الشيخ خالد مهنا- رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية – الداخل الفلسطيني
لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن الأرامل من النساء ونقرأ عن نكباتهن،وقد أصطلح الناس على تسمية كل من تفقد معيلها وسندها في الحياة أنها "أرملة"... وتخصيص الإناث بهذه التسمية خطأ شامع يحتاج إلى تصويب , لان بين الذكور "أرامل" يذهب فيهم البصر بعيدا من كثرتهم وامتدادهم , وتتغطى بهم أرضنا على رحبها واتساع رقعتها , وتفهق بحشودهم وجموعهم ...
" وأرامل " وطننا هم الرجال العزب , يكونوا مطيقين للزواج وأحماله , قادرين عليه ويمضي بهم العمر ولا يتزوجون , بل يركبون رؤوسهم بالحياة , ويذهبون يموهون على أنفسهم كذبا و تدليسا , وينتحلون لها المبررات والمسوغات والمعاذير الواهية , ويمتلقون العلل الباطلة , يحاولون ان يلحقوا أنفسهم بمرتبة الرجال المتزوجين , ويضيفون شؤمهم على النساء الى نسوة مسكينات , يزيدهن على أنفسهن شرور أنفسهم ويرميهن بالسوء وهم السوء عليهن , وينتقصهن ومنهم جاء النقص , ويعيبهم وهم اكبر العيوب , لا يتذكرون الا الذي لهم , ولا يتناسون الا الذي عليهم كأنما انقلبت أوضاع الدنيا , وتبدلت رسوم الحياة , فزالت الرجولة بتبعاتها عن الرجل الى المرأة , وانفصلت الأنوثة بحقوقها من المرأة إلى الرجل , فوجب أن تحمل تلك ما كان يحمل هذا , فتقدم هي ويقر وادعا , وتتعب و يستريح , وتعاني الهموم السامية في الحياة الاجتماعية , بينما يتكأ " الأرمل " في مجلسه ألنسيمي تحت جناح المروحة، في وقت تشرف فيه المرأة على هلكتها ا،وأما هو فيبقى من ثيابه في مثل الخضر المصون ...
متعللين و محتجين بأن الزواج مجرد أطفال يلزمهم عمل الأيدي الكثيرة من حيث يدعي " الأرمل " انه لا يملك إلا يدين اثنتين , ويتحمل فيهم رهقا شديدا كأنما يجمع هموم رؤوسهم كلها في رأس واحد هو رأسه , وإنما هو وأمثاله يريدون أن يظلوا بعزوبتهم في عسل و حلوى , وما أسخفها الليالي إذا ترادفت على الزوجة وعلى ضرب واحد من أحلامها , فهذا حسب راسهم يجعل النوم جكما بالسجن عشر ساعات ...! ومذهبهم بالحياة ان يستمتعوا بالحياة ضروبا وافانين , ومن أطاق لم يقتصر على نوعين , ومن قدر على نوعين لم يرض بهما , ولو ان زوجة كانت من أشعة الكواكب او من قطرات الندى والطلة لثقل منها على حياته وما يثقل من الحديد والصوان ..
ما أكثر أرامل الأمة والوطن الذين إذا مشوا إلى الخير ساروا ببطء وكان سعيهم إلى الشر حثيثاً فهم"ملوك الشوارع والأرقى والدروب" لا يزالون فيها مقبلين مدبرين طرفاً من النهار وزلفاً من الليل،فإذا لم يكن في الشارع نساء ظن"الأرمل"بأن الشارع قد هرب وخرج من طاعته..ولهذه الشوارع عنده أسماء غير أسمائها التي يتعارفها الناس ويستدلون بها،فقد يكون اسم الشارع مثلاً شارع"الخضور" ويسميه هو شارع"خضرة"..ويكون اسم الآخر شارع"عين النبي" فيسميه شارع"نبوية" ودرب اسمه وادي الجوز فيسميه"جوزاء" وهلم جراً ومسخاً ...وبعضهم يرى أن مكابدة العفة،ومصارعة الشيطان،وتوهج القلب بناره الحامية،كل ذلك وأمثاله أهون عليه من مكابدة زوجة يظل إلى الأبد يؤاكلها على خوان،أولئك أقوام شهد الله وشهد الوطن عليهم أنهم خلقٌ فارغ وأنهم في وطنهم وبلادهم كالأجانب،مهبطهم على معيشة ومنفعة لا غيرها ثم يموت هؤلاء الأجانب بالنقل إلى وطنهم،ويموت وجود هؤلاء العزّاب مع كبر سنهم ،فيستويان جميعاً في انقطاع الأثر الوطني،ويتفقان في انتهاء الحياة الوطنية وأن كليهما خرج من الوطن أبتر لا عقب له،ويذهبان معاً في لجج النسيان،أحدهما على باخرة أو في طائرة أو حافلة،والآخر على عكاكيز من خشب..
والسؤال الذي يطرح كيف سيكون حال الوطن والأمة إذا بقي العنان مطلقاً لهؤلاء"الأرامل"؟
يقيناً ستمحى الأمة ويسقط الوطن وتتلاشى الفضيلة،ولا ينبغي أن يتربص بها الوطن حتى تعم،بل يجب اعتبارها باعتبار الجرائم من حيث هي،ويجب تفسير حكمة"الأرمل"..أنها شخصية مذكرة ساخطة متمردة على حقوق مختلفة للمرأة والنسل والأمة والوطن،والمتمرد يجب أن تنزل به أقسى العقوبة.
وماذا تفيد الأمة من هؤلاء الذين اعتادوا فوضى الحياة؟وكيف يعتبر مثل هؤلاء موجودين اجتماعيا صحيحاً وهم أحياء مختلون في وجود مستعار،يقضون الليل هروباً من حياة النهار،ويقضون النهار نافرين من حياة الليل هروباً من حياة الليل، ويقضون أعمارهم هاربين من الحياة،وكأنهم لا يعيشون بأرواحهم كاملة بل ببعضها،بل بالممكن والأقل من بعضها...ولذا وجب على حماة الوطن أن تضرب هؤلاء"الأرامل"ضربة قانون صارم،"فالأرمل"وإن كان رجلاً حراً في نفسه،ولكن رجولته تفرض للأنوثة حقها فيه،فمتى جحد هذا الحق،وأستكبر عليه واستعلى،رجع حاله مع المرأة إلى مثل شأن الغريم مع غريمه،ليس للفصل فيه إلا لقوة الدولة التنفيذية والتشريعية..
أن من سقوط النفس ولؤمها ودناءتها أن يفر الشاب القوي من تبعة الرجولة،فلا يحمل ما حمل أبوه من واجبات الإنسانية ،ولا يقيم لوطنه جانباً من بناء الحياة في نفسه وزوجه وولده،بل يذهب ويجعل حظ نفسه الشيطان فوق نفسه الملائكية،وفوق الإنسانية والفضيلة والوطن جميعاً،ولا يعرف أن انفلاته هو أضعاف في طبيعته لمعنى الولاء والإخلاص والتفاني..
إن من فسولة الطبع ولؤمه أن يهرب هذا الجندي من ميدانه الذي فرضت عليه الطبيعة الفاضلة أن يجاهد فيه لأداء واجبه الطبيعي متعللا لفراره المخزي بمشقة هذا الواجب الوطني والديني وما عسى أن يعاني فيه كما يحتج الجبان الرعديد بخوف الهلاك وعناء الحرب..
أن من سقوط النفس أن يرضى هؤلاء الأرامل كساد الفتيات ،وبوارهن على الوطن ،وأن يتواطأوا على إلقائهن في طرق الحياة الصعبة والملتوية،وتركهن للأقدار والمقادير المحمولة وتخليهم عن حمل واجباتهن وهمومهن السامية..
إن الجمل إذا إستنوق تخنث ولان وخضع ولكنه يحمل،وهؤلاء- وهم أكبر هم على الوطن – إذا استنوقوا تخنثوا وخضعوا وأبوا أن يحملوا..
وإن أكبر سقوط للنفس إن يستغني الشاب عن الزواج لفجوره فيقره،ويمكن له،وكأنه لا يعلم أنه بذلك يحطم نفسين،ويحدث جريمتين،وأعلاه درجة أن يغرر الشاب فتاة حتى إذا وافق غرتها فكر بها وتركها بعد أن يلبسها عارها،فما يحمل هنا الشاب إلا نفس لص خبيث فاتك ....
· الآن ماتت الدار
يقول الرافعي بأسلوبه الأخاذ:
قال أبو خالد الأحول الزاهد: لما ماتت امرأة شيخنا أبي ربيعة الفقيه الصوفي، ذهبتُ مع جماعة من الناس فشهدنا أمرها؛ فلما فرغوا من دفنها وسُوي عليها، قام شيخنا على قبرها، وقال:
يرحمك الله يا فلانة؟! الآن قد شُفيتِ أنتِ ومرضتُ أنا، وعُوفيتِ وابتُليتُ، وتركتني ذاكرًا وذهبت ناسية، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدك بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك همومًا في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة! وكان وجودك معي حجابًا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر أكثر ما تمر رقتك وحنانك، فستأتيني أكثر ما تأتي متجردة في قسوتها وغلظتها. أما إني -والله- لم أُرزأ منكِ في امرأة كالنساء، ولكني رُزئت في المخلوقة الكريمة التي أحسست معها أن الخليقة كانت تتلطف ني من أجلها!
قال أبو خالد: ثم استد مع الشيخ، فأخذت بيده ورجعنا إلى داره، وهو كان أعلم بما يعزي الناس بعضهم بعضًا، وأحفظ لما ورد في ذلك؛ غير أن للكلام ساعات تبطل فيها معانيه أو تضعف، إذ تكون النفس مستغرقة الهم في معنى واحد قد انحصرت فيه، إما من هول الموت، أو حب وقع فيه من الهول ظل الموت، أو رغبة وقع فيها ظل الحب، أو لجاجة وقع فيها ظل الرغبة. فكنت أحدثه وأعزيه، وهو بعيد من حديثي وتعزيتي؛ حتى انتهينا إلى الدار فدخلنا وما فيها أحد؛ فنظر يمنة ويسرة، وقلب عينيه ههنا وههنا، وحوقل واسترجع، ثم قال:
الآن ماتت الدار أيضًا يا أبا خالد! إن البناء كأنما يحيا بروح المرأة التي تتحرك في داخله؛ وما دام هو الذي يحفظها للرجل، فهو في عين الرجل كالمُطْرَف تلبسه فوق ثيابها من فوق جسمها. وانظر كم بين أن ترى عيناك ثوب امرأة في يد الدلال في السوق، وبين أن تراه عيناك يلبسها وتلبسه! ولكنك يا أبا خالد لا تفقه من هذا شيئًا، فأنت رجل آليت لا تقرب النساء ولا يقربنك، ونجوت بنفسك منهن وانقطعت بها لله؛ وكأن كل نساء الأرض قد شاركن في ولادتك فحرُمن عليك! وهذا ما لا أفهمه أنا إلا ألفاظًا، كما لا تفهم أنت ما أجد الساعة إلا ألفاظًا؛ وشتان بين قائل يتكلم من الطبع، وبين سامع يفهم بالتكلف.
· تالله إنه لرأي؛ والوَحْدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي
فقلت له: يا أبا ربيعة، وما يمنعك الآن وقد اطَّرَحت أثقالك وانبتت أسبابك من النساء، أن تعيش خفيف الظهر، وتفرغ للنسك والعبادة، وتجعل قلبك كالسماء انقشع غيمها فسطعت فيها الشمس؛ فإنه يقال: إن المرأة ولو كانت صالحة قانتة، فهي في منزل الرجل العابد مدخل الشيطان إليه، ولو أن هذا العابد كان يسكن في حسناته لا في دار من الطوب والحجارة لكانت امرأته كوَّة يقتحم الشيطان منها. ولقد كان آدم في الجنة، وبينها وبين الأرض سموات وأفلاك، فما منع ذلك أن تتعلق روح الأرض بالشيطان، فيتعلق الشيطان بحواء، وتتعلق هي بآدم؛ ومكر الشيطان فصوَّرها لهما في صيغة مسألة علمية، ومكرت حواء فوضعت فيها جاذبية اللحم والدم، فلم تعد مسألة علم ومعرفة، بل مسألة طبع ولجاجة. فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما.
وهل اجتمع الرجل والمرأة من بعدها على الأرض إلا كانا من نَصَب الحياة وهمومها، وشهواتها ومطامعها، ومضارّها ومعايبها، في معنى {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا}؟
كلانا يا أبا ربيعة ممن لهم سَيْر بالباطن في هذا الوجود غير السير بالظاهر، وممن لهم حركة بالكفر غير الحركة بالجسم، فقبيحٌ بنا أن نتعلق أدنى متعلَّق بنواميس هذا الكون اللحمي الذي يسمى المرأة، فهو تَدَلٍّ وإسفاف منا.
ولعلك تقول: "النسل وتكثير الآدمية" فهذا إنما كُتب على إنسان الجوارح والأعضاء، أما إنسان القلب فله معناه وحكم معناه؛ إذ يعيش بباطنه، فيعيش ظاهره في قوانين هذا الباطن، لا في قوانين ظاهر الناس. وإنه لشر كل ما نقلك إلى طبع أهل الجوارح وشهواتهم، فزين لك لما يزين لهم، وشغلك بما يشغلهم؛ فهذا عندنا -يرحمك الله- باب كأنه من أبواب المُجُون الذي ينقل الرجل إلى طبع الصبي.
فاطمس يا أخي على موضعها من قلبك، وألقِ النور على ظلها؛ فالنور في قلب العابد نور التحويل إن شاء، ونور الرؤية إن شاء؛ يرى به المادة كما يريد أن تكون لا كما تكون. وأنت قد كانت فيك امرأة، فحوّلْها صلاة، واعمل بنورك عكس ما يعمل أهل الجوارح بظلامهم، فقد تكون في أحدهم الصلاة فيحولها امرأة.
قال أبو ربيعة: تالله إنه لرأي؛ والوَحْدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي؛ وقد خلعني الله مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معًا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني، وزوال شيء في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيتُ بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه.
وتواثقا على أن يسيرا معًا في "باطن" الوجود! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة.
· منام من السماء مزلزل
قال أبو خالد: ورأيتُ أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعًا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة، وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعَس فتُريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممتَ أيقظتُك فقمنا سائر الليل.
فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس، وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله، فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضًا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجًا عابدًا، وبين الرجل عابدًا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أحدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذتُ أذهب وأجيء من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شيء حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت كأنما شُددت شدًّا بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها.
ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بُعث الناس، وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حَبّ مبثوث بين حَجَري الرَّحَى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القِدْر بما فيها، وقد اشتد الكرب وجهدَنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السُّعَار واللهب يحتدم بهما الخوف ويتأجج.
فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال بَرُود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليتلوَّى من رآه من الألم، ويتلعلع كأنما كُوي به على أحشائه.
وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما، وهم كثرة من الناس؛ وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم، ينضَحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من رَوْح الجنة ومائها ونسيمها.
ومر بي أحدهم، فمددتُ إليه يدي وقلت: "اسقني, فقد يبست واحترقت من العطش!".
قال: "ومن أنت؟".
قلت: "أبو خالد الأحول الزاهد".
قال: "ألك في أطفال المسلمين ولد افترطتَه صغيرًا فاحتسبته عند الله؟".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد كبر في طاعة الله؟".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟".
قلت: "لا".
قال: "ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في تقويمه, وقمت بحق الله فيه؟".
قلت: "يرحمك الله، إني كلما قلت "لا" أحسست "لا" هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية".
قال: "فنحن لا نسقي إلا آباءنا؛ تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة، وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا ألسنة طاهرة للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به".
قال أبو خالد: فجُنَّ جنوني، وجعلتُ أبحث في نفسي عن لفظة "ابن" فكأنما مُسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرتْ في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكًا وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي.
وقال: يا ويلك! أما سمعت: "إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال" أتعرف من أنا يا أبا خالد؟
قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟
قال: أنا ابن ذاك الرجل الفقير المُعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم العابد الزاهد: "طوبى لك! فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة" فقال له إبراهيم: "لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه" وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، واغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر، ووثق بولاية الله حين تزوج فقيرًا، وبضمان الله حين أعقب فقيرًا؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا.
أما بلغك قول ابن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو: "أتعلمون عملًا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا أعلم. قالوا: فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره، ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نيامًا متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه".
يخلع الأب المسكين ثوبه على صِبْيته ليُدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل، إن هذا البرد -يا أبا خالد- تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف كأنما مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاده يا أبا خالد هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين.
قال أبو خالد: ويهُمّ الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسَلَة الذراع. فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف, وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مُثْلَة بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى.
وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد! ما أراك إلا محاسبًا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحول الزاهد العابد؟
قلت: ها أنا ذا.
قيل: طاوس من طواويس الجنة قد حُصَّ ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين ذيلك من أولادك؟ وأين محاسنك فيهم؟ أخُلقت لك المرأة لتتجنبها، وجعلت نسل أبويك لتتبرأ أنت من النسل؟
جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة؛ فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها، وانهزمت عن ملاقاتها؛ ثم تأمُلُ جائزة النصر على هزيمة!
عملت الفضيلةُ في نفسك ونشأتك، ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألف ألف ركعة ومثلها سجدات من النوافل، ولخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد.
قتلت رجولتك، ووأدت فيها النسل، ولبثت طوال عمرك ولدًا كبيرًا لم تبلغ رتبة الأب! فلئن أقمت الشريعة، لقد عطلت الحقيقة، ولئنْ...
قال أبو خالد: ووقعتْ غُنَّة النون الثانية في مسمعي من هول ما خفت مما بعدها كالنفخ في الصور؛ فطار نومي وقمت فزعًا مشتت القلب، كمن فتح عينيه بعد غشية، فرأى نفسه في كفن في قبر سُد عليه!
وما كدتُ أعي وأنظر حولي وقد برَق الصبح في الدار حتى رأيت أبا ربيعة يتقلب كأنما دحرجته يد، ثم نهض مستطار القلب من فزعه وقال: أهلكتَني يا أبا خالد، أهلكتني والله.
قلت: ما بالك يرحمك الله!
قال: إني نمت على تلك النية التي عرفت أن أجمع قلبي للعبادة، وأخلص من المرأة والولد، ومن المعاناة لهما في مَرَمَّة المعاش والتلفيق بين رغيف ورغيف، وأن أُعفي نفسي من لأوائهم وضرائهم وبلائهم، لأفرغ إلى الله وأقبل عليه وحده. وسألت الله أن يخير لي في نومي؛
فرأيت كأن أبواب السماء قد فُتحت، وكأن رجالًا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضًا، أجنحة وراء أجنحة؛ فكلما نزل واحد نظر إلي, وقال لمن وراءه: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وينظر هذا الآخر إلي ثم يلتفت لمن وراءه ويقول له: هذا هو المشئوم!
فيقول الآخر: نعم هو المشئوم!
وما زالت "المشئوم، المشئوم" حتى مروا؛ لا يقولون غيرها ولا أسمع غيرها، وأنا في ذلك أخاف أن أسألهم؛ هيبة من الشؤم، ورجاء أن يكون المشئوم إنسانًا ورائي يُبصرونه ولا أُبصره.
ثم مر بي آخرهم، وكان غلامًا فقلت له: يا هذا، من هو المشئوم الذي تومئون إليه؟
قال: أنت!
فقلت: ولم ذاك؟
قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى؛ ثم أُمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا! (
إن سمو الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى، ولكنه طيران على أجنحة الشياطين!
طيران بالرجُل إلى فُوَّهة البركان الذي في الأعلى!
اما وان اشد الناس ترملا هم اولئك الذين يقدرون الإنفاق على نسائهم وأولادهم ثم هم اكثر الناس بخلا وكزازة...وما ادري اين السلطان منهم وأين القانون من جرائمهم؟؟؟
الشيخ خالد مهنا
كاتب وأديب فلسطيني- أم الفحم
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"