ما أن رأيته جالساً على ذات المسطبة التي ألتقيته عليها منذ بداية معرفتي به ؟؟ مهلاً يا (( أنا )) عن أي معرفة به صرت أباهي نفسي بها ؟؟ (( لقد بت أتكلم مع نفسي )) ؟؟ فأنا للأن لم أعرف عنه شيئاً ؟؟ بل أني لم أسأله عن أسمه ؟؟ وإن كان سؤالي على سبيل التعارف ؟؟
أعود لأقول بأني ما أن رأيته حتى أسرعت من فوري بالتوجه نحوه ,, ورحت أمد يدي بأتجاهه رغم المسافة التي لم تزل تفصل بيننا ,, ظناً مني بتمكني من مصافحته عن بعد ,, وقبل أن اصل اليه ,, وذلك كان من شدة شوقي له شخصياً ؟؟ أم من فرط لهفتي لسماع باقي حكايته ,, لا أعرف ؟؟ ولا أريد أن أعرف ما لذي أعتراني حين رأيته ,, حتى أني لحظة رؤيته خالجت نفسي رغبة لتقبيله ؟؟ وما منعني من فعل ذلك سوى نظرات الأشمئزاز والتقزز والريبة والشك والنفور ؟؟ التي سيقذفك بها الناظر لك في المجتمع الأمريكي ,, حين يراك وأنت تقبل رجلاً مثلك ؟؟ وإن كان حتى أبنا ً أو أخا ً لم تلقاه منذ سنين؟؟ ..
لذا كل الذي فعلته هو أني أنهلت عليه بسيل من التحايا والسلامات بعد مصافحته ,, وأمطرته بفيض من الأسئلة عما حل به وبأمه ؟؟ هل أنه أدرك ( القابلة المأذونة / الولادة ) لنجدته ؟؟ وهل أنها أستجابة لنهر توسلاته ؟؟ وهل أثرت فيها سيول دموعه وفيض رجاءاته ؟؟ وهل لبت أستغاثات أمه لها وقامت بأسعافها ؟؟ وأخيراً هل ثبت حمل أمه ؟؟ ..
رد علي ببرود وعيون حائرة ,, وزفرة خرجت من صدره كادت أن تحرق وجهي بل أكاد القول بأن زفرته خيل أليً أنها أحرقتني من شعر رأسي حتى أخمص قدمي ؟؟
قال لدي رغبة منذ التقيتني أنت في المرة الأولى أن أناديك بأسم (( مهم )) ؟؟ كما أني لي رجاء عندك هو حين تريد محادثتي أن تناديني بأسم (( مش مهم )) ؟؟ أرجو منك قبول ذلك والعمل به من الآن ؟؟ قال هذا دون أن يكلف نفسه النظر الى وجهي ليلتمس علامات القبول أو الرفض لرغبته ورجائه ؟؟ بل مضى بالقول وانا أحدث نفسي بصوت مسموع لك ما أردت ؟؟ لذا لم أناقشه أو أسأله عن سر أختياره لأسمي وأسمه على غرابتهما ؟؟ وظل سؤال ينقر في داخلي ؟؟ هل أنه يعتبر هاتان الصفتان أو النعتان حقاً أسماً لي وله ؟؟ ..
نعم يا سيد (( مهم )) جاءت القابلة معي مسرعة لنجدة أمي ,, وما أن وصلنا لما نظنه جنة الفردوس ؟؟ عفواً أقصد (( ملجأ الحاج طلفاح )) ,, لم أجد أمي ملقاة على الأرض ,, لأن النسوة قمن بحملها الى غرفتنا وقد من يد العون والمساعدة لها ,, لا تتعجل بالحكم لقد كانت في ذلك الوقت يد العون المقصود منها القيام بمسح دمها ودمعها بخرق باليه من قبل جاراتها ؟؟
وكذلك المساعدة هي أطلاق ألسنتهن بالدعاء الى الله لها بأن يسلمها مع بعض كلمات التصبير ؟؟ والمزيد من عبارات التشجيع لها بعدم الخشية على حملها ؟؟ ..
ما أن شاهدت الصفرة التي علت وجه أمي ؟؟ والزرقة التي كست معظم ما ظهر من بدنها الهزيل ؟؟ حينها أدركت بفطرة الأبن أتجاه أمه ,, أن أمي فقدت حملها ؟؟ والسقطة أفقدتها قواها الخائرة أصلاً ؟؟ وأن الحمرة التي في عيونها ,, ما هي إلاً صرخة مدوية تكاد أن تخترق جدران المدى ؟؟ ولسان قلبها ينزف أساً ويتميز حرقةً لفقدها وليدها ,, حرقةً وأساً يكاد يشطب الخط الممتد من حيفا الى بغداد من خارطة الأزمان ؟؟
نعم ياسيد (( مهم )) ؟؟ أن في صدور أمهاتنا قلب لهو لسان يتكلم بلغة لا يفهمها أيا كان ؟؟ ينطق لسان قلبهن حين يمنع الحياء أو العجز لسانهن من الكلام ؟؟ هذا اللسان لا يفقه قوله سوى أثنان لا ثالث بينهما ؟؟ أما ربُ رحيم .. أو من كان مثلي ؟؟ أبن محروم ؟؟ أبن دائم العطش لحنان أمه ؟؟ أبن تخنقه العبرات ؟؟ أبن حائر النظرات ؟؟ لا يقوى حتى على أطلاق الصرخات ؟؟ ..
لسان قلب أمي أخبرني ياسيد (( مهم )) بأن الوقعة أسقطت كل ما كانت تملك في أحشائها ؟؟ وقتلت جميع ما كان يختلج نفسها من بهجة لأستقبال وليدها ؟؟ وقد أطاحت تلك الوقعة بكل آمالها بالعودة الى جنتها في وطنها فلسطين ؟؟ ..
فاتني أن أذكر لك بأن أمي على دعتها وصمتها وسكينتها المعهودة .. أنها صلبة كصلابة حجر (( الصوان )) ؟؟ وعنيدة الى أبعد حد حين تعزم على شيء ؟؟ فهي كانت عازمة على تسمية وليدها المنتظر بأسم (( حيــفا )) ,, هذا الأسم كان خيارها الأول والأخير الذي كانت ستطلقه عليه أو عليها ,, وتناديهما به على روؤس الأشهاد ؟؟ وبغض النظر إن كان المولود ذكراً أو أنثى ,, فذلك لم ولن يغير قناعتها بالأسم ان كان يليق أو يصلح للأناث دون الذكور ؟؟ ولم يكن والدي يقوى على مناقشتها بذلك لأمرين ,, الأول لعلمه بأنها لم تطلب منه شيئاً منذ هجروا الى ها هنا ,, هذا أن لم تكن أصلاً لم تطلب منه شيئاً منذ زواجهما ؟؟ والأمر الثاني على فطرتي وقلًت أدراكي كنت أحس أن هذا الأسم يعني الشيء الكثير لأبي مثلما كان يمثل (( كل شيء )) عند أمي ؟؟؟
وأذكر مرة مازحها أبي بالقول ,, بأنه لا يصح أن تسمي المولود إذا كان ذكراً بأسم ( حيـــفا ) ,, قائلاً لها بأنه (( بكرة الناس راح توكل وجهي يا بنت عمي )) ؟؟ ردت عليه بالقول من فورها (( أبن عمي أللي مش عاجبو يشرب من البحر ؟؟ وبعد ما يروى أيبلط الساحل )) .. يا الله ما أحلى كلامها .. الله يرحمك ( يمه ) ؟؟؟
لم تُبقي الوقعة لدى أمي شيئاً ألاً أسقطته ؟؟ لكنها أبقت لها الهم في نفسها ,, وعمقت الجرح الذي في روحها ,, وهيجت الآلام في بدنها الهزيل ,, وزادت لها في غربتها غربة وأغتراب ؟؟ وأضافت خطوطاً وزرقةً على محياها راسمةً شكلاً جديداً ؟؟ كأن الوقعة رسمت جزءاً من خارطة العراق على جسدها ؟؟ أضافة الى خارطة فلسطين المطبوعة بكل تضاريسها على جبينها ؟؟
بعد كلماته هذه راح بصمت يشبه صمت أهل القبور ؟؟ ووجه أصبح للناظر اليه كأنما مصنوع من الشمع ؟؟ ولم يعد يتحرك فيه شيئاً سوى عينيه المائلات الى الأحمرار ,, اللتين رحن يجبن الفضاء كيفما شئن ؟؟ ..
قلت له ياسيد (( مش مهم )) أراك صامت منذ قرابة الساعة ,, أخبرني هل ستكمل لي قصتك أم أنك أكتفيت بهذا القدر ؟؟ لم ينطق بكلمة ؟؟ لكنه أجابني بشيء آخر حين نظرت اليه ؟؟ لأني حين أمعنت النظر أليه , هالني ما رأيت , وصعقت من سيل الدمع المنساب من عينيه ؟؟
فرضت دموعه علي أن أصمت أنا الآخر لبرهة قصيرة لكنها كانت كأنما دهراً بأكمله ؟؟ الى أن راح يتمتم بكلمات بالكاد أستطيع سماعها ؟؟ قائلاً بصوت تخنقه العبرات ؟؟ ..
قالت لي أمي حين رأتني وبعدما أدنتني من صدرها اللاهث وهي تمطرني بالغزير من القبلات على رأسي (( برضاي عليك يمه لا أتعيط ؟؟ تكبر أمك ولا تنزل دمعه من عيونك ؟؟ يمه بعد الله عز وجل ما ظل لأمك حدا ؟؟ يمه أنت صرت من اليوم سندي ؟؟ يمه يا شكفي من كبدي ؟؟ يمه أنت هسه أهلي وكل ناسي ؟؟ يمه ولله بشم فيك ريحة أمي وأبوي وأخواتي ؟؟ يمه أنت شمس صبحي ونجوم وقمر ليل بلدي )) ولك يمه عم تفهم شو قصدي ؟؟ ..
يا سيد (( مهم )) للأن لا أعرف من أين أتت أمي بتلك القوة ؟؟ وهذه العزيمة ؟؟ وذلك العناد والأرادة ؟؟ حتى أستطاعت أن تنهض من كبوتها هذه مثل فرس جامح قد نالت منه السياط حتى أدمته ,, لكنه نهض ؟؟ أو أنها أنتفضت من فراشها (( مثل لبوة جريحة )) خرجت تواً من معركة قد تبدو خاسرة لنا جميعاً ؟؟ بعدما ألتهم ذل وجبروت العوز والفاقة شغاف كبدها ؟؟ وأطاح كشف بعض من جسدها حين شق ثوبها بكبريائها أرضاً ؟؟ ونهشت أنياب ذئاب الغربة ,, ومخالب الفقر ,, وأكف الظلم ,, وقلًة الحيلة ,, وصفعات العجز ,, وسياط فرقة الأهل والأحبة من جدران روحها قبل قلبها ؟؟
فإن لم يكن كذلك ياسيدي ؟؟ قل لي أذاً كيف كان (( لتنكتين )) ماء آسن ؟؟ وحجر غبي ؟؟ وقدم التوت من فرط حملها ؟؟ وجسد نال منه التعب ؟؟ وعيون هدها طول السهر ؟؟ أن يفعل فعله هذا بها ويرحل ؟؟ وألاً كيف أجتمع عليها كل ذلك في غفلة من الزمن لينتزع
منها وليدها وبلمح البصر ؟؟ ..
نعم يا سيد (( مهم )) أسألك بربك لا تسألني كيف قامت أمي من فراشها (( لبوة )) أجل لبوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من أسم ورسم ؟؟ وليس مثل لبوة كما أسلفت لك بالقول ؟؟ كيف لا وهي ربيبة عرين أسود ؟؟ كيف لا وهي كانت اللبوة الوحيدة لأهلها بين اخوتها السبعة ؟؟ أجل نهضت من فراشها فور خروج النسوة من عندها ؟؟ قامت دافعةً رأسي عن صدرها بشيء من القسوة ؟؟ أستقامت بطولها الذي بدى لي كأنها ستلامس بيدها سقف الغرفة ؟؟ نظرت ألي بذات العيون التي تفيض حناناً على أحمراها قائلة بحزم رغم تعثر كلماتها في جوف فمها ؟؟ أذهب يا ولدي وأتي لنا بالخبز ؟؟ وأعدك ما أن تعود ستجدني أن شاء الله قد أنتهيت من أعداد الغداء لي ولك ..
عندما رأتني أنظر أليها بأستغراب ؟؟ تبسمت بوجهي حتى بدى لي وجهها كأنما الشمس تشرق ثانية قبل المغيب ؟؟ لحظتها دسست رأسي في ثوبها الممزق والمبتل عرقاً ودم لأخفي دموع فرحتي لعودتها الى أحضاني وليس رجوعي ألى أحضانها ؟؟ وللأن لاأعرف لما راح الدمع ينسكب من مقلتاي ؟؟ أكان ذلك الدمع من فرط فزعي عليها ؟؟ أم فيض حبي لرجوعها أليً ؟؟ ..
ما أن أتم كلماته هذه حتى أجهش بالبكاء ؟؟ آه وألف آه كم هو مر ومريرُ أن ترى رجلاً قد تجاوز الخمسين من عمره يبكي وهو جالس على قارعة الطريق ؟؟ لذا سارعت أنا لضمه الى صدري ؟؟ ورحت أمسح دموعه بحلو الكلماتي ؟؟ ودون قصد مني وجدت عيوني تشاركه بحرقى الدمعاتي ؟؟ وأدركت حين دنى مني كأني أضم نفسي لذاتي ؟؟ وألملم فيه بعض شتاتي ؟؟
بعدما أستجمعت أنًاته مع آهاتي ؟؟ ولممت بكفي الراجفة دمعه مع ما تبقى من دمعاتي ؟؟ قلت له هوُن عليك يا سيد (( مش مهم )) فأنا اليوم من يقول لك كفى الى هذا الحد ؟؟ وغداً أو بعد غد سيكون للحديث بقيةً ,, هذا أن كان هنالك في العمر بقية أن شاء الله ؟؟؟
بقلم / جمال أبو النسب
الولايات المتحدة الأمريكية / كاليفورنيا
11/5/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"