فهذه صورة من الصور التي وقف منها ديننا موقفًا حازمًا حاسمًا ، صورة
يمثل فشوُّها في المجتمع ، مظهراً من مظاهر الخلل ، وقلة الورع ، وضعف الديانة ،
صورة تشوش على حفظ الحرمات ، وسلامة القلوب ، وصيانة الأعراض ، وتحري الحق ، إنها
كبيرة من كبائر الذنوب ، وموبقة من موبقات الآثام ، وحالقة من حالقات الدين ،
يشترك في ذلك فاعلها والراضي بسماعها ، فلا بد أنكم عرفتموها .
فكم هتكت من أسرار ، وأظهرت من أخبار ، إنها إدام كلاب الناس ، الذين
فقدوا الإحساس ، فكم من صلات قطعت ، وكم من أواصر مزقت ، كل ذلك بسببها ، أعاذنا
الله وجميع المسلمين منها ومن أهلها .
وسيكون حديثنا في هذه الصفحات ، عن تلكم الجريمة الخُلقية ، والفطرة
الشيطانية ، والنكسة الأخلاقية ، لنغوص معاً في أعماقها ، ونسبر أغوارها ، ونعرف
أخطارها ، ومن ثم نبتعد عنها ، فحيهلا بالمتصفحين ، ولنكن بعد الذكرى من الذاكرين
، وبعد العبرة من المعتبرين ، وعن الإثم منتهين ، فذلكم يرضي رب العالمين ، وبالله
نبدأ وبه نستعين :
آفات اللسان :
آفات اللسان كثيرة ، وهذا شيء منها ، ليحذرها المسلم ، ويكون على دراية وبصيرة بها
:
الآفة الأولى : الكلام فيما لا يعنيك
الآفة الثانية : فضول الكلام
الآفة الثالثة : الخوض في الباطل
الآفة الرابعة : المراء و الجدال
الآفة الخامسة : الخصومة
الآفة السادسة : التقعر في الكلام
الآفة السابعة : الفحش و السب و بذاءة اللسان
الآفة الثامنة : اللعن
الآفة التاسعة : الغناء و الشعر
الآفة العاشرة : المزاح
الآفة الحادية عشر : السخرية و الاستهزاء
الآفة الثانية عشر : إفشاء السر
الآفة الثالثة عشر : الوعد الكاذب
الآفة الرابعة عشر : الكذب في القول و اليمين
الآفة الخامسة عشر : الغيبة
الآفة السادسة عشر : النميمة
الآفة السابعة عشر : كلام ذي اللسانين
الآفة الثامنة عشر : المدح
الآفة التاسعة عشر : الغفلة
الآفة العشرون : سؤال العوام
كانت تلكم بعض آفات اللسان ، وما يهمنا منها الآن هو آفة الغيبة ، وهي من أكثر
الذنوب انتشاراً ، وأعظم الأمراض القلبية فتكاً ، بل أصبحت عادة ذميمة ، وعملاً
لئيماً ، وجريمة أخلاقية منكرة ، لا يلجأ إليها إلا الضعفاء والجبناء ، ولا
يستطيعها إلا الأراذل والتافهون ، ولا تنتشر إلا حين يغيب الإيمان ، وهي اعتداء
صارخ على الأعراض ، وظلم فادح للأفراد ، وإيذاء ترفضه العقول الحكيمة ، وتمجه الطباع
السليمة ، وتأباه النفوس الكريمة ، وهي كبيرة من كبائر الذنوب ، ومرض من أمراض
القلوب ، وقد جاء وصفها في كتاب الله بأبشع الصفات ، وأسوأ السجايا والطويات ، قال
تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه
" [ الحجرات 12 ] ، وبعد أن أشرنا إلى بعض الآفات ، نقف وقفة محاسبة ، وتأنيب
للنفس ، مع آفة الغيبة ، لنتناولها بالشرح والطرح ، فاستعدوا للتصفح :
حفظ اللسان :
اللسان من نعم الله العظيمة ، وآلائه الجسيمة ، التي تستحق الشكر والعرفان ، لله
الواحد المنان ، فباللسان يُترجم ما في العقل من تفكير ، وما في النفس من تعبير ،
وهو وسيلة للتفاهم مع الآخرين ، وأداة للتفسير ، فعلى صغر حجمه ، إلا أن جرمه كبير
، وله في الخير مجال رحب ، وفي الشر ذيل سحب ، ومن أرخى له العنان ، وترك له
الزمام ، ساقه إلى شفا جرف هار ، وقذفه إلى دار البوار ، وكان ألعوبة في يد
الشيطان ، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع ، فلا يطلقه إلا فيما
ينفعه في الدنيا والآخرة .
فمن حفظ لسانه أنجاه ، وكان سبيلاً مكسواً بالزهور إلى الجنة ، ومن أفلته أغواه ،
وكان طريقاً مأهولاً بالأشواك إلى النار .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ ، تَرْكُهُ مَا لَا
يَعْنِيهِ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة ] .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا
بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ " [ أخرجه البخاري ] .
قال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم ، قال : فيتناول الأقوال والأكل والشرب
وسائر ما يتأتى بالفم من الفعل.
قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء في الدنيا لسانه وفرجه ،
فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر .
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما يَقُولُ : إِنَّ
رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ
الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
لِسَانِهِ وَيَدِهِ " [ أخرجه مسلم بهذا اللفظ ] .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ :
مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ
بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ " [ أخرجه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ
حَسَنٌ ] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ صَمَتَ نَجَا " [ أخرجه
الترمذي وأحمد ، وقال العراقي : أخرجه الطبراني بسند جيد . الإحياء 3/142 ، وصححه
الألباني ] .
خطورة اللسان :
خطر اللسان عظيم ، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت ، وطريقه إما إلى نار أو جنة ،
ولاشك أن المسلم حريص على الجنة ، وكل ما يقربه منها من قول أو عمل ، وفي الوقت
ذاته ، فهو خائف من النار وجل منها ، يحذر كل ما يقربه منها من قول أو عمل أو خلق
، فإذا كان ذلك كذلك ، فهذه بعض النصوص الشرعية الدالة على خطورة ترك زمام الكلام
للسان ، وما يترتب على انفلات اللسان بالنطق في كل مجلس واجتماع ، لأن الإنسان لا
يحصد حب الآخرين إلا بقلة المنطق ، ورصانة العبارة ، ولين الجانب ، والإحسان ،
وحسن الخلق ، فمن سعى إلى الجنة فسعيه مشكوراً ، ومن أسرع إلى النار كان مثبوراً
مخذولاً ، وإليكم طرفاً من الأدلة التي تحذر من إطلاق العنان للسان ، وما يترتب
على ذلك من خطورة بالغة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ ، يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
قال ابن حجر : " بالكلمة : أي الكلام ، " ما يتبين فيها " أي : لا
يتطلب معناها ، أي لا يثبتها بفكره ولا يتأملها حتى يتثبت فيها ، وقال بعض الشراح
: المعنى أنه لا يبينها بعبارة واضحة .
وفي الكلمة التي يزل بها العبد قال ابن عبد البر : هي التي يقولها عند السلطان
الجائر ، وزاد ابن بطال : بالبغي أو بالسعي على المسلم فتكون سبباً لهلاكه ، ونقل
عن ابن وهب أنها التلفظ بالسوء والفحش .
وقال القاضي عياض : يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث ، وأن تكون في
التعريض بالمسلم بكبيرة أو مجون أو استخفاف بحق النبوة .
قال النووي : في هذا الحديث حث على حفظ اللسان ، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر
ما يقول قبل أن ينطق ، فإن ظهرت مصلحة تكلم، وإلا أمسك .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قَالَ : " إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ
آدَمَ ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ ـ تذل وتخضع له ـ اللِّسَانَ ،
فَتَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا ، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ
اسْتَقَمْنَا ، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا " [ أخرجه الترمذي وأحمد
وابن خزيمة والبيهقي بسند حسن . رياض الصالحين 479 ] .
قال ابن القيم : قولها : إنما نحن بك : أي نجاتنا بك ، وهلاكنا بك ، ولهذا قالت :
فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا . [ الفوائد ] .
قال الغزالي مبيناً معنى الحديث : إن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق
والخذلان ، فاللسان أشد الأعضاء جماحاً وطغياناً ، وأكثرها فساداً وعدواناً . [
فيض القدير ] .
وقال ابن حبان : اللسان إذا صلح تبين ذلك على الأعضاء ، وإذا فسد كذلك . [ روضة
العقلاء ] .
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ : حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ ؟ قَالَ : " قُلْ رَبِّيَ
اللَّهُ ، ثُمَّ اسْتَقِمْ " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا أَخْوَفُ
مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : " هَذَا
" [ أخرجه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " [ متفق عليه ] .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى
يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ
، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ " [
أخرجه أحمد وحسنه الألباني ] .
وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخَشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ ،
وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ ، مَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ
أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي فِي الْآخِرَةِ ، مَسَاوِيكُمْ
أَخْلَاقًا ، الثَّرْثَارُونَ ، الْمُتَفَيْهِقُونَ ، الْمُتَشَدِّقُونَ " [
أخرجه أحمد ] .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ ،
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ،
وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ : " لَقَدْ سَأَلْتَ عَظِيمًا ،
وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تَعْبُدُ اللَّهَ
لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ ،
وَتَصُومُ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " ثُمَّ قَالَ : " أَلَا
أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، وَالصَّدَقَةُ
تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ
مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، قَالَ ثُمَّ تَلَا ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ ) حَتَّى بَلَغَ ( يَعْمَلُونَ ) ، ثُمَّ قَالَ : " أَلَا أُخْبِرُكَ
بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ ، وَعَمُودِهِ ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ " قُلْتُ :
بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ،
وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ، ثُمَّ قَالَ : "
أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ
، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقَالَ : " كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ؟ " فَقُلْتُ :
يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ :
" ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ
" [ أخرجه الترمذي وابن ماجة ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ،
وقال الألباني : صحيح لغيره ] .
وأما الآثار الواردة عن السلف فهي كثيرة جداً ، وهذا شيء منها :
قال الشافعي لصاحبه الربيع بن سليمان المرادي : " يا ربيع لا تتكلم فيما لا
يعنيك ، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها " .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان
" .
وقال بعضهم : " مثل اللسان مثل السبع إن لم توثقه عدا عليك " .
قال الشاعر :
من كان لله أعرف ، كان له أخوف ، من هذا المنطلق ، فإن أكثر الناس خوفاً من الله تعالى ، هم الأنبياء ومن تبعهم من العلماء ، وانظر إلى مجالس العلماء ، تغشاها السكينة ، وتحفها الملائكة ، ويشعر الجالس فيها برهبة العلماء ، وسمتهم وتواضعهم ، وخشيتهم لله تعالى ، فلا يدار في مجالسهم إلا قول الحق والصواب ، وتخلو مجالسهم تماماً من قول الحرام وسماعه ، لما عرفوه من خطورة اللسان ، وفضل الصمت إلا فيما لابد منه ، من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو تعليم علم شرعي ، وما عدا ذلك فلا ، لذا وردت الآثار بضرورة حفظ اللسان ، وفضيلة الصمت ، وأذكر شيئاً منها :
قال صلى الله عليه وسلم : " من صمت نجا " [ أخرجه الطبراني بسند جيد ، وصححه الألباني ] ، ومفهوم الحديث أن من لم يصمت لم ينجو من العذاب ، والمقصود بالصمت هنا ، الصمت عما حرم الله ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم .
وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى أبا بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له : ما تصنع يا خليفة رسول الله ؟ قال : هذا أوردني الموارد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته " [ أخرجه أبو يعلى في مسنده ، والدار قطني في العلل ، والبيهقي في الشعب ، وقال الدار قطني وليس فيه علة ] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " يا لسان قل خيراً تغنم ، واسكت عن شر تسلم ، من قبل أن تندم " ، فقيل له : يا أبا عبدالرحمن أهذا شيء تقوله ، أو شيء سمعته ؟ فقال : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه " [ أخرجه الطبراني ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي بسند حسن ] .
وقال ابن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كف لسانه ، ستر الله عورته ، ومن ملك غضبه ، وقاه الله عذابه ، ومن اعتذر إلى الله ، قبل الله عذره " [ أخرجه ابن أبي الدنيا بسند حسن ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً أو ليسكت " [ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ] .
ألا فليعلم كل مسلم ومسلمة أن عليه من الله رقيب وعتيد ، يسجلان أقواله ، ويحصيان أعماله ، وسيجد ذلك في صحائفه وسجلاته لا محالة ، فمن كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به .
والصمت يجمع للرجل فضيلتين :
الأولى : السلامة في دينه .
الثانية : الفهم عن صاحبه .
قال الغزالي : الكلام أربعة أقسام :
قسم هو ضرر محض ، وقسم هو نفع محض ، وقسم فيه ضرر ومنفعة ، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة .
فأما الذي هو ضرر محض ، فلابد من السكوت عنه .
وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر .
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول ، والاشتغال به تضييع زمان ، وهو عين الخسران .
فلا يبقى إلا القسم الرابع ، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام ، وبقي ربع ، وهذا الربع فيه خطر ، إذ يمتزج بما فيه إثم . [ الإحياء 3/146 ] .
آكلو الجيف ؟
لما اعترف ماعزاً رضي الله عنه بالزنا ، وأراد تطهير نفسه في الدنيا ، أَمَرَ بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : انْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ ، فَقَالَ : " أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟ فَقَالَا : نَحْنُ ذَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ ، فَقَالَا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا ؟ قَالَ : فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلٍ مِنْهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا " [ أخرجه أبو داود بهذا اللفظ ] .
المغتابون ! هم الذين يأكلون لحوم البشر نيئة ، الذين امتلأت قلوبهم حقداً وحنقاً وحسداً ، الذين لا هم لهم إلا التفكه في المجالس بأعراض الناس ، الذين يقطعون أوقاتهم بكسب السيئات ، ويهدرون ساعاتهم بتحصيل العقوبات .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، . . . . . نَظَرَ فِي النَّارِ ، فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ . . . " [ أخرجه أحمد بسند صحيح ]
المغتابون ! لا يعرفون لله طريقاً ، ولا لهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مسلكاً ، الذين فقدوا مشاعر الأخوة ، ومُزقت من قلوبهم الرحمة ، هم آكلوا الجيف ، الذين امتلأت مجالسهم ريحاً ونتناً ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ ، هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ " [ أخرجه أحمد بسند حسن 23/97 ] .
المغتابون ! هم الذين تخلو مجالسهم من ذكر الله ، وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وستكون عليهم حسرة وندامة في قبورهم ، ويوم بعثهم ونشورهم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً ـ حسرة وندامة ـ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ " [ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، وأنى لمجلس تؤكل فيه الميتة أن يُذكر الله تعالى فيه وقد حرمها ، حيث قال سبحانه : " حرمت عليكم الميتة " ، وأنى لمجلس تدار فيه أطباق اللحوم البشرية النتنة أن يُذكر فيه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وقد حذر منها ، حيث قال : " إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَيُعَذَّبُ فِي الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُعَذَّبُ فِي الْغَيْبَةِ " [ أخرجه ابن ماجة وأحمد من حديث أبي بكرة وقال الألباني رحمه الله : حسن صحيح ، صحيح سنن ابن ماجة 1/126 ] .
فلا يجتمع ذكر الله ، والذكر المحرم ، ولا يلتقي ذكر رسول الله ، والذكر المحذور ، فيا حسرة على العباد ، ما أصبرهم على النار .
حد الغيبة :
حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه ، سواءً ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في خَلْقِهِ أو خُلُقِِهِ ، أو في دينه أو فعله أو قوله ، أو في دنياه ، حتى ثوبه وداره ودابته وغير ذلك [ إحياء علوم الدين 3/186 ] .
لقد أصبحت الغيبة اليوم فاكهة المجالس ، فقلما يخلو منها مجلس ، وللأسف الشديد حتى مجالس كثير من الصالحين ، أصبحت تشوبها الغيبة ، ويكسوها الغبش ، وفاحت منها رائحة الميتة النتنة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
متعلقات الغيبة :
الغيبة ذات أسماء ثلاثة ، كلها في كتاب الله عز وجل : الغيبة ، والإفك ، والبهتان ، فإذا كان في أخيك ما تقول فهي الغيبة ، وإذا قلت فيه ما بلغك عنه فهو الإفك ، وإذا قلت فيه ما ليس فيه فهو البهتان ، هكذا بين أهل العلم رحمهم الله .
قال الحسن البصري رحمه الله : " ذكر الغير ثلاثة : الغيبة ، والبهتان ، والإفك ، وكل في كتاب الله عز وجل ، فالغيبة : أن تقول ما فيه ، والبهتان : أن تقول ما ليس فيه ، والإفك : أن تقول ما بلغك عنه " [ نظرة النعيم 11/5176 ] .
حكم الغيبة :
الغيبة حرام بنص القرآن ، ونص السنة الصحيحة ، وأقول العلماء .
وهي كبيرة من كبائر الذنوب ، وعظيمة من عظائم الآثام ، لما ترتب عليها من العذاب والعقاب .
وعندما ودع النبي صلى الله عليه وسلم أمته في حجة الوداع ، بين لهم معالم الدين القويم ، ونصح الأمة ، وحذر ونهى ، وحث وأمر ، ومما منع وحذر ونهى عنه الغيبة ، وأكل أعراض المسلمين ، ونشر عيوبهم ، وهتك أستارهم ، ولقد قرن صلى الله عليه وسلم تحريم الغيبة بتحريم الدماء والأموال ، وأكد تحريم ذلك ، كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام ، فقال : " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ تَعَالَى ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا " [ متفق عليه واللفظ لأحمد ] .
قال النووي رحمه الله تعالى : " الغيبة محرمة بإجماع المسلمين ، وقد تظاهر على تحريمها الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة " [ رياض الصالحين 483 بتصرف ] .
فالغيبة حرام ، وهي ذكرك الإنسان بما يكره ، سواءً كان في بدنه أو دينه أو دنياه، أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه، أو ماله أو ولده أو والده، أو زوجه أو خادمه أو مملوكه، أو عمامته أو ثوبه، أو مشيته وحركته وبشاشته، وخلاعته وعبوسه وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك ، أما البدن فكقولك : أعمى ، أعرج ، أعمش ، أقرع ، قصير طويل أسود ، أصفر .
وأما الدِّيْنُ فكقولك : فاسق ، سارق ، خائن ، ظالم ، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارّاً بوالده، لا يضعُ الزكاة مواضعَها، لا يجتنبُ الغيبة .
وأما الدنيا : فقليلُ الأدب، يتهاونُ بالناس، لا يرى لأحد عليه حقاً، كثيرُ الكلام، كثيرُ الأكل أو النوم، ينامُ في غير وقته، يجلسُ في غير موضعه .
وأما المتعلِّق بوالده فكقوله : أبوه فاسق، أو هندي أو نبطي أو زنجي، أو أعرابي ، أو ظالم ، أو لا أصل له ، نجار حداد سائق أو ما شابه ذلك .
وأما الخُلُق فكقوله : سيئ الخلق، متكبّر مُرَاء، عجول جبَّار، عاجز ضعيفُ القلب، مُتهوِّر عبوس، خليع، ونحوه.
وأما الثوب : فواسع الكمّ، طويل الثوب ، وَسِخُ الثوب ، ثيابه غير مكوية ، ونحو ذلك، ويُقاس الباقي بما ذكرناه ، وضابطُه : ذكرُه بما يكره " [ رياض الصالحين 482 بتصرف ] .
ومن الغيبة المحرّمة قولك : فعل كذا بعضُ الناس ، أو بعض الفقهاء ، أو بعضُ من يَدّعي العلم، أو بعضُ المفتين، أو بعض مَن يُنسب إلى الصلاح أو يَدّعي الزهدَ، أو بعض مَن مرّ بنا اليوم، أو بعضَ مَن رأيناه، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم .
ومن الغيبة ، التعريض بالكلام مما يفهمه المخاطب به فيُقال لأحدهم : كيف حال فلان ؟ فيقول : اللّه يُصلحنا، اللّه يغفر لنا، اللّه يُصلحه، نسأل اللّه العافية، نحمدُ اللّه الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ باللّه من الشرّ، اللّه يُعافينا من قلّة الحياء، اللّه يتوبُ علينا ، وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال : فلان يُبتلى بما ابتلينا به كلُّنا، أو ماله حيلة في هذا، كلُّنا نفعلُه، وهذه أمثلة وإلا فضابط الغيبة : تفهيمك المخاطب نقص إنسان كما سبق " [ رياض الصالحين 486 ] .
ومن الغيبة الحاصلة اليوم بين طلاب العلم ، إذا برز أحدهم في مجال ما ، كتجويد القراءة ، والتأليف ، وحسن الصوت ، والتدريس ، والتمكن من المادة العلمية ، وجودة الخطب ، وحسن الإلقاء ، وكثرة المحبين ، ترى الحاسد والمغتاظ ، إذا ذُكر ذلك الشخص في مجلس ، رد الحاسد بقوله : وما عند فلان ؟ ما هي شهادته ؟ من أي جامعة تخرج ؟ أي شيخ لازم ؟ يقلد فلان وفلان ، إلى غير ذلك من الأمور التي يُفهم منها تنقص أخيه المسلم ، والحط من قدره أمام الناس ، ولا ريب أن ذلك من الغيبة المحرمة ، فهو وإن لم يصرح ، إلا أنه انتقصه بأشد من التصريح ، فليتق الله تعالى أولئك الناس ، وليسمعوا هذا الحديث ، قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ ، أُرَاهُ قَالَ : بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ ، حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ] .
وليبشر أيضاً بهذا الحديث ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً ، فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ، وصححه الألباني والحاكم ، نضرة النعيم 11/5175 ] .
وعلى من حضر ذلك المجلس الذي يُغتاب فيه طالب علم أو عالم أو حتى غيرهما ، عليه أن يُنكر الغيبة ، أو يخرج من ذلك المكان ، ولا يلازم ذلك الشخص المغتاب حتى يتوب إلى الله تعالى ، ويرجع إلى الحق والصواب .
إذ كيف يُعلم الناس العلم الشرعي ، وهو لا يلتزم به ، ذلكم من نقص الدين ، وضعف الإيمان ، ودناءة النفس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وما يدريك أيها المغتاب أنك وقعت في عرض مسلم أو مسلمة من أولياء الله تعالى ، فآذيته ، وسببت له العداء ، وأكننت له البغضاء ، فأصبحت محارباً لله عز وجل ، وأنى لمخلوق ضعيف فقير ، أن يتجرأ على مقام ربه جل وعلا ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ قَالَ : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا ، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ " [ أخرجه البخاري ] ، ويقول الله تعالى : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " [ البروج 10 ] .
وليبشر من دافع عن عرض أخيه بهذا البشارة ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ ، رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ أخرجه الترمذي وأحمد ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وهو كما قال ] .
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ " [ أخرجه أحمد بإسناد حسن 45/583 ] .
ومن لم يرد عن عرض أخيه المسلم ، وسكت حياءً ، أو قبولاً بما قيل فيه من غيبة ، فليبشر بهذا الحديث ، عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ قالا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا عِنْدَ مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ، وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط عند الطبراني ، وضعفه الألباني وشعيب الأرناؤوط عند أبي داود وأحمد ] .
فاتقوا الله أيها الناس عامة ، وأهل العلم خاصة ، واحذروا الغيبة قولاً وسماعاً ، فعامة عذاب القبر لأهلها والعياذ بالله .
سماع الغيبة :
كما أن الغيبة حرام فسماعها حرام أيضاً ، لأنه يدل على الرضى بما قيل في الإنسان المتعرض للغيبة .
قال النووي رحمه الله : " اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها ، فيجب على من سمع إنساناً يبتدأ بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضرراً ظاهراً ، فإن خافه وجب عليه الإنكارُ بقلبه ، ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى ، فإن قال بلسانه اسكتْ ، وهو يشتهي بقلبه استمرارُه، فقال أبو حامد الغزالي : ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإنكار أو أنكر فلم يُقبل منه ، ولم يُمكنه المفارقة بطريق ، حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكرَ اللّه تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها وجب عليه المفارقة، قال اللّه تعالى : " وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا " [ النساء 140 ] ، وقال تعالى : " وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " [ الأنعام 68 ] .
دعي إبراهيم بن أدهم إلى وليمة ، فحضر ، فذكروا رجلاً لم يأتهم ، فقالوا : إنه ثقيل ، فقال إبراهيم : أنا فعلت هذا بنفسي ، حيث حضرت موضعاً يُغتاب الناس فيه ، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام .
ولقد أحسن من قال :
وسمعك صن عن سماع القبيح *** كصون اللسان عن النطق به
فإنك عند سماع القبيح *** شريك لقائله فانتبه
فاتق الله أيها المسلم ، واتقي الله أيتها المسلمة ، ولا تسمحوا لأحد كائناً من كان أن يغتاب الناس في مجالسكم ، أو في بيوتكم ، بل كونوا عباد الله إخوانا ، وادرءوا عن أعراض المسلمين ما استطعتم لذلك سبيلاً ، ولا تجعلوا مجالسكم حسرة عليكم يوم القيامة ، ولا تكن بيوتكم مجمعاً للنفايات وبقايا الفضلات ، واربئوا بأنفسكم عن مجالس الفساق والجهال من الناس .
الأدلة على تحريم الغيبة :
تكاثرت الأدلة وتضافرت على تحريم الغيبة في الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة :
أولاً / من الكتاب العزيز :
ورد في الكتاب الحكيم آيات تحذر من الغيبة ، إما تصريحاً ، وإما معنىً .
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ " [ الحجرات 12 ] .
الله جل وعلا حرم الغيبة تحريماً قاطعاً ، فمن اعتدى حرمات الله ، وتعدى حدوده ، واغتاب المسلمين ، وأشار إليهم بالهمز واللمز ، والغمز والطعن في أعراضهم ، وانتقاص شخصياتهم وعلمهم ، فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الكبائر ، التي يعذب الله عليها في القبر ، ويوم القيامة .
وقال تعالى : " لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا " [ النساء 148 ] .
يخبر المولى تعالى أنه يبغض القول السيئ ويمقته ويعاقب عليه ، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء الناس وتحزنهم ، ولا شك أن أعظم ذلك هو الغيبة ، لأن الغيبة تؤثر في المُغتاب ، وهذا مما نهى الله عنه وحرمه .
إلا أنه يجوز للإنسان المظلوم أن يشتكي من ظلمه ، ويجهر بالسوء لمن جهر به عليه ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه ، ومع ذلك فالعفو أعظم وأفضل ، قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " [ تفسير بن سعدي 231 ] .
من هذه النصوص الشرعية نعلم علم يقين خطورة الغيبة ، والتحدث عن أعراض الناس بما يكرهون ، أو التشدق بهم ، فذلكم من الخطورة بمكان ، وهو طريق محفوف بالمخاطر ، مخوف دربه ، ونهايته عذاب أليم ، وعقاب شديد .
ثانياً / من السنة النبوية المطهرة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ " ، قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : " إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ " [ أخرجه مسلم ] .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ ، فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ : " لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا " [ متفق عليه ] .
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قال : إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ : " تَقْوَى اللَّهِ ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ " ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ : " الْفَمُ وَالْفَرْجُ " [ أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ] .
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ أَحَدًا ، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا " [ أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : " لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ] .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنَّ هَذِهِ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ، فَمَنْ قَطَعَهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " [ أخرجه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن ] .
فتلكم الأدلة الشرعية من السنة المحمدية ، دالة دلالة قاطعة على تحريم الغيبة والتعرض لأعراض الناس ، أو سبهم ، فيجب على العبد أن يربأ بنفسه عن مواضع الريب والتهم ، لا سيما إن كان من طلاب العلم ، أو ممن يتوسم الناس فيهم الخير ، ممن يُقتدى بهم ، من الدعاة والأئمة والخطباء .
ثالثاً / أقوال العلماء :
جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال له : إنك تغتابني ، فقال الحسن : ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي .
وقال ابن المبارك رحمه الله : لو كنت مغتاباً أحداً ، لاغتبت والديَّ لأنهما أحق بحسناتي .
وقال بعض الحكماء : " الغيبة فاكهة القراء ، وضيافة الفساق ، ومراتع النساء ، وإدام كلاب الناس ، ومزابل الأتقياء " .
قال الشاعر :
يشاركك المغتاب في حسناته *** ويعطيك أجر صومه وصلاته
يحمل وزراً عنك ظن بحمله *** عن النجب من أبنائه وبناته
روي عن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً قال : إن فلاناً قد اغتابك ، فبعث إليه طبقاً من الرطب ، وقال : بلغني أنك أهديت إلي حسناتك ، فأردت أن أكافئك عليها ، فاعذرني ، فإني لا اقدر أن أكافئك بها على التمام . [ دليل السائلين 482 ] .
وقال قتادة : " ذُكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث : ثلث من الغيبة ، وثلث من البول ، وثلث من النميمة .
وقال الحسن : والله للغيبة أسرع فساداً في دين المرء من الآكلة في الجسد .
وقال بعضهم : أدركنا السلف الصالح وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ، ولكن في الكف عن أعراض الناس .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أدرت أن تذكر عيوب صاحبك ، فاذكر عيوبك .
وقال عمر رضي الله عنه : عليكم بذكر الله فإنه شفاء ، وإياكم وذكر الناس فإنه داء .
وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر ، فقال : إياك والغيبة ، فإنها إدام كلاب الناس . [ الزواجر 551 ] .
مما سبق ذكره من كلام أهل العلم نرى أنهم متفقون على ذم الغيبة ، وأنهم كانوا يحذرون منها أشد الحذر ، وكأنهم يرون جهنم رأي عين ، فلذلك هم أبعد الناس عن الغيبة قولاً وسماعاً ، لمعرفتهم المسبقة بما يترتب عليه أكل لحوم الناس ، من سقوط من أعين المخلوقين ، ووحشة مع الخالق جل جلاله ، وكذلك ما أعد الله تعالى للمغتاب من جزاء وعذاب ونكال يوم يموت ويوم يبعث حياً ، فلهذا كان العلماء أبعد الناس عن مواطن الحرام والريب ، لأنهم أخشى الناس لله تعالى ، وأخوفهم منه سبحانه ، قال تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء " .
وعلى ذلك يجب على كل مسلم ومسلمة تقوى الله عز وجل ، وخشيته في الغيب والشهادة ، والحذر من مقته وأليم عذابه ، فإنه سبحانه يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، لأنه جعل له واعظاً في قلبه ، وواعظاً من إخوانه الدعاة والعلماء ، فإن لم يستجب لذلك فهو منكوس الفطرة ، معكوس الطباع .
مم تكون الغيبة :
لا تقتصر الغيبة على القول باللسان فقط ، كما يعتقده كثير من الناس ، بل يدخل في ذلك الاستهزاء بالقلب ، أو الحركة بالعين أو الفم أو اليد ، كالسخرية والهمز والغمز واللمز والإشارة والكتابة ، كل ذلك من الغيبة ، وتمثيل الحركات كالمشي متعارجاً كما يمشي من أُغتيب ، وهذا أشد من الغيبة بالقول ، لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الغيبة ، ومن جميع أسباب سخطه وعذابه .
أخطر أنواع الغيبة :
كل الغيبة حرام ، ولكن يشتد بعضها عن بعض ، فغيبة العلماء والأمراء وولاة الأمر أشد خطراً من غيرها ، وغيبة الوالدين أشد من غيبة غيرهم من الأقرباء وعلى هذا فقس .
عقوبة المغتاب :
تنقسم عقوبة المغتاب إلى ثلاثة أقسم :
القسم الأول / العقوبة الدنيوية ( في الدنيا ) :
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ ، يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ، وقال الألباني رحمه الله : حسن صحيح ] .
فينبغي على الناس إذا عرفوا المغتاب ، أن يذكروه بالله ، ويخوفوه به سبحانه ، فإن استجاب ، وإلا هجروه وتركوه ولم يزوروه ، قطعاً لدابره ، جزاء فعله ، فإن استمر في غيه وطيشه ، رُفع أمره للجهات المختصة كالهيئة والمحكمة الشرعية لردعه بالجزاء الرادع .
القسم الثاني / العقوبة البرزخية ( في القبر ) :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَمَّا عُرِجَ بِي ، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ ، يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 553 ] .
وعند الطبراني بسند حسن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على قبر يعذب صاحبه ، فقال : " إن هذا كان يأكل لحوم الناس ، ثم دعا بجريدة رطبة فوضعها على القبر وقال : " لعله أن يخفف عنه ما دامت هذه رطبة " [ الزواجر 2/548 ] .
لا إله إلا الله كيف لم يعرف العبد أنه مخلوق لعبادة الله تعالى ، وأنه مفطور على الحسن من القول والفعل ، ثم يورد نفسه المهالك ، وناراً خازنها مالك ، كيف يصبر العبد على قبر يضيق عليه فتختلف فيه أضلاعه ، وكيف يصبر على قبر يشتعل عليه ناراً ، واجب لمن علم عقوبة الغيبة في القبر أن يحذرها ، ويخاف ضررها ، ويهاب خطورتها .
القسم الثالث / العقوبة الأخروية ( يوم القيامة ) :
عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، مَا كَانَ يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ " [ أخرجه مالك والترمذي وابن ماجة وأحمد ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ " [ أخرجه البخاري ] .
إذا كانت عقوبة المغتاب في القبر ما ذكرت سابقاً ، فكيف بشدة عقوبتها يوم القيامة ، لأن القبر أول منازل الآخرة ، فإن هون على صاحبه ، هان عليه الحساب يوم القيامة ، وإن اشتد عليه العذاب فيه ، فما بعده أشد منه ، نعوذ بالله من عذاب الله وسخطه ، ومواطن عقوبته ومقته .
أسباب الغيبة :
هناك عدة أسباب للغيبة ، يجب على كل مسلم عاقل أن يعيها ليجتنبها ، ويحذر خطورتها :
1- الغضب : فيحصل شفاء غيظ المغتاب بذكر مساوئ من يغتابه ، فربما غضب إنسان على آخر غضباً شديداً ، لا يسكن ولا يهدأ إلا بغيبة من أغضبه ، وهذا حرام لا يجوز ، فالغضب منهي عنه ، والغيبة منهي عنها ، فهذا جمع بين محرمين ، وقد قال الله تعالى : " قل موتوا بغيظكم إن عليم بذات الصدور " [ آل عمران 119 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِنِي ، قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : " لَا تَغْضَبْ " [ أخرجه البخاري ] .
2- الحسد : وهذا هو الداء العضال ، والمرض البطال ، الذي يصعب علاجه في أزمنة ابتعد أهلها عن دينهم ، وراموا القبلية والعصبية ، ولم يرضوا بقضاء الله وقدره ، فالحسد يقود إلى الغيبة ، ويوقع في الكذب ، بحيث يجمع صاحبه بين الإضرار بنفسه ، والإضرار بالآخرين ، إما عن طريق الغيبة أو غيرها ، وقد جاء الشارع الكريم بتحريم الضرر عموماً ، ففي حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " [ أخرجه ابن ماجة وأحمد ] .
وكثير من الناس لا يتورع عن الحسد ، فربما حسد من يثني عليه الناس ويحبونه ويكرمونه ، فيريد زوال تلك النعمة عن المحسود ، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالقدح فيه ، فتراه يصطاد في المياه العكرة ، والأوحال الموبوءة ، والمستنقعات القذرة ، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن ، والرفيق الموافق ، ومن تأمل واقع الناس اليوم علم صحة ذلك .
3- مجاملة الأقران والخلان ، وموافقة أهل المجالس : فربما تعرض الناس في مجلس ما لشخص بالغيبة ، والانتقاص منه ، والحط من مكانته ، فترى ذلك الشخص يشاركهم حديثهم ، ويقع في معصية الله تعالى ، ويتعدى حدوده سبحانه ، مجاملة لحديث الآخرين ، وهذا أمر محرم ، فالواجب في مثل تلك الحالات ، أن ينهى عن المنكر بكل استطاعته ، وإلا خرج من مجلس تدار فيه لحوم البشر النيئة ، قال تعالى : " فلا تقعدوا مهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً " [ النساء 140 ] .
وربما تناول بعض الحاضرين أناساً يعرفونهم أو لا يعرفونهم بالغيبة مجاملة للقاعدين ، فيقع في الغيبة إرضاءً لأصدقائه ، خوفاً من أن يستثقلوه إذا نهاهم عن المنكر ، فيرضي الناس بسخط الله تعالى ، وقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " من أرضى الناس بسخط الله ، سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ، ومن أسخط الناس برضى الله ، رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس " .
4- الكبر والخيلاء والترفع على الناس : فربما رأى أحدهم في نفسه ما يعجبه ويميزه عن الآخرين ، فيتناول من هم أقل منه مرتبة أو منزلة في الدنيا ، فيغتابهم ويعيبهم ، وهذا حاصل وواقع اليوم ، فبعض المسؤولين والرؤساء ، يزدرون من تحتهم ، ويغتابونهم ويحتقرونهم ، فكان رفعة النفس لا تكون إلا بتنقيص الآخرين .
وإذا رأيتهم مع من هو أكبر منهم منصباً ومنزلة في الدنيا ، وكأنهم نعام دست رؤوسها في التراب ، فسبحان الخالق الوهاب .
ويدخل في هذا الصنف من يتعرض للآخرين بالانتقاص من أقدارهم ومكانتهم ، فيقول : هذا جاهل ، وذاك لم يعرف المقصود من المسألة ، أو ركيك العبارة في كلماته أو ما شابه ذلك ، مما يدل على فهمه ونقص الآخرين ، وهذه غيبة محرمة ، لأن فيها تعرضاً للغير بالإساءة .
5- الخوف من الغير : وذلك عندما يكون الغير شاهداً على شخص بأعمال قبيحة ، فيلجأ الطرف الأول إلى إلحاق التهم بالآخر فيغتابه ، حتى ينتقصه ويطعن فيه لتسقط شهادته ، ولا يصدقه الناس مع أنه صادق .
6- أن يبرئ المغتاب نفسه من شيء وينسبه إلى غيره ظلماً أو صدقاً : فيكون قد اغتاب غيره أو بهته حتى يمحو التهمة عن نفسه ، وربما ادعى أن شخصاً مشاركاً له في الفعل ، وهذا من الغيبة ، فمن حق الإنسان أن يبرئ نفسه بما نُسب إليه من غير أن يذكر أن أحداً كان معه ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله .
7- الفكاهة : وهذه كثير ما تحدث في المجالس ، فيقع أحدهم في أشخاص وينسب إليهم كلاماً يجعلهم سخرية لغيرهم ، لا لشيء ، إلا لإضحاك القوم ، وقتل الوقت ، وهدر الزمن ، ولا ريب أن تلك غيبة معاقب قائلها وسامعها .
8- السخرية والاستهزاء . [ إحياء علوم الدين 3/190 بتصرف ] .
قال تعالى : " ويل لكل همزة لمزة " [ الهمزة 1 ] .
في هذه الآية الكريمة ، توعد الله تعالى الهماز اللماز ، وهو المغتاب بويل ، وويل هو ودا في جهنم بعيد قعره ، شديد حره ، وقيل أن معنى ويل : الخزي والعذاب والهلكة .
9- ضعف الوازع الإيماني : مما يجعل المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية ولا هوادة ، جاء في حديث عائشة في قصة الإفك قولها عن زينب بنت جحش أنها قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، ما علمت إلا خيراً ، تقول عائشةً : " وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
قال الفضل بن عياض: أشد الورع في اللسان . وروي مثله عن ابن المبارك .
قال الفقيه السمرقندي : الورع الخالص أن يكف بصره عن الحرام ويكف لسانه عن الكذب والغيبة ، ويكف جميع أعضائه وجوارحه عن الحرام .
أسباب غيبة العلماء :
لحوم العلماء مسمومة ، فمن أكلها وقع في مصيبة الموت ، موت الضمير ، موت الدين ، هلاك النفس في الدنيا والآخرة ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ، ومن ذا الذي يتجرأ على مكانة العلماء التي تسنموها جراء خوفهم من ربهم ، وخشيتهم له ، وهناك أسباب لغيبة العلماء وأكل لحومهم :
1- الغَيرَة والغِيرة : أما الغَيرَة –بالفتح - فهي محمودة ، وهي أن يغار المرء وينفعل من أجل دين الله، وحرمات الله - جل وعلا- لكنها قد تجر صاحبها – إن لم يتحرز- شيئا فشيئاً حتى يقع في لحوم العلماء من حيث لا يشعر .
وأما الغِيرَة – بالكسر- فهي مذمومة وهي قرينة الحسد،والمقصود بها هو : كلام العلماء بعضهم في بعض من ( الأقران ) . قال سعيد بن جبير: ( استمعوا لعلم العلماء ، ولا تصدقوا بعضهم على بعض،فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في ضرابها ) . أي : استفيدوا من علم العلماء ،ولكن لا تصدقوا كلام العلماء بعضهم على بعض ، من الأقران.
ولذلك قال الذهبي:(كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به،لاسيما إذا كان لحسدٍ أو مذهب أو هوى)
2- الحسد : والحسد يُعْمي ويُصمّ ، ومنه التنافس للحصول على جاه أو مال، فقد يطغى بعض الأقران على بعض ، ويطعن بعضهم في بعض ؛ من أجل القرب من سلطان ، أو الحصول على جاه أو مال.
3- الهوى: إن بعض الذين يأكلون لحوم العلماء لم يتجردوا لله – تعالى –وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في أعراض علماء الأمة . و اتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال - تعالى- : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } . [سورة ص ، الآية : 26 ]
وقال – سبحانه - :{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم }. [ سورة القصص ، الآية : 50 ] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( صاحب الهوى يُعْميه الهوى ويُصمه ) ، وكان السلف يقولون: ( احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ).
4 - التقليد: لقد نعى الله – تعالى – على المشركين تقليدهم آباءهم على الضلال : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون }. [ سورة الزخرف ، الآية : 22 ] ، والتقليد ليس كلُّه مذموماً ، بل فيه تفصيل ذكره العلماء . ولكنني في هذا المقام أُحذر من التقليد الذي يؤدي إلى نهش لحوم العلماء ، فإنك - أحياناً - تسمع بعض الناس يقع في عرض عالم، فتسأله: هل استمعت إلى هذا العالم؟فيقول : لا والله . فتقول : إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا؟! فيقول: قاله لي فلان. هكذا يطعن في العالم تقليداً لفلان ، بهذه السهولة ، غير مراعٍ حرمة العالم ، قال ابن مسعود:( ألا لا يقلدنا أحدكم دينه رجلاً إن آمنَ آمن ، وإن كفرَ كفر ، فإنه لا أسوة في الشر).
وقال أبو حنيفة: ( لا يحلُّ لمن يُفتي من كُتُبي أن يُفتي حتى يعلم من أين قلتُ ).
وقال الإمام أحمد: ( من قِلة علم الرجل أن يقلِّد دينه الرجال ).
5 - التعصب: من خلال سبري لأقوال الذين يتحدثون في العلماء – و بخاصة طلاب العلم و الدعاة – تبين لي أن التعصب من أبرز أسباب ذلك . والباعث على التعصب هو الحزبية ، الحزبية لمذهب أو جماعة أو قبيلة أو بلد ، الحزبية الضيقة التي فرقت المسلمين شيعاً، حتى صدق على بعضهم قول الشاعر :
وهل أنا إلا من غُزية إن غوت ****** غويت إن ترشد غزيةُ أرشد
سمعت أن بعض طلاب العلم يتكلمون في بعض العلماء ، وفجأة تغير موقفهم، وصاروا يثنون عليه ؛ لأنهم سمعوا أن فلاناً يثني عليه ؛ فأثنوا عليه ، وسبحان الله مغير الأحوال .
إذا ضل من يتعصبون له ؛ ضلوا معه، وإذا اهتدى للصواب ؛ اهتدوا معه . لقد سلَّم بعض الطلاب والدعاة عقولهم لغيرهم ، وقلدوا في دينهم الرجال .
* ولقد رأينا قريباً من ينتصر لعلماء بلده ، ويقدح في علماء البلاد الأخرى، سبحان الله ! أليست بلاد المسلمين واحدة ! أليس هذا من التعصب المذموم ! أليس من الشطط أن يتعصب أهل الشرق لعلماء الشرق ، وأهل الغرب لعلماء الغرب ، وأهل الوسط لعلماء الوسط ! .
إن هذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ، ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب:( وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال،لا الرجال بالحق ).
6 – التعالم : لقد كثر المتعالمون في عصرنا ، وأصبحت تجد شاباً حدثاً يتصدر لنقد العلماء، و لتفنيد آرائهم وتقوية قوله ، وهذا أمر خطير ؛ فإن منْ أجهل الناس منْ يجهل قدر نفسه ، ويتعدى حدوده .
7- النفاق وكره الحق : قال الله – تعالى - عن المنافقين :{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا }. [سورة البقرة ، الآية : 10 ]
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنُؤمِن كما آمن السفهاءُ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} [سورة البقرة ، الآية 13 ] .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} [سورة البقرة ،الآية : 14 ] . * إن المنافقين الكارهين للحق؛من العلمانيين ، والحداثيين، والقوميين، وأمثالهم من أقوى أسباب أكل لحوم العلماء؛ لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله .
ومن المؤسف الممضّ أنني استمعت في مجلس من المجالس إلى أحد هؤلاء ، المنافقين يستطيل في أعراض العلماء، فقلده بعض الطيبين من حيث لا يشعر، ووافقه على ما يقول ، حتى رُد عليه في ذلك المجلس .
إن العلمانيين الآن يتحدثون في علمائنا بكلام بذيء ، يعفُّ القلم عن تسطيره ، مما يدُلّ على ما في قلوبهم من الدغل ، ومعاداة ورثة الأنبياء ؛ وما يحملونه من الحق .
8- تمرير مخططات الأعداء كالعلمنة ونحوها: أدرك العلمانيون - أخزاهم الله – أنه لا يمكن أن تقوم لهم قائمة، والعلماء لهم وشأن هيئة وهيبة في البلد فأخذوا في النيل من العلماء، وشرعوا في تشويه صورة العلماء، وتحطيم قيمتهم، بالدس واللمز، والافتراء والاختلاف . لا أقول هذا جزافاً ولا رجماً بالغيب ، ولكن هو ما نقله إلينا الثقات من العلمانيين ،من كلام في العلماء لا يقبله عقل العاميّ ، فضلاً عن طالب العلم . [ لحوم العلماء مسمومة للشيخ / ناصر العمر ] .
أضرار الغيبة :
للغيبة أضرار عديدة نذكر منها ما يلي :
1- صاحب الغيبة يعذب في النار ، ويأكل النتن .
2- ينال عقاب الله تعالى في قبره .
3- الغيبة تُذهب أنوار الإيمان ، وآثار الإسلام .
4- لا يغفر له حتى يعفو عنه المغتاب .
5- الغيبة معولٌ هدام ، وشرٌ مستطير .
6- تؤذي وتضر وتجلب الخصام والنفور .
7- مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين المسلمين .
8- دليل على خسة المغتاب ودناءة نفسه . [ نضرة النعيم 11/5177 ] .
الفرق بين الغيبة والبهتان والشتم :
بّين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين الغيبة والبهتان, ففي الحديث "قيل: أرأيت إن كان فيه ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " , وفي حديث عبد الله بن عمرو أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا : لا يأكل حتى يُطعم, ولا يَرحل حتى يُرحل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اغتبتموه " فقالوا : يا رسول الله : إنما حدثنا بما فيه قال : " حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " .
والبهتان إنما يكون في الباطل كما قال الله : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " [ الأحزاب 58 ] .
والبهت قد يكون غَيبة ، وقد يكون حضوراً ، قال النووي : " وأصل البهت : أن يقال له الباطل في وجهه " .
ونخلص إلى الفرق بين التعاريف الثلاثة بما يلي :
الغيبة : ذكر مساوئ الإنسان التي فيه ، في غيبته .
والبهتان : ذكر مساوئٍ للإنسان ليست فيه .
والشتم : ذكر المساوئ في مواجهة المقول فيه .
أمور تجوز فيها الغيبة :
ذكر العلماء بعض الحالات التي تجوز فيها الغيبة لما في ذلك من مصلحة راجحة.
ومن هذه الحالات:
1- التظلم إلى القاضي أو السلطان أو من يقدر على رد الظلم :
قال تعالى : " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " [ النساء 148 ] .
وقال الشوكاني : استثناء أفاد جواز ذكر المظلوم بما يبين للناس وقوع الظلم عليه من ذلك الظالم .
وقال صلى الله عليه وسلم : " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " [ أخرجه أبو داود وابن ماجة ] ، واللي هو الظلم ، والواجد هو الغني القادر على السداد .
قال سفيان : يحل عرضه : أن يقول : ظلمني حقي .
قال وكيع : عرضه : شكايته ، وعقوبته : حسبه .
2- الاستفتاء :
فيجوز للمستفتي فيما لا طريق للخلاص منه أن يذكر أخاه بما هو له غيبة ، ومثل له النووي بأن يقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو فلان فهل له ذلك أم لا .
جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يفكيك وولدك بالمعروف " [ متفق عليه ] .
قال البغوي : هذا حديث يشتمل على فوائد وأنواع من الفقه، منها جواز ذكر الرجل ببعض ما فيه من العيوب إذا دعت الحاجة إليه ، لأن النبي لم ينكر قولها : إن أبا سفيان رجل شحيح [ شرح السنة 8 / 204 ] .
3- الاستعانة على تغيير المنكر :
ربما رأى المسلم المنكر ، ولم يقدر على تغييره إلا بمعونة غيره ، فيجوز حينذاك أن يطلع الآخر ليتوصلا إلى إنكار المنكر .
قال الشوكاني : " وجواز الغيبة في هذا المقام هو بأدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الثابتة بالضرورة الدينية ، التي لا يقوم بجنبها دليل ، لا صحيح ولا عليل " [ رفع الريبة ] .
4- التحذير من الشر ونصيحة المسلمين :
جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستشيره في أمر خطبتها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم وأسامة بن زيد ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أما معاوية فرجل ترب لا مال له ، وأما أبو الجهم فضراب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد " [ أخرجه مسلم ] .
قال ابن تيمية : الشخص المعين يُذكر ما فيه من الشر في مواضع . . أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم . . . [ مجموع الفتاوى ] .
ويدخل في هذا الباب ما صنعه علماؤنا في جرح الرواة نصحاً للأمة وحفظاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم .
قال النووي : اعلم أن جرح الرواة جائز ، بل هو واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة ، وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين . [ شرح صحيح مسلم ] .
5- المجاهر بنفسه المستعلن ببدعته :
استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة ، أو ابن العشيرة " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
قال القرطبي : في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة [ فتح الباري ] .
ومما يدل على اتصاف هذا الرجل بما أحل غيبته ما جاء في آخر الحديث ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي عائشة ، إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه اتقاء فحشه " .
قال الحسن البصري : ليس لصاحب البدعة ولا الفاسق المعلن بفسقه غيبة [ شرح أصول الاعتقاد ] .
وقال زيد بن أسلم : إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي [ شعب الإيمان ] .
والذي يباح من غيبة الفاسق المجاهر ما جاهر به ، دون سواه من المعاصي التي يستتر بها .
قال النووي : كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس . . . فيجوز ذكره بما يجاهر به ، ويحرم ذكره بغيره من العيوب [ شرح صحيح مسلم ] .
وينبغي أن يُصنع ذلك حسبة لله وتعريفاً للمؤمنين لا تشهيراً وإشاعة للفاحشة أو تلذذاً بذكر الآخرين .
قال ابن تيمية : وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى ، لا لهوى الشخص مع الإنسان مثل الإنسان مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو تحاسد أو تباغض. . . فهذا من عمل الشيطان و إنما الأعمال بالنيات [ مجموع الفتاوى 28 / 221 ] .
السادس : التعريف :
فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى، والأحول ، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة ، وإليك بيان ذلك :
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رجلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " ائْذَنُوا لَهُ ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ ، فَقَالَ : " أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ ، مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ " [ متفق عليه ] .
احتج البخاري رحمه الله تعالى بهذا الحديث في جواز غيبة أهل الفساد ، وأهل الريب .
وعنها رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا " [ أخرجه البخاري ، وقَالَ اللَّيْثُ بن سعد : كَانَا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ] . [ الأذكار 489 ، الزواجر 556 ] .
علاج الغيبة :
الغيبة مرض فتاك ، وسقم قتال ، ومن علم خطورته وجب عليه الابتعاد عنها ، فهو طريق موصل لغضب الرب سبحانه ، مفض لعقابه وعذابه ، فإذا عرف المغتاب أنه تعرض لسخط الله تعالى يوم القيامة ، بإحباط عمله ، وإعطاء حسناته من اغتابه ، ويحمل من أوزاره وسيئاته ، وأنه يتعرض لهجوم من يغتابه في الدنيا ، وقد يسلطه الله عليه ، لأنه ظالم ، ظلم من اغتابه ، فإذا علم المغتاب ذلك ، فواجب عليه أن يتقي الله تعالى ويخافه في سره وعلانيته ، ويخشى عقوبته الآجلة قبل العاجلة ، فعليه أن يقلع عن ذنبه ويستغفر الله تعالى ويتوب إليه ، ويتحلل من اغتابه إن كان قادراً على ذلك ، أو يدعو له في كل موطن اغتابه فيه .
وينبغي من عرضت له الغيبة أن يتفكر في عيوب نفسه ، فيتداركها ويسعى لإصلاحها ، ويستحيي أن يعيب الناس وهو معيب ، كما قال بعضهم :
فإن عبت قوماً بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور
وإن عبت قوماً بالذي ليس فيهم فذلك عن الله والناس أكبر
وإن ظن أنه سليم من العيوب ، فليتشاغل بالشكر على نعم الله عليه ، ولا يلوث نفسه بأقبح العيوب وهو الغيبة ، وكما لا يرضى لنفسه بغيبة غيره له ، فينبغي أن لا يرضاها لغيره من نفسه .
ولينظر في السبب الباعث على الغيبة ، فيجتهد في قطعه ، فإن علاج العلة يكون بقطع سببها . [ مختصر منهاج القاصدين 214 ] .
ومن أهم الأمور التي يُستعان بها للتخلص من الغيبة ما يلي :
1- تقوى الله عز وجل والاستحياء منه :
ويحصل هذا بسماع وقراءة آيات الوعيد والوعد وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث تحذر من الغيبة ومن كل معصية وشر، ومن ذلك قوله تعالى : " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون " [ الزخرف80 ] .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : " لَيْسَ ذَاكَ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " [ أخرجه الترمذي وأحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 935 ] .
2- تذكر مقدار الخسارة التي يخسرها المسلم من حسناته :
ويهديها لمن اغتابهم من أعدائه وسواهم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " [ أخرجه مسلم ] .
وروي أن الحسن قيل له : إن فلاناً اغتابك ، فبعث إليه الحسن رطباً على طبق وقال : بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك ، فأردت أن أكافئك عليها ، فاعذرني ، فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام .
3- أن يتذكر عيوب نفسه :
وينشغل بها عن عيوب غيره ، وأن يحذر من أن يبتليه الله بما يعيب به إخوانه .
قال أنس بن مالك: " أدركت بهذه البلدة – المدينة – أقواماً لم يكن لهم عيوب ، فعابوا الناس ، فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس ، فنسيت عيوبهم " [ جامع العلوم والحكم ] .
قال الحسن البصري : كنا نتحدث أن من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ، ابتلاه الله عز وجل به [ الصمت لابن أبي الدنيا ] .
قال أبو هريرة : يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ، ولا يبصر الجذع في عين نفسه .
4- مجالسة الصالحين ومفارقة مجالس البطالين :
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ ، وَنَافِخِ الْكِيرِ ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ـ يعطيك ـ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً " [ متفق عليه ] .
قال النووي في فوائد الحديث : فيه فضيلة مجالسة الصالحين ، وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب ، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته ، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة [ شرح صحيح مسلم ] .
4- قراءة سير الصالحين ، والنظر في سلوكهم ، وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم :
قال أبو عاصم النبيل : ما اغتبت مسلماً منذ علمت أن الله حرم الغيبة [ الصمت لابن أبي الدنيا ] .
قال الفضيل بن عياض : كان بعض أصحابنا ، نحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة . أي لقِلّته [ الصمت لابن أبي الدنيا ] .
وقال محمد بن المنكدر : كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت [ حلية الأولياء ] .
5- أن يعاقب نفسه ويشارطها حتى تقلع عن الغيبة :
قال حرملة : سمعت رسول ابن وهب يقول: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً فأجهدني ، فكنت أغتاب وأصوم .
فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أني أتصدق بدرهم ، فمن حب الدراهم تركت الغيبة.
قال الذهبي : هكذا والله كان العلماء ، وهذا هو ثمرة العلم النافع [ سير أعلام النبلاء ] .
كفارة الغيبة :
كل من ارتكب معصية أو اقترف إثماً فيجب عليه أن يبادر بالتوبة النصوح ، لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت .
ويشترط للتوبة النصوح شروطاً أربعة :
الأول : أن يقلع عن المعصية في الحال .
الثاني : أن يندم على ما فات .
الثالثة : أن يعزم على ألا يعود إليها .
الرابع : التحلل من المظالم وردها إلى أهلها .
وليعلم المغتاب أن قد ارتكب جنايتين :
الأولى : في حق الله تعالى ، وذلك بمخالفة أوامره ، وارتكاب نواهيه ، فالله جل وعلا حرم الغيبة ، ولم يذعن المغتاب للنهي ، وكفارة ذلك التوبة والندم كما بينا قبل قليل .
الثانية : في حق المخلوقين ، فإن كانت الغيبة قد بلغت من وقعت بحقه ، جاء إليه واستحله منها ، وأظهر له الندم على فعله وقوله ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَتْ عنده مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ " [ أخرجه البخاري وأحمد ] .
وإن كانت لم تبلغ من أُغتيب ، جعل مكان استحلاله ، الاستغفار له ، ولا يخبره ، فإنه ربما أخبره ، فحصلت العداوة والبغضاء والقطيعة بينهما ، وعليه أن يدعو لأخيه ، ويذكر محاسنه في المجالس التي اغتابه فيها ، لعل الله أن يتوب عليه إن أحسن النية والقصد .
واعلم أنه يُستحبّ لصاحب الغيبة أن يبرئه منها ، ولا يجبُ عليه ذلك ، لأنه تبرّعٌ وإسقاطُ حقّ، فكان إلى خِيرته ، ولكن يُستحبّ له استحباباً متاكداً الإِبراء، ليخلِّصَ أخاه المسلم من وبال هذه المعصية ، ويفوزَ هو بعظيم ثواب اللّه تعالى في العفو ومحبة اللّه سبحانه وتعالى ، قال اللّه تعالى : " وَالكاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهِ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ " [ آل عمران 134] ، وقال اللّه تعالى : " وَلمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ اِن ذلكَ لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ " [ الشورى 43] ، وقال تعالى : " خُذِ العَفْوَ " [ الأعراف199 ] والآيات بنحو ما ذكرنا كثيرة .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ " [ أخرجه مسلم ] .
فينبغي أن يقبل من التائب توبته ، وأن يعفو صاحب الحق ، وألا يعين الشيطان على أخيه المسلم ، فلربما وقع في ما هو أشد وأقبح من الغيبة ، فينبغي الرفق به والحرص على دينه .
وقد قال الشافعي رحمه اللّه : من اسْتُرضي فلم يرضَ فهو شيطان .
وقد أحسن من قال :
قيلَ لي قد أساءَ إليك فلانٌ ومُقام الفَتَى على الذُّلِّ عَارُ
قلتُ قدْ جاءَنَا واحْدَثَ عُذْراً دِيةُ الذنبِ عِندنَا الاعْتذَارُ
فقبول الاعتذار مما حث عليه الشرع ، ودعا إليه الدين ، لما يترتب عليه من مصالح لكلا الطرفين ، المغتاب ومن وقعت ضده الغيبة ، فهذا تائب من ذنبه ، ويجب أن يعان عليه فله أجر ومثوبة ، وذاك عفا وصفح وأحسن ، فله أجر ومثوبة ، وكلاهما على خير .
وأما الحديث : " أيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَكُونَ كابي ضَمْضَمٍ، كانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قالَ : إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي على النَّاسِ " .
معنى الحديث : لا أطلبُ مَظلمتي ممّن ظلمني لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا يَنفعُ في إسقاط مَظلمة كانت موجودة قبل الإِبراء ، فأما ما يحدثُ بعدَه ، فلا بدّ من إبراء جديد بعدَها .
درجات الغيبة :
تتدرج الغيبة بين الكفر والحرام والإباحة .
فتكون كفراً ، إذا استحلها صاحبها ، فإذا اغتاب المسلم أحداً ، فيقال له : لا تغتب ، لأن الغيبة حرام ، حرمها الله ورسوله ، فيقول : ليست غيبة وأنا صادق فيما قلت ، فهذا قد استحل ما حرم الله تعالى ، ومن استحل ما حرم الله فقد كفر ما لم يكن له شبهة في ذلك .
وأما الحرام ، وما دون الكفر ، فهو أن يغتاب إنساناً ويعلم حرمة ذلك ، فهذه معصية عظيمة ، وذنب كبير ، وعليه التوبة إلى الله تعالى .
وأما المباح ، فهو أن يذكر مساوئ إنسان ليحذره الناس ويعرفوا حاله . [ تنبيه الغافلين 80 ] .
سماع غيبة من لم يتعين :
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أم زرع من عائشة رضي الله عنها مع ما فيه من غيبة بعض النسوة لأزواجهن ، ولم يكن الغرض في سماع حديث أم زرع إلا جبر لخاطر عائشة رضي الله عنها ، وإلا فلا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع ذلك وأمثاله ، ولكنه حسن العشرة والمودة بين الزوجين . [ شجرة المعارف 328 ] .
غيبة الكفار :
الحقيقة أن الغيبة حرام ، سواءً كانت في مسلم أو كافر ، فالكافر ربما أسلم وحسن إسلامه ، ونفع الله به خلقاً كثيراً .
غيبة الأموات :
يكفينا في ذلك حديث عبد الله ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ " [ أخرجه الترمذي وأبو داود ] .
غيبة الأطفال :
يعتقد البعض من الناس أنه تجوز غيبة الأطفال غير البالغين ، لأنه لم يجر القلم عليهم ، وهذا لا دليل عليه ، فإن لم يُكتب عليهم ، فإنه مكتوب عليك أنت ، وأنت مؤاخذ بما تقول ، فيجب الكف عن أعراض المسلمين ، ذكرهم وأنثاهم ، كبيرهم وصغيرهم .
ومن مواطن غيبة الأطفال ، ما يحصل في المدارس بين المعلمين والمعلمات ، من ذكر عيوب بعض الطلاب والطالبات ، على وجه الفكاهة أو السخرية ، أو التنقص ، مما يُستحيا من ذكره أحياناً ، فيجب على المعلمين والمعلمات أن يكونوا خير قدوة لأبنائهم الطلاب والطالبات ، وكذلك قدوة حسنة لزملائهم .
وكذلك ما يحصل في مستشفيات الأطفال ، وما يحصل في البيوت من تقليد للصغار ، وانتقاص لهم ، وعلى ذلك فقس .
مظاهر الغيبة اليوم :
كلما ابتعد الناس عن دينهم ، كلما زادت البدع ، وكثرت الخرافات ، وضعف اليقين ، وتهلهل الإيمان ، واختل ميزانه في القلوب ، فتحدث أموراً غريبة عجيبة ، تصادم أصول الدين وفروعه ، فمن مظاهر الغيبة الحادثة اليوم ما يلي :
1- الطعن في الأحساب والأنساب :
فيقول : فلان من قبيلة كذا وكذا ، فلا ملامة عليه ، والمراد تنقص المسلم لأنه من القبيلة الفلانية ، وكل يعتز بقبيلته ، والله تعالى يقول : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ : الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ ، وَالنِّيَاحَةُ ، وَقَالَ : النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا ، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ " [ أخرجه مسلم ] .
وربما قال كثير من الناس : فلان صانع أو لا أصل له ، أو غير قبلي ، أو حضري ، وكل ذلك من باب التنقص والغيبة ، فهذا حرام لا شك فيه ، فكل الناس لآدم وآدم من تراب ، ومن لم يصدق فليرجع لكلام رب العالمين في سورة آل عمران ، فهناك الخبر اليقين .
2- الهمز والغمز :
ومن ذلك ما يفعله بعضهم من الغيبة بغير الكلام ، كإخراج اللسان مثلاً ، أو تمييل الشفه ، أو الفم ، أو العين ، أو نفض اليد ، أو تحريكها بشكل يدل على التنقص ، والله عز وجل يقول : " وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ " .
3- التقليد :
والقصد من ذلك التهكم والتنقص ، سواء كان التقليد للصوت أو المشية ، أو الطريقة في الكلام ، أو الطريقة في الأكل ، أو في أي شيء آخر ، وكثير من الأفلام الهابطة والمسرحيات التافهة ، والمسلسلات المنحطة تربي مشاهديها على مثل هذا وهم لا يشعرون .
4- ذكر المساوئ :
الكمال لله وحده سبحانه ، والعصمة له جل جلاله ، ولأنبيائه فيما يبلغون عن ربهم ، أما النقص فهو يعتري بني الإنسان أينما كان ، ما من بشر إلا وله عيوب ، وله مساوئ ، ومن يدعي العصمة ، وعدم العيب ، فقد تقول على الله بلا علم .
وبما أن الإنسان فيه من العيوب والمساوئ كما في غيره ، فلا غرو أن يبدأ بسد الخلل ، ورقع الخرق الحاصل في خلقه وأخلاقه ، وينشغل بذلك عن عيوب غيره .
فمن الغيبة الواقعة بين الناس اليوم أن يذكر أحدهم شخصاً بأنه عصبي ، أو كسول ، أو يُحب أن يُخدم ، أو ثقيل الدم ، أو متقلب المزاج ، أو سريع الغضب ، أو نومه ثقيل ، أو يشخر أثناء النوم ، إلى غير ذلك من العيوب التي يرفضها من اتصف بها ولو كانت حقيقة ، فهي من الغيبة التي حرمها الله تعالى في كتابه ، وحرمها نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته .
عن أنس رضي الله عنه قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضًا في الأسفار ، وكان مع أبي بكر وعمر رجلٌ يخدمهما ، فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعامًا ـ الأصل أن يكون الخادم قد استيقظ وهيأ الطعام لمن يخدمه ، لكن هذا الرجل لم يصنع ـ قام أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يجداه قد استيقظ ، فقال أحدهما لصاحبه : " إن هذا ليوائم نوم بيتكم " : يعني قالوا : هذا نوم بيت لا نوم سفر ، عابوه بكثرة النوم ، فأيقظاه فقالا: إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له : إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام وهما يستأدمانك، ـ يطلبان الإذن ليأكلا ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قد ائتدما " ففزعا ، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله ، بعثنا إليك نستأدمك ، فقلت : " قد ائتدما " ، فبأي شيء ائتدمنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين أنيابكما " ، وفي رواية قال : " إني أرى لحمه في ثناياكما " فقالا ـ أي أبو بكر وعمر ـ فاستغفر لنا يا رسول الله ، قال : " هو فليستغفر لكما " [ أخرجه الضياء المقدسي في المختارة ، والخرائطي في مساوئ الخلاق ، وهو حديث صحيح ، صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم 2608 ] .
5- الفكاهة والضحك :
كثيراً ما تغص المجالس بالفكاهات والترهات التي لا أصل لها ، وأغلب المجالس يتسنمها أحد السفهاء ، الذي دائماً ما يضحك القوم ، فيكون محط الأنظار ، ولا يستأنس الجميع إلا بوجوده ، فتراه يقول كلمة فيها من الحقيقة شيء يسير ، وتحمل في طياتها كذب وافتراءً كثيراً ، فيبهت الناس ، ويفتري عليهم الكذب ، كل ذلك ليضحك به القوم ، وقد ورد الوعيد الشديد لمن كانت تلك حاله ، وإليكم الأدلة :
قال تعالى : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " [ الأحزاب 58 ] .
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ " [ أخرجه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد ، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب 3/81 ] .
وردغة الخبال : عصارة أهل النار .
وقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ ، وَيْلٌ لَهُ ، وَيْلٌ لَهُ " [ أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وحسنه الألباني في الترغيب 3/127 ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا عسى رجل يتكلم بالكلمة يُضحك بها أصحابه ، فيسخط الله بها عليه ، لا يرضى عنه حتى يدخله النار " [ رواه أبو الشيخ بإسناد حسن ] .
خطأ عام :
ربما يظن بعض الناس أنه لو ذكر عيب شخص في مواجهته أنه يبيح له أن يذكر ذلك العيب في غيبته ، وهذا أمر غير صحيح .
فمن نصح إنساناً وذكَّره بعيبه ، فهذا أمر جيد ، يُشكر عليه ، ولكن ذلك لا يُجيز له أن يغتابه عند الناس بذكر ذلك العيب ، لأنه غيبة ، فليتنبه الناس لذلك .
عن المطلب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الغيبة : أن تذكر الرجل بما فيه من خلفه " [ حديث صحيح في السلسلة الصحيحة ] .
أحوال العلماء مع الغيبة :
ذُكر للإمام أحمد رحمه الله رجلاً ، فقال : في نفسي شغل عن ذكر الناس .
وذكر له رجل ، فقال : ما أعلم إلا خيراً ، قيل : قولك فيه ، خلاف قوله فيك ؟ فتبسم وقال : ما أعلم إلا خيراً ، هو أم وما يقول ، تريد أن أقول ما لا أعلم .
وقال رحمه الله : رحم الله سالماً ، زحمت راحلته راحلة رجل فقال الرجل لسالم : أراك شيخ ، قال : ما أبعدت .
وجاء رجل إلى فضيل بن بزوان فقال : إن فلاناً يقع فيك ، فقال : لأغيظن من أمره ، يغفر الله لي وله ، قيل له : من أمره ، قال : الشيطان .
وجاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن فلاناً يقع فيك ، فقال وهب : أما وجد الشيطان أحداً يستخف به غيرك ؟ فلما جاء الرجل الذي اغتابه ، أكرمه ورفع مجلسه . [ كتاب الورع 184 ] .
وقال خالد الربعي : كنت في المسجد الجامع فتناولوا رجلاً فنهيتهم عن ذلك ، فكفوا واخذوا في غيره ، ثم عادوا إليه ، فدخلت معهم في شيء من أمره ، فرأيت تلك الليلة في المنام ، كأني أتاني رجل أسود طويل ومعه طبق عليه قطعة من لحم خنزير ، فقال لي : كل ، فقلت : آكل لحم خنزير ؟ والله لا آكله فانتهرني انتهاراً شديداً وقال : قد أكلت ما هو شر منه ، فجعل يدسه في فمي حتى استيقظت من منامي ، فوالله لقد مكثت ثلاثين أو أربعين يوماً ما أكلت طعاماً إلا وجدت كعم ذلك اللحم ونتنه في فمي .
وقال سفيان بن الحصين ، كنت جالساً عند إياس بن معاوية ، فمر رجل فنلت منه ، فقال : اسكت ، ثم قال لي : هل غزوت الروم ؟ قلت : لا ، قال : هل غزوت الترك ؟ قلت : لا ، قال : سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ، قال : فما عدت إلى ذلك بعد .
وقال حاتم الزاهد رحمه الله : ثلاثة إذا كن في مجلس فالرحمة عنهم مصروفة : ذكر الدنيا ، والضحك ، والوقيعة في الناس .
وقال بعض الحكماء : إن ضعفت عن ثلاث فعليك بثلاث : إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر ، وإن ضعفت عن نفع الناس ، فأمسك عن ضرهم ، وإن ضعفت عن الصوم ، فأمسك عن أكل لحومهم . [ تنبيه الغافلين 79 ] .
كانت تلكم كلمات خرجت من اللسان ، وترجمتها الأنامل على الأسطر والورقات ، فكانت كما قرأتم وسمعتم ، فأرجو من الله أجرها ، وبركة ثمرتها ، ومن إخواني خالص الدعاء ، إنه نعم المولى ونعم النصير .
وأسأل الله تعالى أن يعصمنا من مظلات الفتن ، وأن يقينا عذابه وسخطه ، وأن يمن علينا بتوبة نصوح قبل الموت ، وأن يجعل مآلنا إلى جنات النعيم ، بحوله وقوته سبحانه ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة ، اللهم طهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب والفحش وسوء القول ، وأعيننا من الخيانة ، اللهم ما كان من صواب فيما كتبت فمن فضلك وإنعامك علي وعلى الناس ، وما كان من خطأ وزلل ، فمن نفسي وتقصيري ، وأستغفرك أن أقول عليك ما ليس لي بحق ، إنك أنت علام الغيوب ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .
المصدر :
موقع صيد الفوائد