرابي أمر فأتاه فوجده بعيدا مما كان يظهر
للأعرابي فأنشأ يقول[14]:
إِذَا كَانَ وُدُّ الْمَرْءِ لَيْسَ
بِزَائِدٍ * عَلَى مَرْحَبًا أَوْ (كَيْفَ أَنْتَ) وَحَالُكَا
وَلَمْ يَكُ إِلا كَاشِرًا أَوْ مُحْدِثًا *
فَأُفٍّ لِوُدٍّ لَيْسَ إِلا كَذَلِكَا
لِسَانُكَ مَعْسُولٌ وَنَفْسُكَ بَشَّةٌ *
وَعِنْدَ الثُّرَيَّا مِنْ صَدِيقِكَ مَالُكَا
فَأَنْتَ إِذَا هَمَّتْ يَمِينُكَ مَرَّةً *
لِتَفْعَلَ خَيْرًا قَاتلَتْهَا شِمَالُكَا
6-4-2016م
[1]جامع العلوم والحكم (2/90).
[2]متفق عليه.
[3]الزهد لأحمد بن حنبل ص275.
[4]إحياء علوم الدين (2/174).
[5](الحشر:9).
[6]إحياء علوم الدين (2/174).
[7]إحياء علوم الدين (2/175).
[8]إحياء علوم الدين(2/175).
[9]إحياء علوم الدين(2/176).
[10](الأنفال:72).
[11]متفق
عليه.
[12]صحيح
الأدب المفرد برقم 51.
[13]التبصرة
(2/280).
[14]روضة العقلاء
لابن حبان ص105.