أبوان وصديقان.. وصالة الولادة - جمال أبو النسب

بواسطة قراءة 2886
أبوان وصديقان.. وصالة الولادة - جمال أبو النسب
أبوان وصديقان.. وصالة الولادة - جمال أبو النسب

كان بينهما توافق في معظم شؤون حياتهما ,, ويجمعهما بقوة قاسم مشترك ,, فقد كانا يتفقان على حب ذات الأشياء من حولهما ,, ولا يجدان خلاف في الرأي ,, حول أي شيء لا يحبانه ,, أو انه قد لا يروق لأي منهما مستقبلاً ,, ولكن الأقدار الدنيوية شاءت ,, والقضاء البشري حكم عليهما بأن يفترقا ,, فكان نصيب كلً منهما وجهة وبلد مختلفين ,,

ولأن الموت حين يحاصر شخصاً ,, أو أن ألموت يضيق الخناق ,, على جماعة ,, أو ملة ,, أو قوم ,, يروح كلً منهم يفكر للفرار منه ,, بحثاً عن ملاذا آمناً ... ..... فكيف إذا بيد الموت تقبض ,, بكل قوة على بلدٍ بأكمله ,, وشعباً بأجمعه ,, لا لشيء ؟؟ وبدون أي مبرر ؟؟ .. سوى أن من بيده مقبض السكين ,, حارَ بنصله وجزع منه ,, ما لم يغرسه في جسد أقرب شيء يمر بقربه ,,

والأصابع الضاغطة على ألزناد ,, ملت من طول الأنتظار ,, لذا راحت تضغط وتضغط ,, لتحصد ألمزيد ألمزيد من الأرواح ألبريئة ,, من دون ذرة حياء من خالقها ,, ومن غير أن يجول في خاطرهما ,, أنهما بفعلهما هذا يقتلان أخاً ,, أو قريب ,, أو جاراً ,, أو زميلاً ,, قضى معهما سنين طوال بالدراسة ,, أو أنه كان في يوماً ما رفيق محنة ,, أو مد يد العون لأيٍ منهما ,, في أزمةً من أزمات ألحياة وما أكثرها ... ..... مثلما أرادت يد الموت لهما ألفراق ,, قدرت لهما إرادة ألله عز وجل في علياءه اللقاء ,,

ومن غير تدبير وتخطيط بشري مسبق ,, نعم قدر لهم ثانية أن يلتقيا ,, كان "جورج " جالساً في إحدى المستشفيات لبلد غير عربي ,, والقلق والحيرة والخوف والترقب قد كسى محياه ,, فأنه كلما شاهد ممرضة ,, تخرج أو تدخل من وإلى صالة الولادة ,, يقوم من جلسته فزعاً ,, لتدلق عيونه عليها بألف سؤال ,, لأنه ولكثرة سؤاله عن زوجته ,, ومصير وليده المرتقب ,, فلم يعد يسأل ,, بل أكتفى بأمعان ألنظر فقط لفيهها,, لعلها تتكرم عليه بجواب ,, فيعود ثانيةً مسرعا كما قام ,, ليجلس منكمشاً على ذاته ,, ويبقى متسمراً بجلسته كجثة همدت تواً ,, لا يتحرك فيه شيئاً ,, سوى عيونه ألتي بقيت دون أرادة منه تجوب ألمكان ,, بحثاً عن جواب ... ..... وهو على حاله هذا ,,

أفاق على صوت صرير عربة تمر بقربه ,, لتدلف بها الممرضة المتجهمة الوجه ,, إلى صالة الولادة بعجالة ,, ونبهه صوت لهاث رجلاً يعدو خلف العربة ,, وقد بان الفزع والخوف عليه ,, والصفرة فعلت فعلها به ,, لأنها كست بشرته السمراء لتصبح رمادية ,, أمعن ألنظر لذلك ألرجل ألرمادي أللون ,, فقد كان مثله غارقاً بحيرته ,, قبل عرقه المنساب على وجنتيه ,, فإذا بذي البشرة الرمادية ,, هو ذاته صديق عمره " عمـر "

صديقه الأثير على قلبه ونفسه ,, لذا قام من فوره ,, وقبل ما أن يتكلم معه بكلمة ,, راح يضمه إلى صدره ,, ويمطره بسيل من ألقبلات ,, فكان هذا لقائه الأول به بعد طول فراق ... ..... بعدما ألتقط كلاً منهما لأنفاسه ,, وأن لم ينتهيا بعد من ألضم وألقبل وآلاف الأسئلة ,, وعرفا انهما ينتظران الآن مولدهما الأول ,, هنا قال " عمـر لجورج " ,, أن قدر ألله لنا بعد دقائق أو ساعات ,, سنكون أبوين يا صديقي ,, عندها زفر " جورج " بحرقة ,, وقبل أن يسأله " عمـر " عن سر زفرته لحرقى هذه ,, بادره بالقول في هذه أللحظات تذكرت أمراً ما ,, كانَ قد حصل بيني وبين أبي منذ سنين ,, وما زال ألخجل يعتريني كلما نظرت إلى وجهه ,, فذات يوم كنت جالساً ,, على أرجوحتنا في حديقة منزلنا ,, فأذا بأبي يجلس بقربي على غير عادته ,, فإذا بعصفور يحط بين أغصان أشجار حديقتنا ,, فسألني أبي ,, ما هذا ألذي حط بين الأغصان ,, فقلت له عصفور ,, فسألني ثانية ما هو يا بني ,, قلت له عصفور ,, فأعاد السؤال عليً مرة ثالثة ما هو يا بني ,, قلت له عصفور ,, سكت أبي برهة ليكرر سؤاله لي وللمرة ألرابعة ,, فأجبته بصوت مرتفع ووجه متجهم ,, عصفور يا أبي ,, قلت لك عصفور ,, عصفور ,, عصفور .. فإذا أبي يطلب مني أن أذهب لغرفته وأجلب دفتر صغير يحتفظ به في درج مكتبه ,, فذهبت لأتي بذلك ألدفتر ,, وفي داخلي اردد ذلك أرحم ,, من كثرة سوأله المزعج ...

طلب مني أبي أن أقرأ ما خطه بيده قبل سنوات ,, على الصفحة الأولى من هذا الدفتر ,, فحين هممت بالقراءة ,, طلب مني أن أرفع صوتي قليلاً لكي يسمع ,, فقرأت يا أخي عمـر هذه الأسطر (( في سنة وشهر ويوم كذا ,, وفي ساعة كذا ,, وفي نهار كذا ,, كنت جالساً في حديقة منزلي وفي حضني ابني الصغير جورج ,, ألذي لم يتجاوز عمره الخمسة سنوات ,, فإذا بعصفور يمر طائراً من أمامنا ,, فراح ألعصفور يقفز على أغصان شجيرات حديقتنا ,, فبادر ولدي وقرة عيني " جورج " بسؤالي ,, ما هذا يا أبي ,, فقلت له عصفور ,, فعاد وكرر السؤال عليً ,, ولأكثر من عشرين مرة ,, وفي كل مرة أقول له عصفور ,, كنت أجيبه وأنا أضمه إلى حضني ,, وفي كل رد كنت أقبله ,, وقد سألني لأكثر من عشرين مرة ,, وأنا أحضنه وأزيد في تقبيلي ,, فكم كنت سعيداً ,, وتمنيت لو أن أبني " جورج " أمضى ألنهار بأكمله ,, وهو يسألني عن ذلك ألعصفور ,, لكي أبقى أضمه ,, ولأفوز بالمزيد من ألقبل ,, فذلك يشعرني بفرح وسعادة لا مثيل لها ...

بعدما فرغ من سرد ما جرى بينه وبين أبيه ,, تنبه " عمـر " أن رأس جورج سقط في حضنه ,, وقد أجهش بالبكاء ,, لذا أحتضن رأس صديقة بيديه رافعاً أياه ,, قائلاً له ذكرتني قصتك هذه مع أبيك ,, بقصة حصلت بيني وبين أبي رحمه ألله ,, فبعدما الذي قاله لي أبي في حينه ,, لم أنظر إلى وجهه أبداً ألاً خلسة ,, لآني كلما نظرت أليه كنت أشعر وكأني أغرق بعرقي ,, وأن كانت ألدنيا تمطر ثلوج...

هنا أفاق " جورج " من شبه ألغيبوبة ألتي كان يمر بها لاستذكاره أبية ,, فقال يا " عمـر " بالله عليك قل لي ,, ماذا حصل بينك وبين أبيك ,, قال " عمـر " : في سنة وشهر ويوم كذا وفي ساعة كذا وفي ظهيرة كذا ,, كتبت على ورقة صغيرة كلمات قليلة ,, أتذكر منها " أبي سمعت عبر ألمذياع ليلة أمس ,, أن باطن قدم الأنسان ,, يكون أدفئ وأطرى وأنعم من ظاهرها ,, فهل تتكرم عليً يا أبي ,, وتسمح لي بأن أقبل قدميك ,, لكي أجرب صحة ذلك ألخبر وأتحقق من تلك ألمعلومة " ودسستها تحت نظارته ألطبية ,, فأنا في ليلة أمس " يا جورج " ,, كنت قد رفعت صوتي على أبي ,, بعدما وضعت يدي على شفتي العليا كي أنبهه إلى ألزغب ألذي نمى عليها ,, فعلت هذا بغرور طائش ,, لأنه وبخني لتأخري عن المنزل ,, لذا أردت أن أكفر عن فعلتي هذه بأبي...

 وعند الظهيرة عدت للبيت ,, لأنفذ ما عزمت عليه بتقبل قدمي أبي ,, فأنا قضيت الليل بطوله يا صديقي ,, متقلباً على فراشي ,, وقد جافاني ألنوم ,, لأن الخجل والحياء من أبي يعتصراني ,, ولكن هالني ما رأيت ,, فقد كان أبي يجلس عند عتبة البيت لأستقبالي ,, فحين جثوت بين ساقيه,, وهممت بتقبيل قدميه ,, رفع رأسي بكلتا يديه ,, قائلاً لحاجة لفعل ذلك بني ,, فأني أعرف منذ سنين طوال ,, أن باطن ألقدم أدفء ,, وأطرى ,, وأنعَم من ظاهرها ,, فأنا يا بني كنت أقبل قدميك وأنتَ طفلُ صغير كثيراً ,,

فكان يطيب لي تقبل قدميك ,, أكثر من مئة مرة في أليوم وألليلة ,, لشدة حبي لك ,, ولكثرة فرحي بمقدمك لأنك أنرت لي دنياي ,, لذا صدقت ياولدي ,, فأن باطن ألقدم خلاف ظاهرها ,, فلا يغرنك ظاهر ألدنيا يا بني حين تكبر ... ..... مرت على " عمـر وجورج " لحظات ,, صمت ,, ودهشة ,, وحزن عميق ,, لذا لم يعد يعرفان لما هما جالسين ,, في ألممر المؤدي لصالة ألولادة ,, ولم يخرجهما مما هما عليه ,, سوى صوت ألممرضات وهن يبشراهما بقدوم مولدً ذكراً لكل منهما ......

بقلم / جمـال أبـو النســب

الولايات المتحدة الأمريكية / كاليفورنيا

4/1/2013

 

المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"