عام 1948 كان عاماً مختلفا عن غيره بكل المقاييس،عام شهد أمراً عظيماً وخطباً جللاً، شهد نكبة دولة عربية، شهد قتل شعب وتشريده، شهد خيانة أمة وضعفها، شهد عنصرية ونازية لم يسبق لها مثيل.
مشهد مفجع، شعب أعزل لا يعرف من السلاح سوى بضع بنادق صدئة ومسدس، وفي الطرف الآخر آلة حربية عملاقة، في وقتها، فالطائرات الحربية والصواريخ والقنابل كانت أمراً مهولاً لم يُذكر شعبنا البسيط الأعزل ربما إلا بيوم القيامة، وربما هكذا ظن البعض، فبالرغم من المقاومة التي لايمكن تجاهلها، الا أن السمة الأبرز هي التهجير القسري، و هرب بدون أي تفكير.
وكأني اليوم أسترجع تلك الصورة المريعة، صورة الهروب إلى المجهول، وأي مجهول!!.
وكأني بصورة جدتي وهي تحمل أمي وخالي وخالتي، تحملهم لا أعرف كيف أعلى ظهرها أم بين يديها لا اعلم، وتركض مسرعة كالمجنونة كالذي يتخبطه الشيطان من المس، تركض وتركض تحت أصوات البنادق، وتحت قصف الطائرات وأصوات القنابل، ورغم كل هذا لم تنسى أن تقفل باب بيتها, ومفتاحه كان أهم وأغلى من أولادها، فقد ضاع أحد أولادها في زحمة الطريق وتحت وطئ الصدمة، لكن المفتاح لا يمكن أن يضيع، ولا يمكن أن تفرط فيه، مفتاح عجيب، مفتاح كلما لمسته يأخذني بعيدا نحو بيت جدي وجدتي، نحو مزرعتهم نحو الحنايا والطرقات نحو حيفا نحو اجزم نحو الحارة (الفوقا) والحارة (التحتا)، نحو مسقط رأس أبي وأمي، نحو أيام الصبا والعز، حينما كان لنا وطن يقلنا، وسماء تظلنا، وكلمة نسيناها.. في كل اللغات هي تعني وطننا وأرضنا.
كلام يثير الشجون، أعلم، لكن لابد منه، كي لا ننساه ولن ننساه، وكي تذكر أو يعرف الجميع الحقيقة، ويعرفوا كل من تواطأ وعاون الصهاينة علينا، فكان أمراً دبر بليل، واتفق الصديق قبل العدو عليه، فكانت الهجرة الأولى لدولة عربية إسلامية بعد بزوغ فجر الرسالة المحمدية.
يوم لا ينسى في تاريخ الشعب الفلسطيني، يوم نتذكره كلما تم تهجيرنا وقتلنا من جديد، يوم نتذكره كلما انتقلنا إلى مخيم أو نصبنا خياماً في العراء، تقينا بطش أبناء جلدتنا وجورهم علينا، قد تكون أقسى من الهجرة الأولى فظلم ذوي القربى أشد مرارة.
يوم يتذكره جيداً فلسطينيو العراق الذين يعيشون هجرات متلاحقة اليوم، وخيامهم منصوبة على الحدود غير مسموح لهم حتى من الهرب!، يموتون من البرد ومن الحر، يموتون من غيظهم وكمدهم، يموتون في اليوم مئة مرة، بل أكثر، ولا أحد يحس بهم وبمعاناتهم.
وعلى الطرف الآخر، وعلى النقيض تماماً، هنالك شعب ميت عاد إلى الحياة، شعب كافح وخطط ودّبر وحارب وانتصر، نعم انتصروا علينا نحن المسلمين البسطاء، لملموا شتات أنفسهم واستعانوا بأبناء جلدتهم واستقووا علينا وذبحونا من الوريد إلى الوريد.
نعم انتصروا علينا، وجاءوا من كل بقاع الأرض يرومون أرضنا، فدخلوها ودنسوها، وبين ليلة وضحاها أضحت تلك أرضهم وتشهد لهم كل دول العالم، إلا من رحم ربي، وأصبحت ما يعرف بدولة إسرائيل.
دولة قامت على آلاف الجماجم وعلى انهار مازلت تجري من الدماء، قامت على أشلاء شعب طيب بسيط، شعبٌ كان يحب الحياة، كان يحب مزارعه ودوابه، شعب متجذر في أرضه كتجذر شجر الزيتون على تلك الأرض المباركة، شعب يسكن في بلد قدسها الله وأودع فيه قبلته الأولى ومسرى نبيه، شعب مجاهد صابر، صبر وتحمل المعاناة ومع كل ذلك يقف شامخاً لم يطأطئ الرأس وسيبقى كذلك حتى يأتي اليوم الذي نكبر فيه على الصهاينة المغتصبين، وندخل أرضنا فاتحين محررين، ولا يسعني إلا أن أقول .. رحمك الله صلاح الدين.
لم أكتب هذا المقال إلا عندما رأيت قناة bbc وهي تعلن بدون خوف أو وجل أو حياء عن ذكرى قيام دولة إسرائيل، وتذكر أيضاً أنّ الفلسطينيين يحيون ذكرى قيام ما يسمونه دولة فلسطين.
هالني المنظر وأقشعر بدني، وارتعدت فرائصي، وسببت ولعنت وشتمت تلك القناة ألف ألف مرة، وحذفتها مباشرة من قائمة القنوات الموجودة على جهاز الاستقبال الخاص بي، وركضت إلى التقويم الذي لدي وقلبته مراراً وتكراراً لعلي أجد أي شيء يذكر بخصوص هذه الذكرى، فزاد ألمي وتأثرت كثيراً، كيف تقلب الحقائق هكذا!؟ كيف يصبح المحتل صاحب أرض؟! كيف تصبح إسرائيل دولة، وفلسطين (ما يسمونها)؟؟ كيف يصبح من قتل وسفك الدماء وأرتكب المجازر تلو المجازر ولم يقف حتى يومنا هذا، يصبح صاحب حق وصاحب سلام؟!
وكيف تجرأت هذه القناة البريطانية اليهودية على هذا القول ؟!
وهل في السنين القادمة سنعتاد على هذا المسمى، وهل من الممكن أن تشطب فلسطين من قائمة الدول؟!
هذا ما سنقرره نحن، أسوف نتخاذل؟ أسنقف مكتوفي الأيدي؟ أم سنوقفهم عند حدهم؟ وسنقاوم بكل ما أوتينا من قوة؟ ولن ننسى وطننا الحبيب، هذا ما سنقرره نحن وسيجله التاريخ، سواءاً أكان لنا أو علينا..
بقلم : محمد ماضي