مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق بدأت قبل نصف قرن ولم تنتهِ

بواسطة قراءة 2150
مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق بدأت قبل نصف قرن ولم تنتهِ
مأساة اللاجئين الفلسطينيين في العراق بدأت قبل نصف قرن ولم تنتهِ

هم ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف نسمة، وصلوا العراق في سنة 1948 من مناطق أجزم وعين غزال وجبع وصرفند والمزار وعارة وعرارة والطنطورة والطيرة وكفرلام وعتليت وأم الزينات وأم الفحم وعين حوض، جراء سياسة التهجير الإسرائيلية المعززة بالآلة العسكرية والمذابح الدامية.

 

أما اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على التهجير من وطنهم؛ فإنّ قليلاً من العراقيين من يعرف وضع الفلسطينيين في العراق، وأقل من ذلك من يعرفون حقيقة الوضع من المجتمعات العربية وعلى الصعيد العالمي، بحسب دراسة حقوقية هي نتاج أول تحقيق مستقل من نوعه.

 

إذ تلاحظ دراسة حقوقية جديدة أنّ الذين أطلق عليهم أحد الصحفيين الغربيين اسم "فلسطينيو صدام" هم المنسيون من الأمم المتحدة والجامعة الدولية والجامعة العربية وأنظمة الحكم المتتابعة في العراق. والأدهى من ذلك، أنّ هناك من يحسدهم على وضعهم المتميز باعتبار أن خطاب الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين كان يوحي باستمرار يوحي بأنّ الفلسطيني هو أقرب الناس إلى النظام، وبالتالي فهو بالضرورة يعيش في بحبوحة من العيش وامتيازات لا حصر لها، حسب الوهم السائد.

 

وللتمييز بين الأوهام والواقع؛ أعدت اللجنة العربية لحقوق الإنسان، التي تتخذ من باريس مقراً، تقريراً موسعاً عن أوضاع الفلسطينيين في العراق، يقوم على دراسات ومعطيات عددية شتى، مع زيارة ميدانية تفقدية لمعاناة اللاجئين الفلسطينيين في العراق بين العاشر والسابع عشر من حزيران 2003، قام بها الدكتور هيثم مناع، المتحدث باسم اللجنة الحقوقية.

 

وتنقل وكالة "قدس برس" عن الدكتور مناع إشارته إلى حجم الانطباعات المسبقة المضللة التي تكتنف واقع الفلسطينيين بالعراق بقوله "الحقيقة أنني عندما حدثت كادراً سياسياً قيادياً من المعارضة العراقية عن نيتي استشراف وضع الفلسطينيين أثناء زيارتي لبغداد؛ كان جوابه: احذر فهذا الوسط مليء بأنصار صدام ومخابراته. وعندما عدت لنفس الشخص أحدثه عما رأيت اغرورقت عيناه بالدمع وقال: لا غرابة أن يكون المواطن العادي ضحية التضليل وأنا نفسي لا أعرف حقيقة الوضع".

 

أكثر من ذلك، يستغرب مناع ما كتبته صحيفة "المجد" الأردنية "بغداد تمنحهم (الفلسطينيين) كافة الامتيازات، باستثناء تملك الأراضي والعقارات"، ولم تمتنع صحيفة عربية أخرى عن تشبيه النقلة بعد احتلال العراق بأنها جاءت "من النعمة إلى النقمة"، كما يلاحظ باستغراب.

 

إسكان عشوائي مؤقت لأكثر من نصف قرن:

وتوثق الدراسة المدعمة بالبيانات العددية والصور، التي أُرسلت إلى وكالة "قدس برس"؛ كيف تولت وزارة الدفاع العراقية رعاية وإدارة شئون الفلسطينيين منذ قدومهم إلى عام 1950، وتم إسكانهم أول الأمر في معسكرات الجيش في الشعيبة في البصرة وبعض النوادي في الموصل وفي المحافظات العراقية كأبو غريب والحويجة، وبعض المدارس والمباني الحكومية. واستمر الحال هكذا حتى عام 1958، أي عندما جرى الاتفاق بين الحكومة العراقية ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" على تكفل الأولى برعاية الفلسطينيين، مقابل إعفاء العراق من التزامات مالية مع الأمم المتحدة.

 وبعد عام 1950 أصبح المسئول عن رعاية وإدارة شئون اللاجئين وزارة العمل والشئون الاجتماعية التي أنشئ فيها قسم خاص يعنى بالفلسطينيين، لكن دون ترافق ذلك بأي قانون يحدد طبيعة إقامة الفلسطينيين. 

 زيادة سكانية وثبات في الأوضاع المأساوية:

 

وإثر عام 1950 الذي شهد انتقال المسئولية لوزارة الشئون الاجتماعية؛ أعيد توزيع الفلسطينيين وفق نظام السكن الجماعي في الملاجئ والمواقع المستملكة من قبل الحكومة العراقية. وقد تزايدت أعدادهم بتواتر قريب من معدل الزيادة السكانية في العراق. ففي العاشر من نيسان 1969، بلغ عدد المسجلين في مديرية شئون اللاجئين 13743 لاجئاً، منهم 13208 نسمة في بغداد، و335 نسمة في الموصل، و200 نسمة في البصرة. وبعد ذلك بعشر سنوات قدرت منظمة التحرير الفلسطينية العدد بما مجموعه 19184. وفي 1986 أعطت هيئة الإحصاء بوزارة التخطيط العراقية رقم 27 ألف لاجئ. ومعظم التقديرات تعطي رقم 35 لاجئ فلسطيني لعام 2000. أما في حال تم تتبع باقي الفلسطينيين الذين دخلوا العراق بعد 1967 و1970 وبعد حرب الخليج الثانية، يمكن القول أن هناك ما يقارب هذا العدد ممن يحمل وثائق وجوازات سفر عربية مختلفة. إلا أن هذه الفئة غير مشمولة بتعريف اللاجئ الذي يشترط فيه أن يكون من منطقة احتلت منذ 1948، وأن يكون قد دخل العراق وأقام به قبل 25/09/ 1958. ولغرض جمع الشمل أجيز ضم الزوجة إلى زوجها الفلسطيني المسجل قبل عام 1961، في حين لا يجوز ضم الزوج إلى الزوجة.

 أما ميزانية مديرية شئون الفلسطينيين في وزارة الشئون الاجتماعية والعمل فقد بلغت 200 ألف دينار عراقي وهي ميزانية بقيت ثابتة من 1950 إلى ما بعد 1970 رغم تضاعف عدد اللاجئين. 

ملاجئ الفلسطينيين في العراق .. طراز لاإنساني فريد:

  من اللافت للانتباه أنّ الحكومات العراقية المتتابعة اتبعت نظام الملاجئ كحل مؤقت لمشكلة اللاجئين، وهو ما يصفه عصام سخنيني بأنه "طراز فريد من السكن الجماعي، ما أظن أن مجتمعاً من المجتمعات وفي الثلث الأخير من القرن العشرين يضم بين جنباته ما هو أدنى منه درجة"، كما يورد سخنيني في دراسته "الفلسطينيون في العراق" قبل 32 عاماً. 

ويضم الملجأ بيتاً كبيراً أحياناً يقع في ثمانين غرفة وأكثر، مما كان في الأصل مدرسة أو ربما بني قديماً ليكون فندقاً هجره نزلاؤه لقدمه، فاستأجرته مديرية الفلسطينيين وتكدس فيه الأسر الفقيرة بشكل لا إنساني.

 

فالملجأ يضم 24 أسرة كحد أدنى و61 أسرة كحد أعلى، وتتكدس أكوام القاذورات على أبواب الملاجئ، لتتحول في حر بغداد اللافح إلى موطن للمرض قل له نظير، بينما تعيق المياه القذرة عابر السبيل، وهي لا تجد لها مصباً سوى الشارع العام ومدخل الملجأ نفسه لعدم توفر الحفر الامتصاصية أو المجاري.

 

وتنحشر الأسر اللاجئة داخل الجدران المتهدمة والسقوف المهترئة؛ بواقع غرفة واحدة لكل أسرة مكونة من ستة أفراد، وإن زاد العدد عن هذا يُفرد لها قانوناً غرفتان. غير أن الواقع في أغلب الأحيان لا يتماشى مع القانون، ما يضطر الأسرة في معظم الحالات، إلى أن تقسم الغرفة الواحدة التي لا تتجاوز كثيرا اثني عشر مترا مربعا إلى قسمين بواسطة بطانية أو ملاءة.

 

ومن الملاحظ أنّ معظم هذه الملاجئ آيل للسقوط، فهي بنايات قديمة جداً لم يلحقها الهدم إلا لأنّ اللاجئين "يعمرونها" فقط، بينما المنافع الصحية شحيحة وغير متوفرة. فالملجأ الذي يتسع أحياناً لأكثر من ثلاثين أسرة لا يوجد فيه أكثر من دورتي مياه أو ثلاثة، إن كان سكانه من المحظوظين.

 أما ممرات الملجأ، والتي هي مظلمة ورطبة وضيقة؛ فتصبح ملاعب للأطفال تعج بهم وتزدحم بصرخاتهم. ونتيجة الحر الخانق في بغداد يضطر المواطنون فيها للنوم فوق أسطح منازلهم، والملجأ ذو السطح الواحد يحوي الأسر كلها في الصيف ليلاً. وتتجلى المأساة عندما يقسم السطح ببطانية تعبث بها الريح ينام على جانب منها النساء وعلى الجانب الآخر يستلقي الرجال. وقد تعززت هذه الملاجئ بغرف من الصفيح تحاول مصارعة الزيادة السكانية في عين المكان خلال ثلاثة عقود زمنية. 

استئناف معاناة التشرد الفلسطيني:

  ترصد الدراسة الجديدة، التي أصدرتها اللجنة العربية لحقوق الإنسان، المناطق التي يسكنها الفلسطينيون في بغداد في عام 2003، وذلك حسب البيانات والمعاينات الميدانية. ففي منطقة البلديات، يوجد أكبر تجمع فيه حوالي 1600 أسرة موزعة على 768 شقة في 16 عمارة سكنية. وهناك ست ملاجئ متوسطة الحجم في بغداد الجديدة كانت مستوصفات بيطرية لمعالجة الحيوانات. كما أنّ هناك 24 بيتاً حكومياً شعبياً صغيراً في تل محمد، وثلاثة ملاجئ أحدها آيل للسقوط في حي الأمين وعدد شققها 45، وثلاثة ملاجئ في الزعفرانية وثماني بيوت حكومية شعبية في وضع لاإنساني، علاوة على ثلاثة ملاجئ في حي الحرية أحدها كبير والآخران متوسطان مع بيوت حكومية صغيرة مجموعها 129 بيتاً. وهناك البيوت المجمدة، وهي بيوت متقادمة تعود ليهود عراقيين رحلوا إلى فلسطين المحتلة، وتقع في حي السلام وبيوت حكومية شعبية صغيرة عددها 68، وثمة بيوت متنوعة ومتناثرة في البتاوين وحي الجهاد وأبو تشير وغيرها عددها يقارب 68 بيتاً. 

ومؤخراً ارتبطت الدور المستأجرة، وهي دور عادية تستأجرها إدارة شئون الفلسطينيين بالعراق لغرض إسكان اللاجئين الفلسطينيين فيها، بمعاناة التشرد الفلسطيني. إذ كانت الإدارة تدفع في الثمانينات إيجاراً سنوياً يقدر بحوالي 24 ألف دينار. وبمجرد سقوط الحكم السابق، هجم أصحاب هذه المنازل يطالبون بها لأنّ الحكومة كانت تستأجرها بأسعار قليلة ولا تزيد مع الزمن، فوجدوا في فراغ السلطة الفرصة للتخلص من الفلسطينيين المقيمين بها.

 وقد جرى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ترحيل 706 أسرة من بيوتها وتم تأمين بعض هذه الأسر مع أقاربها في أماكن يتكدس بها الناس والأثاث. كما أقيم مخيم العودة في النادي الفلسطيني في البلديات لاستيعاب العدد الأكبر منهم في وضع هو غاية في الصعوبة، بينما غادر 1018 فلسطيني العراق نحو الأردن، الذي يرفض حتى اللحظة دخول من بقي منهم على الحدود، وهم قرابة 900 شخص يقبعون في مخيم في العراء قرب الرويشد. 

تخبط الوضع القانوني للاجئ الفلسطيني في العراق:

  وترى الدراسة أنّ تخبط الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين في العراق يعطي فكرة عن مدى ابتعاد السلطات العراقية عن مفهوم دولة القانون. فالخطاب السياسي المعلن منذ أربعين عاماً هو خطاب موال للقضية الفلسطينية دون حدود وداعم للشعب الفلسطيني بشكل يمكن معه تصور العراق "جنة للفلسطينيين". أما في الواقع فتتزاحم مقيدات الفلسطيني في العمل والسكن والسفر والتمييز في المعاملة. ويشبه العامل الفلسطيني الأجنبي في سلبياته ويعامل كالعراقي في كل ما تظلمه به الدولة. بل لا يحق للفلسطيني سوى السفر مرة واحدة في العام خارج العراق، وليس له الحق في صندوق توفير البريد.

  أما القرارات التي تمنح الهدايا للجالية الفلسطينية في العراق والتي صدرت خلال انتفاضة الأقصى فيشير التقرير إلى أنّ الفلسطينيين لم يعرفوا بها في واقع الأمر.

  وتستنتج الدراسة أنّ المشكلة الأساسية في التعامل مع الملف الفلسطيني في العراق؛ هي أنّ "القضية الفلسطينية كانت سلعة من سلع الإعلام الرسمي استعملها النظام لغاياته الخاصة. وبالتالي، كانت جملة القوانين حبراً على ورق. وباستثناء محاولات مطلع السبعينيات التي نجم عنها تحسين في وضع قسم من اللاجئين، رهنت الثمانينات والتسعينات أي تحسن في وضع الشخص الفلسطيني بولائه للسلطة والحزب. فيما همّش الغالبية العظمى لحساب فئة صغيرة جدا من المنتفعين"، كما يرد فيها.

  تصورات للتعامل مع مأساة متعددة الأوجه:

  تؤكد دراسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان أنّ الأمر يتعلق "بمأساة متعددة الأوجه، أول أطرافها وجود وضع خاص أخرج اللاجئ الفلسطيني في العراق من نطاق مؤسسات الأمم المتحدة وبشكل خاص الأونروا. الأمر الذي ربط مصيرهم المعاشي، وليس فقط السياسي، مباشرة بالسلطة التنفيذية في البلاد". وترى الدراسة أنه من هنا، لا بد لمفوض الأمم المتحدة في العراق من مناقشة شمول الفلسطينيين في العراق بخدمات الأونروا واعتبار الاتفاق مع الحكومة العراقية بحال الملغي. الأمر الذي يمهد لتنظيم الوضع القانوني على أسس جديدة أكثر وضوحاً مع أية سلطة عراقية مستقبلاً.

  وإذا كان هذا التوجه هو الأسلم لمستقبل اللاجئين الفلسطينيين كونه يضعهم في نطاق أية إجراءات مستقبلية تتعلق بحق العودة، فإن هناك إجراءات عاجلة لا تحتمل أي تأخير، مثل وضع حد لمأساة المقيمين في المخيمات عبر نقلهم لأماكن سكن مقبولة. وتخصيص مساعدات عاجلة لسكنى الملاجئ بانتظار حل جذري لهذا الوضع اللاإنساني بالتعاون بين المنظمات الإنسانية والخيرية مع المنظمات بين الحكومية.

 كما تدعو الدراسة الحقوقية إلى فتح فرص العمل للفلسطينيين في العراق بشكل طبيعي، وعدم التمييز وإلغاء كل القرارات التي ترقن القيد أو تعقد الحياة اليومية للاجئين، مع ضرورة قيام منظمات حقوق الإنسان العراقية الناشئة بتعريف العراقيين بمأساة الفلسطينيين والتقريب بين الجيران العراقيين والفلسطينيين "لوضع حد للإشاعات والتحرشات التي حرض عليها طرف غريب بحجة أن الجالية الفلسطينية كانت في خدمة نظام صدام حسين. وبالتالي صورت على أنها تتمتع بامتيازات وتخفي الأموال والمساعدات التي قدمها لها".