لم يسبق أن واجه الفلسطينيون حالة
من التفكك بين مجتمعاتهم في كافة أماكن تواجدهم في الداخل والخارج، وحتى بين الضفة
وغزة، ناهيك عن تآكل مجتمعات الفلسطينيين في العراق وسوريا ولبنان، بحكم الحروب
الأهلية والتشرد والظروف الصعبة، وأيضا بحكم الخلافات الفلسطينية، وانقسام النظام
السياسي، وتهميش منظمة التحرير لصالح السلطة، وتراجع أهداف الإجماع الوطني.
فوق كل ذلك فإن الفلسطينيين، في
أماكن وجودهم كافة، يكادون يشعرون وكأنهم لم يعودوا شعباً واحداً، إلا في الشعر
والشعارات والبيانات السياسية، إذ باتوا يفتقدون إجماعاتهم السياسية والكيانية،
بعد أن خسروا المنظمة ولم يربحوا السلطة، التي باتت رهينة السياسة "الإسرائيلية"،
وبنتيجة الانقسام والتنازع بين «فتح» و«حماس»، وبين سلطتي الضفّة وغزّة، وبعد
إزاحة قضية اللاجئين من الأجندة السياسية، وتهميش المنظمة، وهي كلها أوضاع تفتح
على مسارات تباين المصالح والأولويات بين فلسطيني 48 وفلسطيني الضفّة وفلسطيني
غزّة والفلسطينيين اللاجئين المواطنين في الأردن، والفلسطينيين اللاجئين في سورية
ولبنان وباقي الدول، وفلسطينيي الشتات.
معلوم أن الحركة الوطنية
الفلسطينية تأسست على واقع أن الفلسطينيين شعب، بل أنها اضطلعت بدور كبير في صياغة
هويتهم الوطنية، وروايتهم الجمعية، في السياق ذاته لاستنهاضها “مجتمعاتهم”، في
الداخل وفي بلدان اللجوء والشتات. كما تكمن أهمية هذه الحركة، أيضاً، في تأسيسها
كيانيتهم السياسية، أي منظمة التحرير، التي أضحت بمثابة الكيان السياسي المعنوي،
والرمزي، المعبر عن وحدتهم وعن قضيتهم.
بيد أنه من المهم ملاحظة أن هذا
التشكيل، أو هذا السياق، الهوياتي والكياني والوطني، لم يكن كاملا، بسبب ضعف قدرة
الحركة الفلسطينية على ابتداع معادلات سياسية تمكّنها من استيعاب، وتمثل فلسطينيي
48، في إطاراتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، بدعوى ظروفهم الخاصة، وتحسباً لأي ردة
فعل "إسرائيلية". طبعاً، قد يكون هذا الحديث فات أوانه، بعد كل ما مر من
تطورات، لاسيما أن فلسطينيي 48 اختطوا مسارا خاصاً، ومختلفاً، من نواح كثيرة، لكن
ذلك لا يغطي على حقيقة أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تفكر في هذا الأمر، ولم
تدرسه، وانه كان بإمكانها إيجاد طرق وأطر مختلفة لتجاوز تعقيدات أو محاذير هذه
المسألة، في مراحل لاحقة، وحتى بعد انتهاء زمن الكفاح المسلح في الخارج، والتحول
من حركة تحرر الى سلطة.
المغزى أن التهاون، أو اللامبالاة،
إزاء هذه القضية، التي تخص وحدة الفلسطينيين كشعب، ووحدة كفاحهم ومصيرهم، أدت فيما
بعد الى شمول ذلك مجتمعاتهم الأخرى، من دون إدراك ضررها على مفهوم وحدة الشعب،
ومفهوم حق تقرير المصير، ووحدة القضية.
هكذا تكرر ذات الأمر مع مجتمع
الفلسطينيين في الأردن، إذ باتوا خارج إطار المعادلات الفلسطينية، بعد أحداث أيلول
1970، التي نجم عنها إخراج منظمة التحرير وفصائلها من هذا البلد. فبعد هذا التاريخ
انتهت كل تعبيرات الوطنية الفلسطينية في الأردن، والقصد أن هذا لم يقتصر على
الفصائل، إذ اشتمل، أيضا، على انتهاء المنظمات والاتحادات الشعبية الفلسطينية
(الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين الخ)، كما المؤسسات ذات الطابع
الإعلامي أو الخدمي. اللافت أن هذا الوضع استمر، حتى الآن، رغم عودة الأحوال الى
طبيعتها بين الأردن والمنظمة، لكن القيادة على ما يبدو سلمت للأمر الواقع ولم
تحاول تغييره. وربما كان بإمكان القيادة الفلسطينية طرح هذه القضية، مع السلطات
الأردنية، للوصول الى صيغ معينة ترضي الطرفين، بما لا يخل بمكانة المواطنة
للفلسطينيين في الأردن، وباعتبار أن الحفاظ على الوطنية الفلسطينية يشكل مصلحة
مشتركة للطرفين؛ بخاصة أن الأمر لم يعد يتعلق بممارسة العمل المسلح، ولا بممارسة
العمل السياسي الذي يمس النظام القائم.
لم يتوقف الأمر عند الأردن، إذ أن
خروج منظمة التحرير، بقياداتها وفصائلها ومؤسساتها من لبنان، إثر الاجتياح "الإسرائيلي"
(1982)، أدى الى تداعيات خطيرة على مجتمع الفلسطينيين في ذلك البلد، فهم الذين
دفعوا ثمن صعود المقاومة المسلحة بما لها وما عليها، في لبنان، ثم ثمن خروجها منه،
وهو ما تمثل بمجازر صبرا وشاتيلا، وحروب المخيمات (في منتصف الثمانينيات)،
والتمييز ضدهم. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك إذ أن تركة منظمة التحرير، وفصائلها،
كانت بالغة الهشاشة، فقد تبين أنها، في مبالغتها ببناها الميلشياوية، لم تبن
مؤسسات اجتماعية وتعليمية واقتصادية وخدمية للفلسطينيين، تمكنهم من الصمود.
والحقيقة فإن وجود المقاومة بطابعها المسلح أسهم في إضعاف مجتمع الفلسطينيين في
لبنان، لأنه استنزفهم، وقوض مكانة الطبقة الوسطى بينهم، ولأنها أخذت شبابهم في
اتجاهين، أما الانخراط في المنظومات الميلشياوية، أو الهجرة الى الدول
الاسكندنافية. والمؤسف أن المنظمة في ظروفها الصعبة، وإمكانياتها الضعيفة، لم
تستطع أن تفعل شيئا لهم، بعد إخراجها، ولا بعد تحولها الى سلطة، بل إنها ظلت تحافظ
على بعض بني ميليشياوية لها في لبنان، لزوم الاستثمار السياسي الإقليمي، ولزوم المنازعات
والمنافسات الفصائلية؛ وفي كل الأحوال فإن مساهمة مجتمع الفلسطينيين في لبنان، في
العمل الوطني الفلسطيني، باتت هامشية، ما ينطبق على كل مجتمعات الفلسطينيين في
الخارج.
بعد الأردن ولبنان جاء دور المجتمع
الفلسطيني في الكويت، إثر غزو هذا البلد من قبل نظام صدام، الأمر الذي دفع ثمنه
الفلسطينيون باهظا، بإخراجهم منه (حوالي 300 ألف) ليس فقط بسبب موقف قيادتهم
الملتبس آنذاك، وإنما أيضاً بسبب الظروف العربية والدولية، وضمنها ظرف استهداف
منظمة التحرير في تلك الفترة، في مطلع التسعينيات، تحضيرا لعملية التسوية. ومع أن
مجتمع الفلسطينيين في الكويت، جاء أصلا من بلدان أخرى، أي من الأردن (الضفتين)
ولبنان وسوريا، باعتبار الكويت ليست من الدول المستقبلة للاجئين بحكم بعدها
الجغرافي، إلا إنها كانت تحتوي على أكبر ثاني مجتمع فلسطيني، بعد الأردن، مع حوالي
350 ألفا، معظمهم من ذوي الكفاءات، الذين أسهموا في نهضة الكويت، وأدى وجودهم فيها
الى تأمين مصدر دخل لعشرات ألوف العائلات الفلسطينية في الأرض المحتلة (1967) وفي
بلدان اللجوء، الأمر الذي أسهم في صمود الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى
(1987ـ1993). ومعلوم أن الكويت كانت واحدة من اهم البلدان التي كان يتواجد فيها من
عرفوا فيما بعد بقادة منظمة التحرير، وضمنهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وخالد
الحسن وأبو الأديب مثلا.
أيضا، وبعد الغزو الامريكي (2003)
للعراق، ومع الطبقة الحاكمة التي أتت على ظهر دبابة أمريكية، محمولة بنزعة طائفية
ـ مذهبية، تعرض مجتمع الفلسطينيين الى نوع من الاضطهاد والتنكيل، ما اضطرهم الى
ترك البلد، والتشرد مجددا. وعليه فقد بات فلسطينيو العراق يعيشون في مخيمات مزرية
على الحدود العراقية ـ الأردنية أو العراقية السورية، إلى أن وجدت لهم مناف جديدة.
والمشكلة هنا أن منظمة التحرير لم تستطع شيئا لهم، ولم تحمل قضيتهم على نحو مناسب،
سواء أمام السلطات الأردنية أو السورية، لإدخالهم. والأمر الذي يبعث على الإدهاش
والمرارة أن لا أحد من الفصائل، التي تتمتع بعلاقات تحالف مع إيران، حمل هذه
القضية، ووضعها في سلم أولوياته، للضغط على الإيرانيين لوضع حد لهذه المأساة
المشينة، باعتبار أن لا شيء يجري في العراق منذ ذلك التاريخ بدون رعاية أو توجيه
من النظام في إيران، لاسيما انه يجري بواسطة ميلشيات محسوبة عليها.
ومؤخرا، وتحديدا منذ نكبة فلسطينيي
سوريا، ومحاولات شطب مخيم اليرموك، وتدمير مخيمات درعا وسبينة وحندرات، ها نحن
نشهد على مأساة فلسطينية جديدة، هي جزء من مأساة الشعب السوري، مع تفكك واحد من
أهم مجتمعات الفلسطينيين اللاجئين، وتحول عشرات آلاف الفلسطينيين الى الدول
الأوروبية. طبعا مفهوم أن المنظمة لا تستطيع أن تعمل شيئا في ظروف الحرب والكارثة
السوريتين، لدرء مخيمات الفلسطينيين من الخطر، لكن ذلك لا يبرر لها تساهلها وعدم
ضغطها على السلطات السورية لوقف استهداف المخيمات. كما كان بإمكانها إيلاء اهتمام
أكبر لأوضاع الفلسطينيين المشردين، في الدول الأخرى (الأردن ومصر وتركيا)، وعدم
التنكر للضحايا السوريين الذين ذهبوا ضحية النظام، أو ضحية الصراع الضاري على هذا
البلد.
المهم انه مع كارثة مجتمع
الفلسطينيين السوريين، تكون الدائرة المتعلقة بتفكيك مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين
قد اكتملت، ما يفقد الحركة الوطنية الفلسطينية أحد أهم مبررات وجودها، وأحد أهم
مصادر قوتها، ناهيك أن الأرضية التي ينطلق منها حق العودة باتت أضعف من ذي قبل؛
علما بأن القيادة الناجحة تتحدد بقدرتها على الحفاظ على مواردها البشرية، لا تبديدها،
كما تتحدد بحسن إدارتها واستثمارها بأفضل ما يمكن.
المشكلة أن القيادة الفلسطينية،
وفي غضون تركيزها على المفاوضات، وعلى تعزيز مكانتها في القيادة والسلطة، لا تولي
الأهمية المناسبة لتدارك تبعات هذا المسار الخطير، كأنها لا تدرك أن تفكك مفهوم
الشعب الفلسطيني، يؤدي حكما الى تفكك وحدة القضية الفلسطينية. والحقيقة فإن
القيادة الفلسطينية تتحمل بعض المسؤولية عن الوصول الى هذا الحال، أولا، بعدم
اهتمامها بمجتمعات اللاجئين، التي تركت لمصيرها، واحدا تلو الآخر (وهو ما يشمل
واقع غزة حاليا). وثانيا، بحكم ضعف اهتمامها بالمنظومات التي تعزز وحدة شعب
فلسطين، وهو ما كانت تشكله اتحادات الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين
وغيرها، والتي باتت مهمشة، ومقتصرة في الأغلب على الداخل. وثالثا، بتحولها الى
سلطة في جزء من أرض لجزء من شعب، وتهميشها منظمة التحرير، ما همش مكانة اللاجئين ومجتمعاتهم
في جدول أعمالها.
قناة
الغد
26/12/1441