طرقت على رأس السيد ( مش مهم ) ,, وهو جالس في محل عمله ,, أسوأ فكرة في حياته ,, والتي ستجعل أيامه ,, أمر من العلقم ,, وأسود من قرن الخروب ,, وهي أن يتراجع عن قراره التأريخي والمصيري السابق ,, الذي قطعه على نفسه ,, وكان لا رجعة فيه ,, بأن يكون كاتبا في جميع المواقع ,, وإن كان هذا التراجع ,, مثل تجرع السم الزعاف على قلبه ,, والموت أهون على نفسه ,, على أن يكون جادا بتنفيذه ,, وهو يدرك مقدما ,, بأن المستقبل سيؤكد بما لا يقبل الشك ,, مدى الآثار السلبية ,, التي ستبرز على الساحة الأدبية ,, من جراء قراره المجحف ,, لأن البشرية من المؤكد ,, ستندب حظها العاثر ,, لعدم تمكنها من الإفادة ,, من مقالاته العالمية ,, وأن قلمه قبل قلبه ,, ينزف دما على عديمي الحظ ,, من قراء ومعلقين وإداريين ,, في المواقع جميعاً ,, لأنهم سيحرمون من الفائدة العظمى ,, من علمه وفهمه المتناهي ,, والذي كان سيغدق به عليهم ,, من خلال كتاباته الألمعية ...
لكن عليهم جميعا أن يعذروه ,, رغم أنه لم يكتب لهم فيها ,, حرفاً واحداً لحد الآن ,, فحبه للسيدة ( مغلوبة على أمرها ) ,, يتطلب منه التضحية بحلمه ,, والسعي جاهدا لترميم ما لحق من أضرار جسيمة ,, في جدران علاقته الزوجية ,, التي تمتد لأكثر من ثلاثين عاما مضت ,, وتجعله أن يتخلى طواعياً ,, عن كل شيء من أجل عيون زوجته ,, لأنه يعتقد قد ألحق بها ,, أذى نفسي ما بعده أذى ,, وهو أصبح الآن مدركا تمام الإدراك ,, بأن تفكيره المتواصل بأن يكون كاتباً ,, وبحثه المستمر عن أي سبيل ,, يرشده للولوج في عالم الكتابة ,, التي كانت وما زالت وستبقى ,, مُنى نفسه وَحُلم حياته ,, لكن أن يبلغ به الأمر ,, بأن يهذي وبصوت مسموع ,, وهو نائم يعتبر عنده بداية النهاية ,, لأي علاقة أسرية ,, والبادرة الأولى في فقدان الثقة المتبادلة ,, في العلاقات الزوجية ,, وبات يخشى لو تكرر مثل هذا الأمر ثانية ,, أن يقوض أركان علاقته بمحبوبته السيدة (مغلوبة على أمرها) ,, بل قد يدفع الأمور للهاوية ,, لتصل إلى المدى ,, الذي لا يحمد عقباه ,, بسقوط جدران هذه العلاقة الحميمة ,, وينهار سقفها على رأسه وحده دون غيره ,, بعدما يفقد دفء زوجته وأولاده ,, وغرفته المعلقة بين السماء والأرض ,, وإن كانت غرفة ,, فوق سطح بناية مهددة ,, يوميا بالإزالة من قبل البلدية ,, (( كونها أو كأنها أو لأنها )) تهدد الوحدة والتوحد ,, بين أقطار وزعماء الأمة العربية ,, و لأنه يعتبر نفسه ,, في الليلة الفائتة وقوله سأتزوج عليك أثناء نومه ,, وبصوت مسموع ,, قد أدخله في معركة خاسرة لا محاله ...
ولكن بحفظ الله ورعايته ,, ومن ثم ببركة دعاء المرحومة أمه ,, التي كان لسانها يلهج ,, بالدعاء ليل نهار ,, بأن يبقى بيته عامراً ,, لذا اعتبر نفسه منتصراً وبأقل الخسائر ,, فراح يقلب أبعاد قراره المشؤوم في ذاته ,, وليسأل نفسه عن قراره لتجيبه ذاته : يا سيد ( مش مهم ) هذا انتحار وليس قرار ...
ما لها الدقائق اليوم ثقيلة جدا ,, وعقارب الساعة استعذبت معانقتها لبعضها ,, وتتحرك مثل شيخ كهل فقد عكازته ,, لذا كان عليه أن يلتمس الراحة ,, بالاتكاء على أي جدار قريب منه ,, بعد كل خطوة أو حركة يقوم بها ,, وإن كانت على قلتها ,, فإن لم يجد ما يتكئ عليه ,, كان لزاماً عليه أن يجلس ,, على أي شيء مرتفع يصادفه أثناء سيره ,, لكي يلتقط أنفاسه ,, هذا ما كانت نفس السيدة (مغلوبة على أمرها) تحدثها بها ,, فهي منذ الساعات الأولى من النهار ,, تستعجل الوقت تلهفاً ,, لمجيء زوجها السيد ( مش مهم ) كي يحدثها عن حالة السيد ( كاسم ) ,, فإن سر تلهفها لسماع قصته ,, يعود سببه المباشر عليه ,, لأن سيادته كان دوماً ,, يرفض رفضاً قاطعاً التحدث ,, عن أي إنسان غيره في بيته ,, زاعماً بأنه لا يجوز ,, التكلم عن الناس في ظهر الغيب ,, ومن المحرمات ذكرهم أو الخوض في سيرتهم ,, فإن توجب الحديث عن أحدٍ ,, سيكون الحديث عن شخصيته الألمعية فقط ,, لأن فيها من الصفات والمزايا لا تتوفر بغيره ,, ويكفيه شرفاً أنه هو السيد (مش مهم) ,, مردداً بنفسه: كم ( مش مهم ) في هذه الدنيا وكفى ...
لذا قالت في نفسها : لابد أن ( كاسم ) هذا والله أعلم ,, زوج السيدة ( مسعدة ) صديقة طفولتها ,, لأنها وعلى ما تتذكر ,, في ذات مرة حين التقتها مصادفة في السوق ,, ذكرت لها بأنها تزوجت من رجل نص ونص ,, في كل شيء حتى في وسامته ,, أسمه ( كاسم ) ,, وأنها ولله الحمد ,, أنجبت منه أبنها البكر ,, وأسمته ( هامش ) ,, وقد قدر الله وأسقطت ,, وهي حامل في الشهر السابع ,, إبنها ( موضوع ) ,, هكذا كان إتفاق زوجها معها على تسميته ,, إلى أن من الله عليهما ,, وأنجبت ابنتها البيضاء البشرة ,, الآنسة (صفحة) ,, وبعدها ,, أنجبت أبنتيها ( مقدمة ) و ( وخاتمة ) في حملٍ واحد ,, وما زالت تراجع الأطباء ,, لعلها تنعم بالحمل مرة أخرى ,, لأن زوجها ( كاسم ) ,, يحلم بأن ينجب ولداً ,, ليكون أخاً لأبنه ( هامش ) ,, وأقسم مسبقاً ,, بأنه سيسميه ( مقال) ,, وفي أبعد الأحتمالات إن كانت المولودة أنثى ,, سيكون أسمها ( مقالة ) ....
جلست السيدة (مغلوبة على أمرها) ,, لتستريح قليلا لخذر أصاب ساقيًها ,, من طول وقوفها أمام النافذة وهي ترقب المارة ,, مُمنية النفس بعسى ولعل ,, أن يعود زوجها هذه المرة ,, وعلى غير عادته قبل نهاية دوامه ,, وبينما هي كذلك أخذتها غفوة ,, لتصحو على صوت وقع خطى أقدامه على سلم العمارة ,, قالت : هانت ,, الآن وبعد أن يتناول طعام الغداء ,, ويستريح ويشرب الشاي ,, سأطلب منه بعد أن أذكره بوعده لي ,, ليحدثني عن ( كاسم ) هذا ,, لكنها شهقت بعدما لطمت صدرها بيديها قائلة: ( بنات أفكارك خربت دارك ) ,, فقد تذكرت أنها ,, لم تطبخ أي طعام لغداء اليوم ,, لأنها ومنذ الصباح وهي واقفة أمام الشباك ,, وعندما سمعت صرير الباب ,, وهو يفتح قالت لنفسها : لا توجد مشكلة فأنا ممكن أن أعد له وجبة طعام سريعة بدقائق قليلة ,, وما أن ينزع ثيابه وقبل أن يرتدي بجامته ,, سيجد طبق ( الخبيزي حوس ) ,, وفحل البصل ورأس الفجل ,, مع حبتين زيتون على الطاولة المستديرة ,, أقصد ( الطبلية) أمامه ولا أروع من هيك ...
بعد أن ألقى التحية على زوجته قال : بالله عليك أسرعي وأحضري الغداء ,, فأنا نسيت اليوم أن آكل أي شيء ....قالت له : ثواني وستجد ( الخبيزي حوس) بتستناك .... صعق لسماعه اسم أكلة اليوم قائلا : حبيبتي على أقل من مهلك ,, فأنا غير مستعجل ,, ويا عمري أنا ليس جائعاً لهذا الحد ,, مضيفاً وهو حانق : يا سيدتي الفاضلة ,, ألم تتابعي الأخبار ,, فمنذ سنة أصدرت منظمة الأغذية الدولية ,, قراراً جديداً بإلغاء قراراها السابق ,, الذي كان ينص ,, على منع دخول ( البامية , والباذنجان , واللوبية , والفاصولية , والملوخية بأنواعها الثلاثة ,, الخضراء , والناشفة , والمجمدة ) إلى مطبخنا ,, طبعا قرار منع اللحوم ,, الحمراء , والبيضاء , والخضراء , م ازال ساري المفعول ؟؟ .. أرحمينا يا زوجتي من ( خبيزتك ) ,, التي خبزتي فيها قلبي ,, ومجدرتك التي من المؤكد ستصيبني بالجدري ...
بادرته بالقول : أبن عمي أحنا ,, ما عندنا مجمدة ,, وأنت بدك ورق دوالي مجمد ,, اشتري ألنا أول مرة ثلاجة ,, أو على الأقل براد (فلينه) ,, وأتكرم علينا بنص ربع قالب ثلج بالسنة وبعدين أحكي ...
هنا بلع ريقه ولحس قرار المنظمة الدولية ,, وكالعادة وبحركة دوران وبزاوية 180 درجة ,, حول كلامه ليقول لها : أبنة عمي خبيزي خبيزي ,, ما الفرق فهي حشوة بطن ,, لا أكثر ولا أقل ,, لأن المهم هو غذاء الروح والعقل ,, وليس غذاء المعدة ,, لأني أومن بأن الإنسان في هذه الدنيا يأكل ليعيش وليس يعيش ليأكل ...
بعدما انتهى السيد ( مش مهم) من تناول غدائه ,, وقول زوجته له كالمعتاد ,, أبن عمي ( مطرح مايسري يمري ) ,, راح ينقر بالملعقة ,, على طرف فنجان الشاي الذي بيده ,,مفكراً بقراره المميت ,, لتفاجئه السيدة ( مغلوبة على أمرها ) بالقول : ابن عمي هات ما عندك ,, كلمة هات تكفي لأن تشعره بالدوار والغثيان ,, أستجمع قواه قائلاً : ماذا تريدين
.. قالت له حدثني عن السيد ( كاسم ) أنك وعدتني ليلة أمس بذلك ...
حمد الله كثيرا على هذه الهات ,, ممكن بنت عمي أن نؤجل الحديث عنه الآن ... أجابت : طبعاً مش ممكن أبن عمي ,, أنا من الصبح بستناك ,, مشان تحكيلي عن ( كاسم ) زوج صديقتي ( مسعدة ) ... قال ...
من هذه ( مسعدة ) ,, ومن هذا ( كاسم ) ,, أنا لم يسبق لي ,, شرف التعرف عليهما ,, كما أني منذ الأمس لم أنم ,, وعليً أن أتمدد قليلا ,, لأن ( خبيزتك ) أخذ مفعولها يسري في بدني ,, لتبعث في نفسي خدر لذيذ ,, ودعوة مجانية للنوم ,, وأعدك بأني بعدما أصحو ,, سأروي لك تفاصيل ,, تجربة السيد قاسم ,, عفواً قصدي ( كاسم ) الذي أعرفه مع عالم الصحافة ,, وما فعلته مقالته اليتيمة ,, عندما نشرها في جميع المواقع ؟؟ !! ...
وأتم كلامه على شكل حروف غير مترابطة ,, ولكي يتهرب من سؤالها ,, صار يتثاءب بكثرة ,, كأنه لم ينام منذ عدًة ليالي ,, وأسدل جفونه غالقا كلتا عينيه ,, لعله ينعم بغفوة هنية قائلا : سألبي طلبك هذا أن كان هنالك في العمر بقية أن شاء الله ...
بقلم / جمــــال أبـــو النـــــسب
الولايات المتحدة الأمريكية / كاليفورنيا
25/8/2011
المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"