بدأ تشكل جالية فلسطينية في ماليزيا بقدوم عشرات الطلبة وعوائلهم
في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حيث تقدم ماليزيا -رغم أن لغتها القومية هي
المالايوية – برامج تعليمية باللغة الإنكليزية تعد ضمن الممكن ماليا بالنسبة
للفلسطينيين. وقد استمر عدد الجالية بالزيادة اضطرادا.
يمكن للمتتبع أن يلحظ أن القفزة في أعداد الجالية تزامنت مع اشتداد
الثورة السورية واستهداف المخيمات الفلسطينية هناك، ما حدا بالكثير من عائلات
اللاجئين الفلسطينيين إلى قصد ماليزيا بحثا عن فرصة لجوء جديدة. ورغم أن ماليزيا
غير موقعة على اتفاقيات استقبال اللاجئين، إلا أن المئات منهم مسجلون على قوائم
الانتظار في مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئينUNCHR في العاصمة
كوالالمبور وينتظرون فرصة لاستقبالهم في واحدة من تلك الدول
الموقعة على اتفاقيات اللاجئين.
وبشكل عام، فإن مجموعة من العوامل شجعت الفلسطينيين على القدوم
لماليزيا؛ منها طبيعة الشعب الماليزي المتدين الودود والمحب لفلسطين والقدس وغزة،
فهو يتتفاعل مع الأحداث هناك ولا يكاد يمر يوم دون فعالية حول فلسطين، وهذا ليس
منفصلا عن الحكومة الماليزية التي حافظت على التزامها بمقاطعة الاحتلال ومساندة
القضية الفلسطينية ووقوفها على مسافة واحدة من الفصائل الفلسطينية ولا سيما "حركتي
فتح وحماس"، فكان "الحزب" الحاكم السابق "أمنو" يستضيف
إلى مؤتمره السنوي وفدا من "فتح" وآخر من "حماس". يضاف إلى
ذلك تسهيل دخول الفلسطيني حامل جواز السلطة الفلسطينية إلى البلاد من دون تأشيرة،
ولعل أهم تلك العوامل هو وجود بيئة تعليمية جاذبة للطلبة الفلسطينيين، فبعد تراجع
فرص الدراسة في دول آسيوية مجاورة، اعتادت على استيعاب أعداد كبيرة من الطلبة
الفلسطينيين كالهند وباكستان والفيليبين، توجه الطلبة إلى عدد من الجامعات
الحكومية الماليزية التي فتحت أبوابها للطالب الفلسطيني وعاملته– من حيث الرسوم-
معاملة الطالب المحلي، ما يجعل الدراسة في تلك الجامعات أقل كلفة مقارنة بنظيراتها
في الدول الأخرى، حتى أن الأدبيات المتداولة اعتادت أن تصف ماليزيا بأنها ساحة
طلابية، وقد بات مشهورا أن تجد تلك الجاليات في الأحياء المتوسطة القريبة من
الجامعات.
يمكن القول إن فاعلية الجالية الفلسطينية ارتبطت بعاملين؛ الأول:
زيادة أعداد الجالية، والأوضاع الميدانية في فلسطين، فاشتداد الانتفاضة الفلسطينية
الثانية المعروفة بانتفاضة الأقصى منح الجالية هنا قدرة أكبر على التعبير عن نفسها
من خلال تشكيل أندية طلابية في الجامعات تمثل الطلبة وتلبي احتياجاتهم من جهة،
وتقيم الأنشطة التوعوية والتعريفية بالمعاناة الفلسطينية، تزامن هذا مع انطلاق عدد
من المنظمات المحلية غير الحكومية التي كرست نفسها للعمل من أجل القضية الفلسطينية
ونشطت في مسارات جمع التبرعات والتوعية والمناصرة مثل منظمة "أمان
فلسطين" و"أقصى شريف"، الأمر الذي وفر للجالية -وعلى الأخص منهم
الطلاب - منصات جديدة لينشطوا من خلالها أو بالتعاون معها.
من جانب آخر، ساهمت البيئة الماليزية الهادئة، وطبيعة الجالية
المتعلمة في تخفيف حدة الاصطفاف السياسي بين أبناء الجالية، ومنعت تحويله إلى أداة
هدم أو احتراب داخلية، لكن ذلك لا ينفي استمرار التباين في الآراء السياسية، ولعل
البعد الجغرافي بين القوى الفلسطينية في الساحة الماليزية عن مراكز الفعل والتأثير
في الداخل أثرى تجربة الجالية بطرق جديدة وأدوات مختلفة مكنتها من الحفاظ على هدف
مشترك متمثل في التوعية والتحشيد.
شهدت السنوات الأخيرة تطورات مهمة على صعيد الجالية الفلسطينية
ترافقت مع زيادة أعدادها، وكان أبرز سماتها إنشاء المؤسسات التي تهتم بالجالية
الفلسطينية وقضاياها، مثل منظمة الثقافية الفلسطينية الماليزية المعروفة
اختصارا PCOM ،
ففضلا عن دورها في تعزيز العلاقات الفلسطينية الماليزية تنظم إفطارا رمضانيا سنويا
يجمع العائلات الفلسطينية، أما مؤسسة القدس- ماليزيا فتركز على التوعية والتعريف
بقضية القدس ومعاناة أهلها وتعمل بالشراكة مع المؤسسات والهيئات المحلية لتبني
قضايا القدس والمسجد الأقصى، ولها دور بارز في حشد الشارع الماليزي مرات عديدة في
مظاهرات أمام السفارة الأميركية احتجاجا على الإجراءات الصهيونية أو الأميركية في
المدينة المقدسة.
وفي 2013 انطلقت رابطة طلبة فلسطين، وكان لها مجالس في معظم
الجامعات التي يدرس فيها الفلسطينيون، وقد اضطلعت بدور بارز في تمثيل الطلبة وحل
مشاكلهم ورعايتهم أكاديميا. وعقب انطلاق "المؤتمر الشعبي" لفلسطينيي
الخارج مطلع عام 2017، تشكل فرع للمؤتمر في ماليزيا يحقق أهدافه من خلال الحملات
وإحياء المناسبات الوطنية واحتفالات العيد التي توفر فرصة لالتقاء أبناء الجالية
من مختلف الولايات. وتعمل تلك المؤسسات مع نظيراتها الماليزية في أنشطة مشتركة ولا
سيما المسيرات والمظاهرات التي عادة ما تكون أمام السفارة الأميركية احتجاجا على
الانتهاكات "الإسرائيلية".
ورغم الظروف الصعبة التي تحيط بفلسطينيي ماليزيا إلا أنه ليس من
الصعب أن تتعرف على قصص نجاحهم وإنجازاتهم على الصعيد الأكاديمي خصوصا، ولعل أشهر
تلك التجارب وأغناها تجربة الدكتور فادي البطش، وإن كانت قصيرة زمنيا إلا أنها
تستحق التنويه، إذ جمع بين تفوقه في دراسته وغزارة أبحاثه وإنتاجه العلمي فحصل على
منح من جهة وبين التزامه بقضيته والعمل لفلسطين من جهة أخرى باذلا من وقته
وجهده لذلك، وكان عضوا في حركة المقاطعة الماليزية BDS، ومتطوعا في هيئة
ماليزية لإعمار غزة، وإماما مع المؤسسات الماليزية العاملة لفلسطين.
مما جعله هدفا للموساد الذي اغتاله في إبريل الماضي أثناء
ذهابه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، ولعل مشهد جنازته والأثر الكبير الذي تركه على
الشعب الماليزي والجاليات المقيمة هناك دليل على هذا التميز.
ختاما، يمكن القول إن الجالية وإن كانت حديثة نسبيا، مقارنة
بالجاليات الفلسطينية في أماكن أخرى من العالم، إلا أنها استطاعت خلال سنوات قليلة
أن تنقل العمل لفلسطين نقلات نوعية، وأن تشكل ظهيرا قويا للحراك الفلسطيني، غير أن
قائمة من التحديات لا تزال تواجهها والأمل كبير بأن تتخطاها قريبا.
(رئيس مؤسسة القدس - ماليزيا)
المصدر : عربي 21
19/2/1440
28/10/2018