إنَّ مما ينبغي على المتطلع لنصرة هذا الدين أن يستشعر المسؤولية الفردية التي كلَّفه الله بها ، فإنَّه محاسب على كل تقصير اقترفه في حق نفسه وأمته.
والمصيبة التي حلَّت بالمسلمين أنَّ كلاًّ منهم يلقي باللاَّئمة على الآخر ، ويحاول الكثير منهم أن يختفي من واقع العمل إذا طولب بشيء منه ويظنُّ أنه لم يره أحد ، ولم ينتبه له المسلمون، كالنعامة تغطي وجهها تظنُّ أنَّها إن لم ترَ أحداً فإنَّ أحداً لا يراها . والغريب أننا نطالب غيرنا من كبيرنا إلى من هو أدنى منه بأمور عظام ونحن المطالبون بذلك تجدنا من أوائل القاعدين!
فلماذا لا نستشعر بعد ذلك روح المسؤولية ونعلم أننا جميعاً محاسبون لدى الله ـ سبحانه ـ؟ فالمسؤولية لا تخصُّ أناساً بعينهم ؛ وإن كان يشتد وجوبها على آخرين ويعظم في حقِّهم جرم التهاون بها،إلا أنَّها تعمُّ جميع أطياف المجتمع وأشكاله ؛ فالله ـ عز وجل ـ يقول: [ فوربك لنسألنهم أجمعين] الحجر[92] ويقول [ولتسألنَّ عما كنتم تعملون ] النحل [93] ، ويقول: [ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها] النحل [111] . ولهذا أمر ـ سبحانه ـ محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقتال ، مبيناً له أنَّ المسلم مكلف بذلك ؛ ولو ترك معظم المسلمين هذه الفريضة قائلاً : [فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاَّ نفسك وحرض المؤمنين]النِّساء[84].
تلك هي صفة الطموح، والذي يحمل همَّ الإسلام بصدق وجد، ويعيش ذلك الهم بين قلبه وأضلاعه، ويستشعر روح المسؤولية ، ويقلل من الكلام والتلاوم ، ويسعى للعمل ؛ فالرجل وإن كان صامتاً فإن عقله يفكر في الأسباب المعينة على نصرة الإسلام ، وطرائق الرقي بهذه الأمة إلى القمة السامقة، والريادة الكبرى ، ومن ثمَّ صُنع ذلك في أرض الواقع ، وإشعال لهيب المعركة.
لهذا كان من اللازم أن توظف جميع طاقات المسلمين متحركة داخل دائرة العمل الإسلامي ، وألاَّ يستثنى منها أحد ، فكل يعمل بأقصى جهده وقدر استطاعته ، فهذا خير لنا من أن نبقى متفرجين على مآسينا بلا عمل ولا ترتيب ؛ وهو ما يفرح أعداء الدين.
وقد عبَّر عن هذا أحد مشاهير الفلاسفة [إيدموند بورك/1729ـ 1797] بقوله: "إنَّ كل ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي ، دون القيام بعمل ما " اليهود وراء كل جريمة صـ7 .
وإذا كنا بهذا الضعف والانكماش ، فسيتفرد أهل العلمنة والنفاق بصناعة القرار، ويعيث أهل الفساد في ديارنا بالشر والزندقة !
وجدير إذا الليوث توارت * أن يلي ساحها جموعُ الثعالب
لكن إذا استشعرنا جميعاً المسؤولية وانخرطنا في عمل جاد يقاوم تحركات الكفار، وبذلنا جهدنا في ذلك ، وركبنا الصعب والذلول ، وعلم الله منا صدق النية وصلاحها، ونَصَرْنَا الله ـ عز وجل ـ ولم ننصر أهواءنا وما تمليه علينا رغباتنا ، فإنه ـ سبحانه ـ سيمنُّ علينا بالنصر العظيم والفتح المبين.
وإذا كانت هناك بقية باقية استعصت علينا ؛ لأن قدراتنا لا تسمح بمقاومتها؛ فإنه ـ سبحانه ـ سيتولى ذلك ، لأنه علم منا جميعاً أننا بذلنا الجهد في اقتلاع أطناب الفساد ، وقد أخبر عن نفسه المقدسة حين رأى جنده في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدَّة غزوات وقد بذلوا الغالي والنفيس لقتال أعداء الله ، وبقيت هناك بعض الأمور التي استعصت عليهم ، ولم يكن بمقدورهم التمكن منها، فإنه ـ سبحانه ـ تولى ذلك وأنزل الفتح المبين. قال ـ تعالى ـ:[ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كلِّ شيء قديراً] الفتح[21]. ومن تأمل قصة أصحاب الغار وكيف أنهم لما انطبقت عليهم الصخرة ، وكانوا من أعظم الناس إيماناً وحاولوا إزاحتها عن الباب ؛ ليخرجوا ، فلم يقدروا . ثمَّ دعا كل منهم ربَّه وانطرح بين يديه صادقاً ورفعوا أكفَّ الضراعة إلى الملك الرحيم العليم القادر وتوسل كل منهم إلى الله بأحسن عمل صالح فعله في حياته كلها، وبعد أن استنفدوا جهدهم وطاقتهم في طلب إزاحة هذه الصخرة ، ولم يركن أحد منهم ويطلب من الآخر أن يعمل وهو ينظر ؛ بل تحركوا جميعاً للعمل والدعاء ، وحين رأى الله ـ سبحانه ـ تلك العزائم الصادقة ؛ أمر تلك الصخرة أن تنزاح ليُخرج عباده المؤمنين إلى أرضه الفسيحة.
وما لم يفكر أبناء الأمة الإسلامية باستعادة مجدهم وتاريخهم العريق فلن يفكر بذلك أحد غيرهم ؛ بل سيخطط أعداء هذه الأمة لتحطيم الإسلام وإبادة أهله ، وقد فعلوا فالتأوه والحزن لا يصنع شيئاً، ولا يغير واقعاً ، ولله درُّ إبراهيم طوقان حين قال:
أفنيتَ يا مسكـين عمرك بالتأوه والحـزن
وقعدت مكتوف اليدين تقول:حاربني الزمن
ما لم تقم بالعـبء أنت ؛ فمن يقـوم به إذن؟
كم قلتَ : أمراض البلاد ، وأنت من أمراضها
والشـؤم علتها ؛ فهل فتشت عن أعراضها؟
والغريب أننا مع كثرتنا وافتخارنا بأننا أمة المليار وربع المليار ، لم نستطع وإلى الآن أن نردع العدو، وأن نكسر شوكته، وأن ننطلق في الآفاق لنشر دعوة الله في أرجاء العالم!
إنها الغثائيَّة التي أخبر عنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكشف لأمته عن الأسباب العميقة لضعفها حين تضعف ، حيث قال : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن؟ - أي ما سببه وما سره فإن معنى الوهن معروف وهو الضعف- قال : حبُّ الدنيا ، وكراهية الموت) أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2) بسند جيد .
ولهذا فحين رضينا بالدون وأحببنا الدنيا ، وصرنا نرضى بالحياة أي حياة ـ وللأسف ـ ، ولو كانت حياة هزيمة ووهن ، وأصبحت كثرتنا لا تصنع شيئاً ؛ فصرنا كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم * ثم لا يُغنون في أمر جلل
وقد عبَّر عن ذلك الدكتور عبد الودود شلبي حيث قال: "لقد سقط (المجدار) ، ومشت سكة الأجنبي في حقل الإسلام، وتداعت الأمم على المسلمين، كما تنبأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك بأكثر من ألف وأربعمائة عام" (أفيقوا قبل أن تدفعوا الجزية للأستاذ عبدالودود شلبي ، صـ 29).
وعليه، فإنَّ من أهم المهمات أن يعلم المسلم سبب وجوده في الحياة؛ فلم يُخلق عبثاً، بل خلق للعمل والعبادة والابتلاء والتمحيص... فلا بد من استشعار المسؤولية الفردية التي كلفه الله بها؛ فقد قال ـ - تعالى - ـ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93]، وقال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] وقال - تعالى - : {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
ثم إنه - تعالى - أوصانا بالعمل جميعاً، فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِـمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105]؛ فالعمل لهذا الدين مسؤولية الجميع.
أيا صاحِ هذا الركب قد سار مسرعاً ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟
أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدهم صريعَ الأماني والغرام ينازع
فـ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42].
وما أجمل ما خطته يد ابن الجوزي حين كتب: (أول قدم في الطريق: بذل الروح... هذه الجادة؛ فأين السالك؟!!)
بقلم خباب مروان الحمد