وهذه
المأساة الإنسانية المتعاظِمة لم يَسْتَثْنِ منها صانعها (وهو بشار) اللاجئين
الفلسطينيين في سورية، وفي مخيَّم اليرموك (في دمشق) على وجه الخصوص، متِّخِذاً من
جماعة فلسطينية موالية له أداة لإخضاع ومعاقبة سكَّان المخيم من الفلسطينيين الذين
تضامنوا إنسانياً مع مواطنين سوريين لجأوا إلى مخيَّمهم؛ وكانت عاقبة الحرب التي
شُنَّت على المخيَّم أنْ دُمِّر جزء كبير منه، وأُرْغِم كثيرٌ من سكَّانه من
اللاجئين الفلسطينيين على مغادرته إلى لبنان (أيْ إلى مخيَّمات فلسطينية في
الأراضي اللبنانية). وقِلَّة قليلة منهم لجأوا إلى الأراضي الأردنية؛ وليس
متوقَّعاً لأسباب يطول ويصعب شرحها الآن أنْ يُسْمَح لمزيدٍ من هؤلاء اللاجئين
بدخول الأراضي الأردنية .
إنَّها
"الضَّارة (أيْ إرغام بشار اللاجئين الفلسطينيين في سورية على ترك
مخيَّماتهم)" التي لم تَفْعَل "دولة فلسطين" شيئاً لجعلها
"نافعها"، ولم يَفْعَل غيرها شيئاً لمساعدتها على استجابة هذا
"التحدِّي"، أيْ تحدِّي جَعْل هذه الضَّارة نافعة .
وإنَّني لم
أعرف السبب (الذي لن يكون وجيهاً إذا ما عُرِف) الذي مَنَع "السلطة الفلسطينية"،
التي يُفْتَرَض أنْ تكون الآن بمسمَّى "دولة فلسطين"، المعترَف بها على
أنَّها عضو مراقِب في الأمم المتحدة، من تأخذ زمام المبادرة، وتدعو المجتمع
الدولي، وقوى دولية وإقليمية وعربية معيَّنة، إلى مساعدتها في نَقْل هؤلاء
اللاجئين (أو قسمٍ كبير منهم) إلى "أراضيها"، وإلى الضفة الغربية على
وجه الخصوص؛ فأيُّهما أفضل (من وجهة نظر فلسطينية إستراتيجية) أنْ يظلَّ
"موقع اللجوء الفلسطيني" في خارج الجغرافيا الفلسطينية، بعيداً عنها، أم
يُصبح ضِمْن أراضٍ فلسطينية، يُفْتَرَض فيها أنْ تكون إقليم "دولة
فلسطين"، الذي ما زالت تحتله "إسرائيل" ؟!
.
هذا الذي
قُلْت ليس بحلٍّ (نهائي) لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ولا يتعارض مع حقِّهم
(المعترف به دولياً في قرار الأمم المتحدة الرَّقم 194) في العودة إلى حيث كانوا
(أو كان أباؤهم وأجدادهم) قبل تشريدهم من بيوتهم ومنازلهم، وإلى خارج وطنهم؛
فالأمر لا يتعدَّى إنهاء ظاهرة "اللجوء الفلسطيني في خارج فلسطين"،
بنَقْل "المخيَّم الفلسطيني"، مع سكَّانه ومشكلتهم وحقوقهم، وفي
مقدَّمها "حق العودة"، من خارج فلسطين إلى داخلها، ولو كان هذا
"الدَّاخِل" هو "الأراضي الفلسطينية" التي تحتلها "إسرائيل"
منذ سنة 1967 .
وإنَّه
لأمْرٌ في منتهى الأهمية (الإسترتيجية والرَّمزية) أنْ يُتْرَك "المخيَّم
الفلسطيني" حيث هو الآن، وأنْ يُنْقَل سكَّانه إلى "الأراضي
الفلسطينية"، ليؤسِّسوا فيها (بمعونة دولية وعربية وإقليمية) ما يشبه
"المستوطنات اليهودية"؛ أليست "دولة فلسطين" للشعب الفلسطيني
بأسره ؟! .
ألا
تَشْتَرِط "إسرائيل"، في استمرار، لقبولها قيام دولة فلسطينية ألاَّ
يعود إلى "الأراضي "الإسرائيلية"" لاجئون فلسطينيون، قائلةً،
غير مرَّة، تصريحاً أو تلميحاً، إنَّها لا تُعارِض حلَّ مشكلة اللاجئين
الفلسطينيين ضِمْن أراضي الدولة الفلسطينية، أيْ توطينهم فيها ؟!
.
وإنِّي
لأفْتَرِض (وأتوقَّع) أنْ يُفضِّل اللاجئ الفلسطيني (في خارج فلسطين) إذا ما دُعي،
أو دعاه واقِعٌ سيئ كواقع اللاجئين الفلسطينيين في مخيَّم اليرموك، إلى
"المفاضَلة"، أنْ يكون لاجئاً في داخل فلسطين على أنْ يظلَّ لاجئاً في
خارجها؛ ولِمَ لا "يُفضِّل" إذا ما تأكَّد له، أو أكَّدوا له، أنَّ
تغيير "الموقع الجغرافي للجوء الفلسطيني" على هذا النحو لن ينتقِص أبداً
من "حقِّه في العودة"، ومن سائر حقوقه المعترَف بها دولياً ؟! .
المأساة،
والمأساة الكبرى، ليست إنهاء "المخيَّم (الفلسطيني)" في خارج فلسطين، ونَقْل
اللاجئين الفلسطينيين (تدريجاً، كلهم، أو بعضهم) إلى أراضي "دولة
فلسطين"، وإنَّما أنْ يأتي "التصغير الجغرافي" للوطن الفلسطيني بـ
"تصغير ديمغرافي"، فيتحوَّل اللاجئون الفلسطينيون في خارج فلسطين، كلهم،
أو معظمهم، أو قسم كبير منهم، إلى مواطنين في دولٍ أخرى .
وإذا كانت "إسرائيل"
"مُغْرَمة" بـ "الحلول الانتقالية طويلة الأجل"، فَلْيَكُن
هذا "الحل" لمشكلة "المخيَّم (الفلسطيني في خارج فلسطين)" من
النوع "الانتقالي طويل الأجل"؛ فـ "دولة فلسطين" تُقام، أيْ
يُرْفَع الاحتلال "الإسرائيلي" عن إقليمها، ويستمر التفاوض بين "الدولتين"
إلى أنْ تتوصَّلا إلى حلٍّ نهائي لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، الذين نُقِلوا، أو
بدأ (واستمر) نقلهم، إلى ما يشبه "المستوطنات" في إقليم "دولة
فلسطين"؛ فـ "الدولة" لا تُقام، ولا تأتي، بَعْد، وبسبب، الاتِّفاق
مع "إسرائيل" على حلِّ نهائي لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين؛ فإنَّها
تُقام أوَّلاً؛ وبها، وفيها، ومن طريقها، يبدأ (حتى يكتمل) الحل النهائي لمشكلة
اللاجئين الفلسطينيين؛ وإنَّ حلَّ المشكلة القومية (والإنسانية) للشعب الفسطيني
بكل أوجهها وجوانبها وأبعادها إنَّما هو "مزيج من الحلول"، بعضها فوري
ونهائي ودائم، وبعضها آجِل وانتقالي ومؤقَّت (على ألاَّ تكون الاتفاقيات الخاصة
بالانتقالي والمؤقَّت من الحلول عقبة في طريق تحوِّلها إلى دائمة ونهائية
) .
ما كان
ينبغي لـ "دولة فلسطين" أنْ تبدأ به
"دولة
فلسطين" هي الآن عضو مراقب في الأمم المتحدة؛ وإنَّ أحداً من المتضلِّعين من
الصراع القومي التاريخي بين "إسرائيل" والشعب الفلسطيني لا يمكنه
التشكيك في الأهمية السياسية ـ التاريخية لهذا الإنجاز الفلسطيني؛ ويكفي دليلاً
على ذلك أنَّ "إسرائيل" لم تَعْرِف من الرُّدود العقابية والانتقامية
والرَّدعية (حتى الآن) على هذا "التجرُّوء الفلسطيني" إلاَّ ما يتَّسِم
بمزيدٍ من الطَّيش والنَّزق واللاعقلانية، وكأنَّها خرجت عن طورها؛ وبما يُوافِق
هذا الذي قُلْت تماماً يمكننا وينبغي لنا أنْ نفهم ما ترتكبه من جرائم تعذيب قاتِل
(أو حتى القتل) في حقِّ فلسطينيين لم يمضِ على اعتقالها التعسفي لهم إلاَّ وقتاً
قصيراً .
ومع ذلك،
وحتى الآن، لم تَعْرف القيادة الفلسطينية صانعة ذلك الإنجاز كيف تستثمره بما
يُحْدِث فَرْقاً يُعْتَدُّ به (أو نوعياً) في مُجْمَل الوضع الفلسطيني، وكيف تقيم
الدليل، من ثمَّ، على أنَّها أهلٌ لهذا التحدِّي المزدوج: تحدِّي الحدث، أو
الإنجاز، نفسه لها أنْ تكون، بقرارها وتصرُّفها وفعلها، على مستوى أهميته
التاريخية، وتحدِّي "إسرائيل" لها أنْ تأتي بما يُقْنِع شعبها بالأهمية
السياسية العملية والواقعية للاعتراف بـ "دولة فلسطين" على أنَّها عضو
مراقِب في الأمم المتحدة؛ وإلاَّ كانت النتيجة النهائية والعملية هي شَحْن الموقف "الإسرائيلي"
بشيء من المنطق؛ لأنَّ حكومة نتنياهو لن تجد مشقَّة، إذا ما ظل الفلسطينيون عاجزين
عن استثمار إنجازهم، في إثبات أنَّ تَمَاثُل حالتين (حالة ما قبل الاعتراف، وحالة
ما بعده) إنْ عنى شيئاً فلا يعني إلاَّ أنَّهما حالة واحدة!
.
وليس
بالأمر الذي يحتاج إلى برهان أنْ نقول (في صيغة اتِّهام) إنَّ دولاً عربية قد
تصرَّفت (أيْ عملت من طريق عدم عملها أي شيء) بما يساعِد في منع الفلسطينيين من
أنْ يروا فَرْقاً حقيقياً بين الحالتين؛ وإذا رأوا مِنْ فَرْق فقد رأوه بوجهه
السَّلبي، وكأنَّ الغاية هي أنْ يندم الفلسطينيون على تجرَّوئهم الذهاب إلى الأمم
المتحدة .
لقد عرف
الفلسطينيون كيف يسيرون في الطريق إلى نيويورك؛ لكنَّهم لم يسيروا بعد في الطريق
التي شَقَّها لهم "إنجاز نيويورك"؛ ولو أردتُّ التكلُّم بإيجاز عن هذه
الطريق لقُلْت إنَّها "الطريق من نيويورك إلاَّ مفاوضات (أو استئناف مفاوضات)
السلام عَبْر انتفاضة فلسطينية ثالثة (انتفاضة شعبية واسعة، سلمية بوسائلها
وأدواتها وطرائقها)" .
كان ينبغي
للفلسطينيين أنْ يفهموا الطريق الجديدة التي شقَّها لهم "إنجاز نيويورك"
على هذا النحو؛ لأنَّ أيَّ فَهْمٍ آخر له يمكن أنْ يتسبَّب برؤية فيها كثير من
الاختلاط والتشوُّش؛ وقد حدث هذا إذْ فُهِم انفجار الحراك الشعبي الفلسطيني بعد،
وبسبب، الجرائم البشعة التي شرعت ترتكبها "إسرائيل" في حقِّ الأسرى
الفلسطينيين، على أنَّه "نتيجة" يريدها، ويسعى إليها، "الإسرائيليون"؛
ويتعيَّن على الفلسطينيين، من ثمَّ، أنْ يقطعوا الطريق على "إسرائيل"،
من طريق عدم انجرارهم إلى "الفوضى" .
إنَّ
المجتمع الدولي لن يتحرَّك بما يوافِق "المعاني الكامنة" في الاعتراف بـ
"دولة فلسطين" على أنَّها عضو مراقِب في الأمم المتحدة، تحتل "إسرائيل"
إقليمها، وعليه، من ثمَّ، أنْ يسعى سعياً جاداً وحقيقياً لرفع هذا الاحتلال، إلاَّ
إذا تولَّت انتفاضة فلسطينية ثالثة (وأخيرة) مهمة أنْ تُظْهِر له، وتشرح، هذه
المعاني، وأنْ تَجُرُّه وراءها إلى الأمام .
لكن، ألا
يحق للمجتمع الدولي، الذي يريد له الفلسطينيون أنْ يُشمِّر عن ساعديه، وينتصر لهم،
ولقضيتهم، أنْ يتساءل في استغراب عن السبب الذي يجعله يتحرَّك في هذا الاتِّجاه،
والذي، أيْ السبب نفسه، لم يجعل الفلسطينيين أنفسهم يتحرَّكون في اتِّجاه
"المصالحة"، التي ينبغي لها أنْ تكون الوقود للعربة الفلسطينية في سيرها
في تلك الطريق الجديدة التي تكلَّمنا عنها بإيجاز؟! .
إنَّ
احتلالاً فَشِل في إقناع الفلسطينيين أنفسهم بأهمية وضرورة أنْ يتصالحوا للخلاص
منه، لن ينجح في إقناع المجتمع الدولي بأهمية وضرورة أنْ يسعى في رَفْعه عن إقليم
دولة اعْتُرِف بها على أنَّها عضو مراقب في الأمم المتحدة .
"دولة
فلسطين" لم تَقُمْ حتى الآن بما يمكنها، وينبغي لها، القيام به، توصُّلاً إلى
إثبات وتأكيد أنَّها لا تختلف (من الوجهة القانونية والحقوقية) عن سائر الدول
الأعضاء في الأمم المتحدة إلاَّ في أمْرٍ واحد، هو عدم تمتعها بالحقِّ في التصويت؛
وكان ينبغي لها أنْ تبدأ ممارَسة حقوقها المعترف بها دولياً بعقد اتفاقيات مع
الدول العربية المجاورة لها؛ فَلِمَ لم تَدْعُ مصر والأردن إلى عقد اتفاقيات
تُنَظِّم كل الشؤون الحدودية بينها وبينهما؛ فمعبر رفح، على وجه الخصوص، يجب أنْ
يُفْتَح تماماً ونهائياً، عملاً باتفاقية حدودية (جديدة) بين دولتي فلسطين ومصر؛
والمعابر والجسور مع الأردن يجب أنْ تشملها اتفاقية ثانية (جديدة، ثنائية، لا يد،
ولا إصبع، "لإسرائيل" فيها) حتى إذا مَنَعَت "إسرائيل"
تنفيذها توجَّهت الدولتان (فلسطين والأردن) بالشكوى إلى الأمم المتحدة، وسارتا
قُدُماً في المسار القانوني الدولي؛ فإنَّ حاجة الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى
الاستيرداد والتصدير عبر الموانئ "الإسرائيلية"، وإلى أنْ تتولَّى "إسرائيل"
جباية الرسوم الجمركية نيابةً عن السلطة الفلسطينية، يجب أنْ تنتهي؛ لأنَّ
بانتهائها تبدأ "دولة فلسطين" بممارسة شيء من سيادتها .