لم أصدق ما سمعته أذناي....لقد صعقت حينها وطلبت منه أن يعيد ما قاله....وبكل قوة قالها....أريد أن أعود الى مخيم الوليد.... وسألته....هل أنت جاد أم أنك....؟وقاطعني بكل حماس قائلا...لست وحدي من اتخذ مثل هكذا قرار...أيضا أبو فلان وأبو فلان وأبو فلان.... ولكن....
وبدأت أتلعثم حينما سمعت منه هذا التأكيد وبدأت الكلمات تهرب مني والحيرة والدهشة انطبعت بوضوح على وجهي حين تلقيت تلك الكلمات التي صفعت خدي. ولكني وبلمح البصر حينها بدأت صور مخيم الوليد تظهر على شاشة ذاكرتي....حينها فقط جمعت قواي وبدأت الكلمات تتراصف على طرف لساني...وقلت له..لنجلس ونشرب كوبا من الشاي ...ولنبدأ الحوار بصورة موضوعية بعيدة عن التشنجات ودون الأبتعاد عن الأمر الواقع ودون الغوص في الأوهام والأحلام...
وتابعت...بالله عليك ...أريد أن أسألك...أين كنت تسكن ؟فأجابني بكل شجاعة ...في الصحراء وكانت تغطيني قطعة قماش تسمى خيمة.....فأردفت ...حسنا والآن.... فأجاب ....الآن في مدينة وتحت سقف أحدى الشقق في مجمع سكني ....فقلت ...عظيم...فلنضع كفتي ميزان ولنبدأ بالمكيال لنرى أي الكفتين أرجح ....في الصحراء حيث الأفاعي البيضاء السامة المزركشة باللون الأخصر والعقارب السوداء القاتلة التي كانت تزحف وتختبأ في الحفر الصغيرة وتحت الصخور ويقوم الأطفال باستخراجها عن طريق سكب الماء بتلك الحفر فيسرع العقرب هاربا خارج الحفرة محاولا البحث عن مكان آمن ....أو قدم طفل ليقوم بلسعها......في الصحراء....
حينما تصحو صباحا دون أن ترى الشمس الجميلة حيث أن الغبار والزوابع الترابية الصفراء قد غطت السماء والأرض ومن عليها في تلك الصحراء.....وتزداد عدد حالات الأختناق في الصيف الملتهب....حيث يستمر ليومين أو أكثر ذلك الغبار الأصفر الغامق الخانق .....في الصحراء.....وبانتظار الوفد المنقذ عن طريق المفوضية ....حيث تبدأ آمال اللاجئين بالأنتعاش وتعم الفرحة الجميع على أمل الخلاص من مأساتهم التي يعيشونها يوميا في الوليد....
وفد ضخم جدا من عدة دول اوروبية سوف ينهي معاناتنا ويقوم بتسفيرنا الى أوروبا...الى أمريكا....الى كندا....الى استراليا....وخلال شهرين لن يبقى أي لاجئ ولن يكون هناك مخيم....هكذا كنا نسمع من بعضنا البعض ....وتكون المفاجأة والصدمة بل والنكسة....الوفد القادم سيبذل كل جهده من أجل تحسين أوضاع اللاجئين حيث سيتم نقل المخيم من تلك الجهة الى الجهة الأخرى وأعادة تنظيم وضع الخيم....ويتم التنفيذ...وتقطع الكهرباء....وتمنع صهاريج الماء من التوزيع لكي يصطر اللاجئ الى أن ينقل مقتنياته الى الجهة الأخرى....
وما أن ينتهي اللاجئ من ترتيب الخيمة ومن تركيبها بالخيوط والحبال وتثبيتها بالأوتاد وطبعا كل ذلك يتم خلال شهرين أوأكثر من التعب والجهد والعناء في تلك الأجواء الخانقة....أقول وبعدكل ذلك العناء تهب عاصفة ترابية أخرى لتقتلع كل الجهودالجبارة من جذورها ويبدأ من الصفر لأعادة إعمار الخيمة من خيوط وحبال وأوتاد وتنظيف الملابس والفراش من آثار تلك العاصفة......
في الصحراء وحين هاجرت من بغداد إليها أحضرت معك وثائق السفر ولكنها غير صالحة للسفر فأنك أن حاولت دخول أحدى الدول التي تسمي نفسها شقيقة فأنهم سرعان ما سيعيدوك من حيث أتيت.....
يا أخي العزيز هل تذكر ونحن في الصحراء كيف كان اللاجئ يتصل باستمرار بموظفي المفوضية لمعرفة مصير عائلته ؟؟؟ لتكون الأجابات .....بقي لك موافقة أمنية واحدة ثم تسافر.....وبعد ذلك بأسبوعين تعيد نفس السؤال على نفس الموظف فيجيبك ....اطمئن لم يبقى لك سوى ثلاث موافقات أمنية ثم تسافر!!!!!!!!!!! يا للمصيبة .....
في الصحراء هاجر اللاجئون في نفس المربع الصحراوي أربع هجرات ....من جهة الى أخرى وفي كل مرة لها ذرائعها وأعذارها .....هذا المربع للأكراد يجب عليك اقتلاع خيمتك وتحويلها الى الجانب الآخر ....وذلك للاحواز وتلك المساحة للفلسطينيين وسيتم أحاطة الجميع بالسياج الأمني..... يالها من هجرة!!!!!!!
يا أخي ...ليلا ...نباح الكلاب الذي لا ينقطع ونهارا ملاحقتها لبعضها البعض بين الخيم لتسبب الفزع بين الأطفال ....في الصحراء ....والأعمار بيد الله عز وجل فقدنا الكثير من الأحبة معظمهم من حديثي الولادة والأطفال والشباب والقلة منهم كبار السن.....في الصحراء ... المطر ...غرق الخيم ....عفونة وتلف المحتويات والمقتنيات من الفراش والملآبس ....الحرائق التي أتت على كل شئ ....قلة الماء الصالح للشرب وقلة الماء المالح الممزوج بالتراب لغسيل الملابس والأستحمام....
في الصحراء تفتح عينيك على وجوه قوات الأحتلال ...تحاصر المخيم ...مطلوبين اخترقوا الحدود....في الصحراء شرطي محلي يقوم باستهتار واستهزاء بأطلاق الرصاص بين الخيم عشوائيا...فيجرح أحدهم ويفزع النساء والأطفال...وتكون المواجهة بين الشرطة وشباب المخيم ...ويكون الأعتقال والأهانة....يا أخي في الصحراء ورغم سفرالكثير من العوائل خلال السنين الماضية منذ أواخر ديسمبر من عام 2006 حيث تكوين المخيم ....الا أننا كنا نرى النجوم ظهر كل يوم.....
والآن حدثني بماذا يلهو أولادك ؟؟؟؟ فلا يتردد بالأجابة ويقول ....في أرقى مدن الألعاب بالعالم وفي أفضل المدارس بالعالم يتلقون العلم ويسكنون في شقة من ثلاث غرف تحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء...لا وجود للعواصف الرملية ولم أرى الكلاب السائبة ولا الأفاعي السامة والعقارب القاتلة ولا أي حيوان...الا في المكان المخصص له...في حديقة الحيوانات........
ماذا يشرب الناس هنا؟ قل لي بالله عليك ؟؟؟ ...نعم أننا نشرب المياه المعدنية ......وماذا عن مكتب التوطين؟؟؟ يتصلون بي دائما ويلتقون بي دائما ويبحثون لي عن عمل ويكثفون دروس اللغة الأنكليزية ويتابعون كل ما أحتاجه من مستمسكات وفحوصات طبية دقيقة جدا ويقدمون كارت الطعام وكارت العلاج لكل فرد من أفراد العائلة ....وأتسوق وأختار بيدي كل ما تشتهي النفس من خضار وفاكهة ولحوم وغيرها طازجة جدا.....الكهرباءمستمرة دون انقطاع ليلا ونهارا ....المدينة من كثرة الأضواء الساحرة تبدو ليلا في قمة جمالها ....
قلت له هل تعلم أن الوثيقة التي منحت لك ولعائلتك منذ دخولك المطار والمسماة I94وباللون الأحمر مطبوع في أعلاها رقم الجواز الذي سيمنح لك بعد خمس سنين من دخولك البلد وفي نفس الوثيقة يوجد بها رقم كارت الأقامة الدائمة الذي ستأخذه بعد مرور سنة على دخولك البلد ....وفي نفس الوثيقة ستجد رقم هوية العمل التي ستأخذها بعد مرور شهر على دخولك البلد ناهيك عن حيازتك لكارت مهم جدا جدا وهو كارت الضمان الأجتماعي ويمنح لكل فرد بالعائلة....
احترام الأنسان للأنسان ...حرية التعبير عن الرأي ....دون التهديد باغلاق ملفك أو....أو..... الكل يعمل ...يدرس....النشاطات الأجتماعية ....والرياضية....العلمية....الآدبية ....التوعية الثقافية....والصحية مستمرة دون انقطاع ودون ملل أو كلل كالهواء الذي تستنشقه ...لا ينقطع....اللهو مع عائلتك أيام العطل الأسبوعية والمناسبات....الحياة تسير بصورة طبيعية جدا وجميلة جدا...
التطور في كل المجالات يجعلك دائما فاغر الفاه من الدهشة لما تكتشفه يوميا من تقدم وتطور والدقة في كل المجالات......أنا أعلم يا أخي أنك قد افتقدت هنا الى الجوانب الأجتماعية الجميلة التي كات تجمعنا في المخيم وأنك تحن أليها....في الأفراح ومؤازرة بعضنا البعض في الأتراح...أعلم انك في أحدى الخيم حيث كان المقهى كنت تجلس وتتسامر مع أصدقائك وأخوانك حيث تم توزيعهم كل في بلد...بعيدا كل البعد عن الآخر.....أعلم جيدا أنك تفتقد الى كل تلك الجوانب الأجتماعية الرائعة التي كانت تجمعنا في المخيم ...وأنا أعلم أيضا أن الشتات مؤلم جدا وأن العائلة قد تم تمزيقها بين البلدان ....الأب في النرويج ....والأبن في أمريكا وغير ذلك من التمزيق ولكن وبعد كل ذلك وبعد أن وضعنا في الكفتين ما كان ولازال يحدث في الصحراء وماكان ولا زال يحدث في المدينة .... فما قولك الآن ؟؟؟؟ فأجاب وبخجل واضح على ملامح وجهه...... يا أخي ..... أنت محق ....ل اأريد أن أرى نجوم الظهر مرة أخرى .
أخوكم خالد ابو الهيجاء
11/5/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"