سنتذاكر معكم أيها الأحبة الكرام في هذه
الخواطر، بعض الحقائق المرتبطة بأرض طيبة باركها الله وقدسها، تميزت منذ أن أوجدها
الله بالمكانة والأهمية الدينية والتاريخية، كيف لا وهي لب الصراع بين الحق
والباطل بمختلف الحقب والأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
عندما نتحدث عن الأرض المقدسة؛ نتكلم ابتداء عن المسجد الأقصى البيت
المبارك، وعن بيت المقدس تلك المدينة العريقة، وعن جنة الله في أرضه فلسطين، وعن
خيرة الله من أرضه بلاد الشام عموما.
سنحذو في هذه الخاطرة حذو الصحابة الكرام خير من يقتدى بهم بعد الأنبياء،
فقد كان للمسجد الأقصى مكانة كبيرة في نفوسهم ووجدانهم، حتى أنهم لم يغفلوا عن
ذكره وتذكّره وإن لم يشاهدوه أو يزوروه، وكأنهم بلسان حالهم ومن شدة اهتمامهم قد
رأوه بأعين قلوبهم قبل أعين أبصارهم، وسمعوا عنه بآذان عقولهم قبل آذان أسماعهم.
على الرغم من أن الأمة هذه الأيام تمر بحالة من الضعف والذل والهوان
والتفرق والتقهقر، وكل دولة وبقعة من أماكن المسلمين تغص بالمصائب والويلات والفتن
والمحن، وفيها ما يكفيها من الهموم والابتلاءات، إلا أن عزائنا في استحضار
والتذكير بالأرض المقدسة، لنا فيه سلف من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام.
فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه،
بمجرد إسلامه في مكة بدأت علاقته القوية مع بيت المقدس، حاملا هم قضايا الأمة
مستشرفا مستقبلها، من خلال رؤية ثاقبة وفكر نيّر وبُعد نظر عميق، رغم الظروف
القاسية التي رافقت إسلامه في بداية الدعوة.
أبو ذر رضي الله عنه كان رابع ثلاثة أو خامس أربعة أسلموا، فهو من أوائل من
أسلم، وكان النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة يصلون إلى بيت المقدس
منذ البعثة، ومع صعوبة بدايات العهد المكي وتأسيس دين الإسلام، إلا أن هذه القضية
كانت من أركان وأسس الدين عنده!
فلا نستغرب اهتمام أبو ذر رضي الله عنه وسعيه لتكوين صورة متكاملة وتأسيس
معلومات شاملة وإدراك تام، حتى يقوى التعلق وتبقى حاضرة في الذاكرة، ففي الحديث
المتفق عليه عن أبي ذر قلت: يا رسولَ اللهِ ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ ؟
قال : ( المسجدُ الحرامُ ) . قال : قلتُ : ثم أيٌّ ؟ قال : ( المسجدُ الأقصى ).
قلتُ : كم كان بينهما ؟ قال : ( أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ الصلاةُ بعدُ
فصلِّهِ ، فإنَّ الفضلَ فيه ).
وما يؤكد أهمية تلك البقعة في حياة الصحابة، أن الحديث أعلاه كان بعد إسلام
أبو ذر بفترة وجيزة بمكة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر فيه المسجد
النبوي، فهذا الحديث يدل على اهتمام بالغ من قبل أبي ذر في تحصيل العلم المتعلق
بتلك الأرض المباركة.
تمر الأيام وينتقل أبو ذر إلى المدينة
النبوية ويرافق النبي عليه الصلاة والسلام ويلازمه، وهذا فيه إشارة إلى تمام إدارك
ووعي منه في علم النبي عليه الصلاة والسلام وما يشغله وأولوياته، ويبقى المسجد
الأقصى حاضرا في وجدان أبو ذر مع مرور السنين والأعوام، حتى تصبح مذاكرة بيت
المقدس أولوية كأنها حلقة نقاشية وورشة عمل ولقاء حواري عند الصحابة عموما وأبو ذر
خصوصا.
قال أبو ذر رضي الله عنه: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيها أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال صلى الله عليه
وسلم ( صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه -أي المسجد الأقصى- ولنعم المصلى
هو)، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شَطَنِ فرسه من الأرض - الشطن: الحبل- حيث يرى منه
بيت المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعاً، أو قال خير له من الدنيا، وما فيها.[1]
هذا مشهد عظيم وموقف فريد من نوعه، يدل دلالة قاطعة على تلك الأهمية
الكبيرة المغروسة في نفوس الصحابة للمسجد الأقصى، كما يدل على وعي تام في الخطط
الاستراتيجية النبوية المستقبلية للأمة الإسلامية ومقدساتها المغتصبة، حتى أصبح
المسجد الأقصى مادة نقاشية حوارية في مجالس الصحابة!
لم يكتفي أبو ذر رضي الله عنه بالتنظير
والاستذكار وبيان تلك الأهمية، بل جاهد بنفسه مع النبي عليه الصلاة والسلام في
غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وهي بداية فتوح الشام، وشهد فتح بيت المقدس مع
عمر رضي الله عنه سنة 15هـ ، وكان ضمن وجهاء وكبار علماء الصحابة الذين حرروا بيت
المقدس، حتى سكنها أبو ذر وتحقق له الجمع بين العلم والعمل.
كان أبو ذر من ضمن عدد من الصحابة ممن غادروا أوطانهم وسكنوا بيت المقدس،
لتوكيد هذا الارتباط الوثيق بتلك الأرض الطيبة، وفي ذلك يقول أبو ذر: أتاني نبي
الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا نائم في مسجد المدينة فضربني برجله، وقال: ألا
أراك نائما فيه؟ قال: قلت يا نبي الله غلبتني عيني، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟
قال: قلت آتي الشام الأرض المقدسة، قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشام قال: أعوذ
بالله .... )[2].
في ضوء ما مر بنا يظهر جليا، أهمية تلك الأرض في نفوس وحياة الصحابة الكرام
رضوان الله عليهم، وأبو ذر أنموذج لهذا التعلق، فمنذ إسلامه وفي أحلك الظروف في
مكة، ثم انتقاله إلى المدينة، ثم مشاركته في فتح بيت المقدس، تبقى حاضرة حية في
خلجات صدره ووجدانه.
هذا الارتباط الشامل من النواحي الدينية والروحية والإيمانية، بل حتى
العسكرية والسياسية والاستشرافية والاستراتيجية؛ لدى الصحابة الكرام لم يكن
عشوائيا أو عاطفيا أو من قبيل ردود الفعل العابرة، بل كان تأصيلا شرعية مبنيا على
إعمال فكر ونظر وتعبئة روحية، من خلال صحبتهم
للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وترجمة ذلك على أرض الواقع.
2- رمضان- 1435هـ