الله
سبحانه وتعالى لحكمة بالغة يصطفي من الأماكن على غيرها، ويختار من البشر على
غيرهم، ويجتبي من الأزمان ويفضلها على غيرها، كمحمد خيرة البشر، ورمضان وليلة
القدر من الزمان، ومكة والمدينة وبيت المقدس من الأماكن.
بيت
المقدس وفلسطين خصوصا وبلاد الشام عموما، ارتبطت برسالة السماء ارتباطا وثيقا، في
بداية الزمان ووسطه وآخره، حتى عُرفت بمهد الرسالات ومهبط الوحي ومعدن الأنبياء
ومهاجرهم، والحدث المتجدد الحاضر في أذهان ونفوس وقلوب وعقول جميع المسلمين.
لبيت
المقدس مكانة عظيمة في حياة الأنبياء والمرسلين؛ فهو قبلتهم ومنارة الدعوة إلى
توحيد الله عز وجل، فإما ولد فيها نبي أو مر أو مات أو دفن، أو صلى وتقرب إلى الله
أو لجأ وهاجر إليها أو عاش.
بيت
المقدس مبتغى الفاتحين وفيه رباط المجاهدين، وهو محل الطائفة المنصورة التي تقاتل
على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، وقد بشر النبي عليه الصلاة والسلام بفتحها، وفيها
يحسم الصراع مع الباطل ويقتل المسيح الدجال، وهي أرض المحشر والمنشر، وفي الشام
عقر دار المؤمنين.
يبدأ
ارتباط تلك الأرض المباركة والبقعة المقدسة والمكان الطيب، برسالة السماء في بداية
الزمان، إذ بمجرد بناء المسجد الأقصى كثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام؛
يصبح لتلك المدينة وما حولها شأن عظيم ومنزلة كبيرة، سيما إذا عرفنا أنها ثاني
مدينة عرفت التوحيد بعد مكة شرفها الله.
عن
أبي ذر رضي الله عنه قال:( قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ
أولَ؟ قال: المسجدُ الحرامُ. قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: المسجدُ الأقصى. قلتُ: كم
كان بينهما؟ قال: أربعونَ سنةً، ثم أينَما أدرَكَتكَ
الصلاةُ بعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه ).[1]
وقد
رجح الحافظ ابن حجر أن بناء المسجد الأقصى في عهد آدم، كما بني المسجد الحرام في
عهده، فيقول: وكذا قال القرطبي أن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا
المسجدين ابتدأ وضعهما لهما بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما.[2]
هذه
البداية لتلك الأرض المقدسة، تعطينا دلالات وإشارات لأحداث عظام وأمور جسام ستقع
وتحصل عليها، فهي لب ومحور الصراع بين الحق والباطل، منذ أن أوجدها الله إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها.
لم
يعرف التاريخ بقعة ارتبطت زمانيا برسالة السماء كما هي في بيت المقدس، وكان لها
شأن عظيم وتعلق كبير في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء
والمرسلين، إذ بشر بفتحها، كما في حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيتُ النبيَّ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في غزوةِ تبوكَ، وهو في قُبَّةٍ من أُدْمٍ، فقال: ( اعددْ ستًا بين
يديْ الساعةِ: مَوْتِي،
ثم فَتْحُ بيتِ المقدسِ ... )[3].
لم
يكتف عليه الصلاة والسلام ببشارة أصحابه بفتح بيت المقدس، بل شارك بنفسه في غزوة
تبوك، ثم جهز عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة أسامة بن زيد في معركة مؤتة، واستمر
هذا البعث بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت بيت المقدس في زمن الخليفة
العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ.
وعن
أبي أمامة قال قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، ما كانَ أوَّلِ بدءُ أمرِكَ؟ قالَ: دعوةُ
أبي إبراهيمَ، وبُشرى عيسَى بي ورأت أمِّي أنَّهُ خرج منها نورٌ أضاءت لَهُ قصورُ
الشَّامِ.[4]
يقول
ابن كثير[5]:وتخصيص
الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في
آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة
الشرقية البيضاء منها.
ورغم
الظروف الصعبة التي عاشها عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، في أوائل سنوات
البعثة في مكة وما لاقوه من اضطهاد؛ إلا أن تثبيت حقيقة الارتباط بتلك الأرض
المقدسة، كان أولوية كبرى إذ حصلت تلك المهمة العاجلة والرحلة السريعة، للنبي عليه
الصلاة والسلام، من مكة إلى بيت المقدس، تلك المعجزة العجيبة والرحلة الفريدة
والحادثة المبهرة.
الله
سبحانه وتعالى قادر أن يكون المعراج مباشرة من المسجد الحرام إلى السموات العلى ثم
العودة إلى مكة، لكن لحكمة بالغة ومعاني عظيمة، كانت هذه الفضيلة للأرض الطيبة
التي تشرفت بأن تكون مسرى حبيبنا عليه الصلاة والسلام، ثم معراجه إلى سدرة
المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، وفرض أعظم ركن بعد التوحيد، واجتمع في هذه
الليلة جميع الأنبياء وصلى بهم نبينا عليه الصلاة والسلام إماما.
أما
في آخر الزمان تبقى هذه الصلة الوثيقة والرابط المتين، بين رسالة السماء وفلسطين،
حتى يحسم الصراع بنزول عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويقتل
مسيح الضلال المسيح الدجال في باب لد بفلسطين.
يقول
عليه الصلاة والسلام: فيُدْرِكُه- أي عيسى عليه السلام- عند بابِ لُدٍّ الشرقيِّ، فيقتلُه–أي المسيح
الدجال-، فيَهْزِمُ اللهُ اليهودَ، فلا يَبْقَى شيءٌ مِمَّا خلق اللهُ عَزَّ
وجَلَّ يَتَواقَى به يهوديٌّ...[6]
ويقول
عليه الصلاة والسلام: لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ،
ظاهِرِينَ على مَن ناوَأَهُمْ، حتى يقاتِلَ آخِرُهم المسيحَ الدجالَ.[7]
بل
ذهب عليه الصلاة والسلام لوصف دقيق وبُعد عميق، لما يحصل آخر الزمان وإعجاز مبهر،
عندما أخبر أننا سنقاتل اليهود! مع أنه في زمانه صلى الله عليه وسلم كان الروم هم
من يسيطر على بيت المقدس!
يقول
عليه الصلاة والسلام:( تُـقـاتِـلـونَ الـيـهودَ، حتى يَـخـتَــبِـئَ أحــدُهــم
وَراءَ الحجَرِ، فيقولُ: يا عبدَ اللهِ، هذا يهودِيٌّ وَرائي فاقتُلْه ) وفـي
رواية:( حـتـى يـقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسـلم هذا يـهـودي ورائي فاقتله ).[8]
وهنا
لفتة عجيبة تؤصل بقوة لحقيقة ارتباط تلك الأرض المباركة برسالة السماء بمختلف
الأزمان، وهي أن النصر لن يتحقق إلا بمقدمات وأسباب من أعظمها تحقيق العبودية
والاستسلام لرب البرية، التي هي خلاصة رسالة السماء التي يحملها جميع الأنبياء
والمرسلين لدعوة كافة البشر.
فهذه
وقفات وحقائق عابرة، تبين الارتباط الوثيق والصلة المتينة والعلاقة القوية، بين
رسالة السماء والأرض المقدسة، فينبغي على كل مسلم استحضار وفقه وفهم هذه الحقيقة
بل حفظها، لأن أصل هام في صراعنا من اليهود، وتثبيت حقنا الشرعي لمقدساتنا.