ماهر حجازي- دمشق
سنروي حكايةً ليست من حكايات الخيال، بل هي حكاية حقيقية راسخة ومزروعة في ذاكرة عائلة أحد الشهداء الفلسطينيين في العراق..
إنها معاناة عائلة الشهيد المحامي سعيد مصطفى سعيد «الجعفري» وكنيته «أبو مصطفى»، وقد التقينا أقرادها في منزلهم المتواضع لننسج ما ننقله هنا بخيوط الأسى والحزن على فقدان الوالد، وهي تجسد صورة المستقبل المدمر الذي يتراءى للزوجة والأبناء كلما أرادوا نسيان الماضي الأليم والتفكير بالمستقبل، عيونهم المحتبسة للدمعة ونبرات أصواتهم المتعثرة تقول ذلك.
الجذور.. للتذكير
أبو مصطفى، سعيد مصطفى سعيد «الجعفري»، من مواليد عام 1949 في دالية الروحة قضاء حيفا المحتلة عام 48، هاجر بعد النكبة مع والده إلى الأردن ثم إلى العراق، ليسكن في منطقة التورات ضمن ملاجئ أعدت للاجئين الفلسطينيين، وهي عبارة عن مدارس، لكنها كانت سيئة بحسب شهادات اللاجئين.
قبل احتلال العراق
بعد أن أتم دراسته في المراحل الأولى، التحق بجامعة المستنصرية في بغداد قسم العلوم السياسية، وتخرج منها وقد حصل على شهادة المحاماة في القانون السياسي.
أبو مصطفى رفض الانتماء إلى الحزب الحاكم في العراق آنذاك، بالرغم من الدعوات المتكررة من قبل زوجته بالانتماء إلى الحزب لتسنح له فرصة العمل في اختصاصه، لكنه كان يرفض ذلك دوماً، وقد أجبر على العمل سائق سيارة أجرة، لكن هذا لم يمنعه من يتسلم عدداً من القضايا.
تقول أم مصطفى إن زوجها كان يخسر معظم قضاياه عندما يعلم القاضي أنه ليس عضواً في الحزب.
وفي إحدى القضايا التي قدمت له تعود لعراقي شيعي له شقيقان محكومان بالإعدام، تسلّم أبو مصطفى الدعوى وتابعها حتى أخرجهما من السجن وأصبح هذا الشخص العراقي صديقاً له.
بعد زواجه استقر أبو مصطفى وعائلته المكونة من ثلاثة أولاد وأربع بنات في مجمع البلديات ضمن العاصمة بغداد الذي يمثّل أكبر تجمع للفلسطينيين في العراق. تقول زوجته: كان أبو مصطفى محبوباً من الجيران، يقدم المساعدة للفلسطينيين ويتبنى قضاياهم في المحاكم، وقد نجح في الكثير من القضايا الموكلة إليه بإطلاق سراح عدد من اللاجئين الفلسطينيين.
احتلال العراق والفلتان الأمني
بعيد الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وانتشار الفوضى والفلتان الأمني في ربوعه، وما حل بالإنسان العراقي من قتل واختطاف وإرهاب حل باللاجئ الفلسطيني، غدت الجنسية الفلسطينية تهمة تحاسب عليها الميليشيات الشعبوية التي بدأت تقتل وتسفك الدم العراقي والفلسطيني على أسس مذهبية وطائفية وسياسية، وتحت حجة واهية وذريعة باطلة بأن الفلسطينيين كانوا أنصار الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأنهم كانوا متمتعين بعطائه وهباته لهم.
أما أبو مصطفى، وفي ظل التدهور الأمني، فقد استمر في عمله وتوكل الدعاوى القضائية، وخصوصاً العائدة لفلسطينيين، وتمكن من افتتاح مكتب له في مدينة الأعظمية ذات الغالبية السنية لمدة عام.
كما كان يقوم بإحضار أحد القضاة إلى منزله في مجمع البلديات لتسهيل قضايا الفلسطينيين، مثل عقد القران والطلاق ثم يتابع باقي الإجراءات بعد توكيله بذلك، كل هذا لأن الفلسطيني يخشى أن يتعرض للاختطاف خلال مراجعته للمحاكم ودوائر الدولة.
كان أبو مصطفى يرفض دعوات زوجته وإلحاحها عليه بأن يترك عمله خشية عليه من الاختطاف والقتل، وفي مرات عدة وجهت له دعوات من قبل منظمات وهيئات إنسانية لمغادرة العراق والاستقرار خارجه، إلا أنه كان يرفضها دوماً ويصر على البقاء إلى جانب أبناء شعبه ليدافع عنهم.
القضية الأخيرة
الرابع عشر من آذار 2007 يوم لن يُمحى من ذاكرة الفلسطينيين في البلديات، ولا حتى في العراق. وستبقى أحداثه وتفاصيله مغروسة في أفئدتهم تسقى بالدموع ورعشات القلوب كلما حاولت الذاكرة الجريحة استذكار هذا اليوم، وعند لقاء الأحبة بعد الفراق للحديث عن أيام زمان والذكريات في البلديات.
في هذا اليوم اقتحمت مغاوير الشرطة العراقية التابعة لوزارة الداخلية مجمع البلديات وسط إطلاق نار، واعتقلت اثنين وسبعين فلسطينياً معظمهم من الشباب واقتادوهم إلى مركز شرطة الرشاد القريب من مجمع الفلسطينيين وسط انتشار نبأ عن أنهم سيُقتلون، فعمَّ الإرباك والذعر والخشية على الشباب، وفي هذه الأثناء كان المحامي سعيد وعائلته في دائرة الهجرة لإصدار وثائق سفر لهم.
اللاجئون في المجمع اتصلوا على الفور بأبي مصطفى الذي أجرى مكالمة هاتفية مع أحد الموظفين الكبار في وزارة الداخلية العراقية واخبره بما جرى مع الفلسطينيين وطلب منه إصدار مذكرة تفتيش عاجلة لمركز شرطة الرشاد، وذهب هذا الموظف إلى المركز فأخبره رئيس المركز أن أربعة عشر فلسطينياً ثبت وجود آثار مواد متفجرة على أيديهم من خلال التحليل، حينها احتجز هؤلاء وأطلق سراح الباقين.
أهالي المعتقلين وكّلوا أبو مصطفى بقضية أبنائهم، وفعلاً تمكّن من إطلاق سراح تسعة منهم وتابع القضية لإطلاق الباقين.
خلال المحاكمة زعم المدعي العام أن «المعتقلين يمتلكون مواد متفجرة، وكانت واضحة من خلال التحليل لآثار مواد كيميائية على أيديهم»، عندها طلب المحامي سعيد دليلاً على ذلك من المدعي العام، وذهب سعيد إلى جيش الاحتلال الأمريكي في مركز الرشاد، وسألهم إن كانوا قد أجروا فحوصاً للمعتقلين فنفوا ذلك.
عندها عاد أبو مصطفى إلى القاضي وأخبره بأنه لا يوجد تقرير عن آثار المواد المتفجرة على أيدي المعتقلين، فما كان من القاضي إلا أن أمر بتسليم المحامي سعيد تقريراً يثبت عدم تورط الفلسطينيين بحيازة مواد متفجرة وسيطلق سراحهم على الفور.
وعاد أبو مصطفى إلى مركز الرشاد للحصول على التقرير، وبينما هو يجاهد للحصول عليه حصلت مشادة كلامية مع أحد الأشخاص حين قال له: " لماذا تدافع عن الفلسطينيين؟ إنهم قتلة ومجرمون"..
يوم الأربعاء في 21/6/2007 تلقى المحامي سعيد اتصالاً يعرض عليه الحصول على التقرير مقابل مبلغ أربعة آلاف دولار، وصباح يوم الخميس في 22/6/2007 تقول الزوجة: " طلب مني أن أعطيه أربعة آلاف دولار لكنه لم يخبرني لماذا يريد هذا المبلغ الكبير، كان دائماً يطلب مني شراء ملابس وحاجيات للمعتقلين وكذلك لعائلاتهم وذلك بغرض مواساتهم" .
خرج أبو مصطفى متوجهاً إلى مركز شرطة الرشاد قرابة الساعة الثانية عشرة ظهراً، وتأخر طوال النهار وخط جوّاله مقفل، وأدركت العائلة بعد عدة اتصالات أن خطراً ما قد حل به.
اللاجئون في البلديات شاهدوا سيارته وقد استُبدل رقمها برقم آخر ويركب فيها أربعة من أفراد الشرطة.
العائلة في هذه الأثناء بدأت بالاتصال بأصدقاء أبو مصطفى، فأخبرهم أحد الأصدقاء بأنه قد شاهده قرابة الساعة الحادية عشرة صباحاً في دائرة التسفيرات، لكن العائلة استغربت من أن معظم أصدقائه قد أقفلوا هواتفهم وكأنهم يعلمون شيئاً عنه.
في صباح يوم الجمعة ذهبت إحدى بناته إلى مركز الرشاد والتقت بصديق والدها الذي نصحها بأن تذهب إلى مشفى الطب العدلي لتسأل هناك عنه. وهناك سألها شرطي: «لماذا لم يأتِ أخوك مصطفى للسؤال عن والده؟»، لكي يكون لقمة سائغة لهؤلاء القتلة.
يوم السبت اتصلت العائلة بالمستشفيات دون جدوى. وفي يوم الأحد ذهبت ابنته إلى مشفى الطب العدلي لتجد والدها مذبوحاً مكبل اليدين والرجلين وقد انتفخت جثته وتفسخت.
التقرير الطبي يؤكد مقتل المحامي سعيد في الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس من خلال إطلاق نار بشكل مباشر على رأسه بثلاث طلقات أدت إلى تهشم الدماغ. لم تستطع الابنة تسلّم جثة والدها، حيث عادت يوم الاثنين مع صديق والدها لمساعدتها في إخراج جثته، وتسلموا الجثة ونظموا له شهادة وفاة على أنه عراقي لسهولة الأمر.
وصل جثمان الشهيد إلى جامع القدس في البلديات لتغسيله والصلاة عليه، وما هي إلا لحظات حتى طوّق أفراد شرطة مركز الرشاد المسجد وأخذوا يطلقون الأعيرة النارية فوق رؤوس المشيّعين لتفريقهم، وبعد مغادرة الشرطة عاد المشيعون إلى المسجد ثم ذهب عدد من النسوة من بينهن زوجة الشهيد يرافقهن ثلاثة من الرجال تبرعوا بالذهاب معهم لدفنه في مقبرة الغزالية.
بعد الشِّدّة.. أشدّ
لم يُسمح لمصطفى أن يشاهد وجه أبيه، فقد خشي عليه أن يفقد صوابه عند رؤيته لأبيه وقد تشوّهت جثته، فقد كان المجرمون قد عمدوا إلى إفراغ حقدهم على أبي مصطفى وقاموا بتشويه جسده كاملاً (وقد حصلنا على صور جثته وآثار التعذيب والتمثيل بالجثة واضحة، وفظاعة المنظر تمنعنا من نشرها(.. .
هنا أستميحك عذراً مصطفى، فإن والدك بالفعل قد شُوّهت جثته، والآثار بادية على وجهه وبطنه وقدميه، والدتك هي من أكدت لي ذلك عندما هزت برأسها لي من خلفك لتحفظ مشاعرك عند سؤالي لك إن شاهدت جثة أبيك وهل تعتقد أنها مشوهة؟
استشهد الأب، وما زالت العائلة تخشى تكرار المأساة مع أحد أفرادها، الأولاد والبنات جميعهم يتركون الدراسة، مصطفى في السنة الثانية كلية التكنولوجيا علوم حاسبات، محمد وعلي في المرحلة الإعدادية بنتان متزوجتان واحدة في العراق والأخرى في الأردن، بالإضافة إلى خريجة جامعية وأخرى أوقفت دراستها.
أُجبرت العائلة على ترك العراق واللجوء إلى دولة مجاورة، أوضاعهم المعيشية من سيئ إلى أسوأ. مصطفى يعمل أياماً ولا يجد عملاً لشهور، وفي إحدى المرات سقط من علو طابقين لكن عناية الله حالت دون إصابته، البنات يعملن لتأمين معيشة أسرتهن.
أسرة الشهيد فكرت بحل لأزمتها وقررت الالتحاق باللاجئين في مخيم التنف الصحراوي، قدموا أوراقهم لذلك، والشيء ذاته فعلوه مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، عسى أن تقبل إحدى الدول توطينهم.
مصطفى يخشى على مستقبله ومستقبل أسرته، وهو محق في ذلك، ولا يستطيع أن ينسى أو أن يوقف التفكير بما جرى لهم في العراق، فكلما أراد أن يرتاح إلى النوم تدهمه الكوابيس فيشاهد نفسه بين فكي الماضي والمستقبل، لا يقبل العودة إلى الماضي ويخاف الاندفاع نحو المستقبل القادم، وصحيحٌ ما قاله لنا أخيراً: " نحن نكبر والزمن متوقف" .
مجلة العودة- مجلة فلسطينية شهرية - العدد التاسع عشر - السنة الثانية -نيسان (إبريل) 2009م – ربيع الثاني 1430 هـ