بعد الاتفاق على الخطة العسكرية، قال بن غوريون إنه في صدد عرض
مشروع سياسي متكامل يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط، والتغييرات المطلوبة لاراحة "إسرائيل"
وتعزيز استقرارها.
ولما أصغى أعضاء الوفد الفرنسي، أكمل يقول: إن الأردن لا يُعتَبَر
دولة مستقلة قابلة للحياة والاستمرار. وعليه أرى أن مساحة أرضه يجب تقسيمها بين
العراق الذي يُمنح الجزء الواقع شرقي نهر الأردن، بينما تضم "إسرائيل"
الجزء الواقع غربي النهر.
وهنا تدخل غي موليه ليسأل باستغراب: ولماذا يُمنح العراق جزءاً من
الأردن؟.
وأجاب بن غوريون موضحاً: مقابل التعهد باستيعاب
اللاجئين الفلسطينيين، فالعراق بلد غني بالنفط والمياه. وبسبب ضآلة عدد سكانه، فان
مساحته الجغرافية مهيأة لتأمين فرص العمل لآلاف الشبان. خصوصاً أن مناخه الصحراوي
سيكون مألوفاً لدى اللاجئين الذي يتكلمون اللغة ذاتها ويمارسون الطقوس الدينية
ذاتها. وربما تكون صحراء سيناء، التي نستعد لاحتلالها، هي الامتداد الطبيعي لسكن
اللاجئين. وكما طوّر مشروع "الكيبوتز" الصحراء المجدبة، فاننا على
إستعداد لنقل خبراتنا الى سيناء في حال وافق الفلسطينيون على هذا الحل.
ثم إنتقل بن غوريون في حديثه الى رسم مستقبل لبنان، فقال: إن
الأقضية الأربعة التي تشكل غالبية إسلامية يجب إرجاعها الى سوريا بحيث يبقى هذا
الوطن موئلاً "للمسيحيين".
بعد مرور 56 سنة على ذلك التاريخ، تبخرت أحلام بن غوريون مع كل ما
عرضه خلال تلك الليلة من مشاريع وهمية. وإضطر آخر الأمر الى سحب قواته من سيناء
بالاشتراك مع الفرنسيين والبريطانيين، بناء على أوامر الرئيس ايزنهاور. وكان من
الطبيعي أن تتحطم فكرة الشرق الأوسط الجديد على أعتاب سلسلة حروب إقليمية كان
للعراق منها النصيب الكافي لتمزيق وحدته ونسيجه الوطني.
التطورات اللاحقة أضاعت أمل "إسرائيل" في حل قضية
اللاجئين عبر مشاريع الاستيعاب. كما أضاعت مغامرة شارون سنة 1982 كل أمل بانشاء
دولة "مسيحية" في لبنان. ولم يبق من مشاريع التآمر سوى مشروعين: الأردن
هو فلسطين... وصحراء سيناء هي وطن الفلسطينيين، مقيمين ولاجئين.
بالنسبة للمشروع الأول، فان سياسة الولايات المتحدة لا تقبل بهذه
التسوية، كونها ترى في الأردن جداراً واقياً يمنع وصول "إسرائيل" الى
حدود دول النفط العربية. وقد تدخلت مراراً للحؤول دون تحقيق هذا الخيار الذي سوقه
شارون تحت شعار: "الأردن هو فلسطين."
يبقى الخيار الثاني الذي يعرض صحراء سيناء كوطن بديل للدولة
الفلسطينية، الأمر الذي يتفق عليه كل زعماء "إسرائيل". وهذا ما أثبته
الكاتب أفي شلاييم في مؤلفه التاريخي الموثق "الحائط الحديد". وقد كتبه
خصيصاً لكشف الأكاذيب والأحابيل التي يستخدمها زعماء "إسرائيل" من أجل
نسف مختلف مشاريع السلام، لا فرق أكانت اميركية أم عربية أم فلسطينية. وفي الفصل
الأخير من الكتاب، نشر شلاييم محاضر الجلسات والمؤتمرات، مُظهراً بدقة الأساليب
التي يستخدمها المفاوض "الإسرائيلي" من أجل نسف التسويات.
وكل ما يخرج به القارئ من استنتاج منطقي بعد مراجعة الكتاب، هو أن "إسرائيل"
ستظل توظف الزمن لتفريغ الضفة الغربية والقدس الشرقية من السكان العرب، خصوصاً إذا
اعترف الفلسطينيون بـ "دولة اليهود" العنصرية. ولكن إنكار الدولة
الفلسطينية لم يمنع "إسرائيل" من الانسحاب من قطاع غزة على أمل أن يتحول
النواة لدولة فلسطينية تضم اليها الجزء الأكبر من صحراء سيناء.
مع وصول "الإخوان المسلمين" الى الحكم في مصر، إنتعشت
آمال "حماس" التي رأت في هذا الانتصار التاريخي الذي تحقق بعد 82 سنة،
معيناً للخروج من عزلتها السياسية الخانقة.
كذلك رأى إسماعيل هنية، رئيس الحكومة الفلسطينية المقال، في هذا التطور
مشجعاً لاقامة وحدة سياسية وادارية وعقائدية بين مصر وغزة، نظراً الى الصلات
العميقة التي تجمع بينهما. وقد أعلن عقب إغتيال 16 جندياً مصرياً في معركة جرت يوم
7 آب السنة الماضية عن استعداده لحماية صحراء سيناء من كل شر.
وذكرت الصحف المصرية في حينه أن جماعات إسلامية "متطرفة"
قامت بمساندة "حماس" باقتحام مركز حدودي عند معبر "رفح"،
فقتلت مَنْ قتلت، وطردت فرقة بكاملها.
وعلى الفور قرر المجلس العسكري برئاسة محمد طنطاوي إرسال قوة الى
سيناء معززة بالمدرعات، مخالفاً بذلك شروط إتفاقية "كمب ديفيد." ونجحت
تلك القوة في القضاء على "الإرهابيين" خلال فترة قصيرة.
بعد ستة أيام قام الرئيس مرسي بزيارة مفاجئة الى سيناء إنتهت
بالغاء المجلس العسكري، وإقصاء طنطاوي، وإعلان نفسه القائد المسؤول عن أي عملية
عسكرية تجري في المستقبل.
واللافت بالنسبة لذلك الحادث الدموي، أن تصرف
الرئيس مرسي أثار شكوك قيادة الأركان، خصوصاً بعدما أمر بوقف عمليات ملاحقة
القتلة، وتجميد كل التحقيقات المتعلقة باغتيال الجنود.
تقول مصادر عسكرية مصرية إن الفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذي
إختاره محمد مرسي وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة، كان مطلعاً على
أسرار معركة سيناء، وعالماً بأهدافها المفتلعة. وربما أقلقه سلوك الرئيس الذي
تجاهل مقتل الجنود وأمر بتجميد التحقيقات المتعلقة بعناصر من "حماس".
ويتردد في القاهرة أن ملف ذلك الحادث سيفتح من جديد بهدف إثبات
الدور المريب الذي قام به محمد مرسي مع قادة "حماس" في غزة، من أجل خلق
نزاع يستخدمه الرئيس للتخلص من طنطاوي والمجلس العسكري. وهذا ما يفسر ظهور جماعة
"حماس" في القاهرة بعد 30 حزيران، أي بعد عزل مرسي، وإعتقال بعض قادة
الأخوان.
هذا الأسبوع، خرجت من مكتب الحزب الجمهوري الاميركي شائعة مفادها
أن الرئيس باراك اوباما وعد الرئيس مرسي بـ 8 مليارات دولار كثمن للتنازل عن صحراء
سيناء بحيث تستعملها "حماس" وطناً نهائياً للفلسطينيين. وفي اليوم
التالي، خفض مطلقو الشائعة الرقم من 8 مليارات الى 4 مليارات. وفي نهاية الأمر،
إضطرت السفيرة الاميركية في القاهرة الى إصدار تكذيب رسمي بإسم البيت الأبيض، يقول
إن الخبر مفتعل وغير صحيح.
ومع إستبعاد الخبر، بقي البحث منصباً على الجهة التي أصدرته في وقت
يواجه الرئيس مرسي إتهامات تتعلق بشراكته السياسية مع "حماس". ويعتقد
آخرون أن "اللوبي اليهودي" في اميركا قد يكون سرَّب هذه الشائعة خصيصاً
لجسّ نبض "الاخوان"، وتنبيه "حماس" الى وجود خيار آخر على
صعيد التسوية السلمية.
والمؤكد أن الجهة التي تضررت أكثر من سواها بسبب سقوط حكم الأخوان
المسلمين في مصر، هي "حماس". ذلك أنها فقدت سندها الايديولوجي والسياسي
والأمني. كما فقدت في سوريا معقلها وحضورها، الأمر الذي إنعكس بشكل سلبي على
علاقتها مع "حزب الله." وكان من الطبيعي أن توقف إيران مدها بالمال
والسلاح.
وبسبب تساهل الإخوان مع "حماس"، خلال السنة التي حكم
فيها مرسي، فإن تهريب البضائع والأسلحة المتطورة عبر أنفاق سيناء كان أمراً سهلاً.
بخلاف هذه الأيام التي شهدت تدمير غالبية الأنفاق، الأمر الذي أدى الى إنخفاض
مداخيل "حماس" في غزة.
ويرى المراقبون أن الضربة التي سُددت لـ "الإخوان
المسلمين" في مصر، يمكن أن تؤثر على زحف "الإسلام السياسي" الذي
حرك الشرق الأوسط تحت شعار: "الاسلام هو الحل". ومن المتوقع أن يستغل
الرئيس بشار الأسد إنتكاسة الإخوان في مصر، كي يضاعف رهانه على القوى
الليبرالية-العلمانية التي تشجعها موسكو في سوريا.
بعد دخول عناصر "القاعدة" على خط النزاع في سوريا، تبدل
المشهد السياسي هنالك، خصوصاً بعد وصول قوات الدعم التي أمنتها قيادة "حزب
الله" لنظام الأسد.
ودعماً لهذا الموقف، أعلن حسن نصرالله في خطبته المفاجئة يوم 25
أيار الماضي، أن الحزب يحمل مسؤولية تضحياته في سوريا. ووعد المقاتلين بالنصر،
"لأن معركة سوريا هي معركة الحزب أيضاً."
في الوقت ذاته، أعلنت جماعة "النصرة" عن تحالفها مع
"القاعدة" كونهما تشربان من معين واحد. وقد دللت عن هذا التحالف
بالاشتراك في القتال ضد "حزب الله" شمال إدلب وشرق دمشق. وهكذا إنحسرت
قوى الإئتلاف وجيش سورية الحر أمام قوى "القاعدة" التي قررت تعريف
النزاع في سوريا بروحية مذهبية يعود تاريخها الى قبل 1400 سنة.
وبتأثير من تلك العوامل المذهبية، تفسر جماعة "حزب الله"
التفجير المروع الذي حدث في الضاحية الجنوبية من بئر العبد. والى هذه العوامل تعيد
أسباب حادثة إغتيال الكاتب السوري محمد جمو في بلدة الصرفند.
أما بالنسبة للوضع السياسي في مصر، فإن المبعوث الاميركي وليم
بيرنز، فشل في إيجاد حل أمني. ولكنه حذر من تكرار خطأ الجزائر سنة 1991 عندما ألغى
الجيش الانتخابات بعد فوز الإخوان المسلمين. ونتج عن ذلك القرار الخاطىء ما عُرِف
بحرب أهلية إستمرت عشر سنوات سقط خلالها مئة ألف قتيل.
في أول رسالة صوتية وجهها الى الشعب المصري المرشد العام محمد بديع
من ميدان رابعة العدوية، قال إن قرار تنحية مرسي والخطوات التي صاحبت ذلك العمل:
باطلة... باطلة... باطلة.
ودعا الحزب وأنصاره الى نسف إنقلاب الجيش والنزول الى الميادين
بكثرة. وإتهم الفريق أول عبدالفتاح السيسي بأنه أضاع في ثلاثة أيام ما بناه الحزب
طوال ثمانين سنة.
ورفض أنصار السيسي وصف حركته بأنها إنقلاب عسكري على طريقة جمال
عبدالناصر. وقالوا بأنها مزيج خاص مؤلف من ثورة شعبية وإنقلاب عسكري. وإعترفوا بأن
الضباط عملوا حسب مطالب الشعب، وأن حركة الاحتجاج ضد مرسي جاءت من الجماهير وليس
من العسكر.
من وراء هذه الخلفية يطل السؤال الأخير: هل يستخدم "الإخوان
المسلمون" السلاح والعنف ضد الجيش مثلما فعل إخوان الجزائر أم أن الوضع
الداخلي سيضطرهم الى القبول بتسوية غير مقبولة من الجناح المتشدد؟.
المحللون في مصر يتوقعون قبول القادة بالتسوية لأنهم شبعوا من 80
سنة سجون واضطهاد وإعدامات. في حين تطالب جماعات ربط الدين بالسياسة، بضرورة
الحفاظ على النهج التقليدي، ولو أدى ذلك الى تكرار تجربة الجزائر.
كاتب وصحافي لبناني
المصدر : جريدة النهار
20/7/2013