اللاجئون الفلسطينيون من العراق .. شهود على نكبتين
25/9/2008
يبكي دون أن يعرف السبب، وأصوات شهقاته تتعالى أيضاً لا لشيء إلا لأن الجميع مِن حولِه يبكون، تلك كانت حال الطفل "حسين صادق" عندما أخرج مع عائلته من بلد الشيخ قضاء حيفا عام 1948، بفعل احتلالها من قبل عصابات الإجرام الصهيونية وذهبوا إلى العراق باحثين عن خيط أمنٍ وأمل يمسك ما بقي لديهم من إرادة حياة.
لم يبرح "حسين صادق" العراق منذ عام احتلال فلسطين وحتى احتلال بغداد، غير أن تياراً غريبَ الفكر بدأ بالظهور قد يدفع الآلاف من العرب بشكلٍ عام والفلسطينيين بشكل خاص إلى مغادرة العراق، ملخّص فكر هذا التيار أنّ "العراق للعراقيين وحدهم" والكلام لصادق، وبالتالي صار العربي بشكل عام ملاحقاً ومضطهداً وغير مرغوب فيه.
خنجر الوطن السليب
أمام هذه الحالة عاد كل مواطن عربي إلى بلده الأصلية، وخنجر الوطن السليب عاد ليتحرّك مجدّداً ويحرّك الأوجاع في أكباد أبناء الشعب الفلسطيني؛ إذ ليس لهم مكان يلجئون إليه، ولا وطن يعودون إليه، ليس أمامهم إّلا مواجهة الموت.
باستطراد أكبر، وارتياح بدأ يظهر شيئاً فشيئاً على محيّاه، أكمل "حسين صادق" سرد شهادته على المأساة، متحدّثاً في زيارة قام مراسل بها إلى المخيم الحدودي العراقي السوري.
التهديدات التي تدفع عائلة صادق إلى الخروج من العرق ازدادت يوماً بعد يوم، ومصادر هذه التهديدات حسب صادق كانت جهاتٍ وفق أجندةٍ "طائفية عنصرية لا يمكنها قبول الأخر بل لا يمكنها إلّا طرده من بيته وممتلكاته"، حتّى ولو كان ثمن هذا الطرد دماً"!.
ضرب لنا "حسين صادق" أمثلة على بعض التهديدات، وقال "ذات مرّة ضربوا علينا قنبلة صوتية ذات تأثير كبير، هدم منها باب المنزل وكلّ زجاج البيت، بعد ذلك توجّهوا إلى محل الحلاقة الذي عمل به ولدي فكسروه وهدّدوا بقتل الولد إن لم نترك العراق".
تلك الممارسات لم تدع أمام العائلة خياراً إلا الخروج من العراق، بحثاً عن مكان يحمي حياتهم ويكفيهم شرّ الموت الذي يلاحقهم في كل مكان هنا.بطرقٍ شرعية أو غير شرعية، - لا فرق فالمسألة مسألة حياة أو موت- غادرت عائلة "صادق" العراق قاصدة إحدى دول جوار العراق، وبعد 35 يوماً قضتها في تلك الدولة كانت النتيجة أن أعيدت العائلة إلى العراق وإلى مواجهة المصير ذاته.
تهديد انتهى بإعدام ولديه
رجعت العائلة إلى بيتهم الذي يملكونه والذي تركوه قبل المغادرة، وقبل أن ينتهوا من ترتيب أثاثهم من جديد وصل التهديد، ولكن هذه المرّة برصاصة ملفوفة بورقة كتب عليها "الموت لكم"!.
الأمور لم تقف عند هذا الحد؛ حيث خرج ابنه "محمد" من المنزل في فترة العصر خروجاً طبيعياً، وعندما بدأت الشمس تغرب لم يعد استمرار غياب "محمد" أمراً طبيعياً، فالجديد المتعارف عليه عند الفلسطينيين في العراق أن الغياب إلى ما بعد غروب الشمس يعني بالضرورة أن مكروهاً قد حصل، ومع هذه الظنون بدأت قلوب العائلة تلهج بالدعاء ودموع عيونهم لم تغب عن المشهد.
اتّصال هاتفي فجر اليوم التالي لغياب محمد، قال المتكلّم "ابنكم مشنوق وهو الآن تحت جسر الخط السريع"، وما زاد المأساة لوعةً أنّ الأسرة لا تستطيع استلام جثّة "محمد" من "الطب العدلي" في المنطقة، والسبب أنّ "محمد" فلسطيني، وبالتالي فإن والده الذي سيأتي لاستلام جثّته أيضاً فلسطينيّ، وهذا السبب وحده كفيل بأن يقتَل الأب أيضاً.
مرّة أخرى غادرت العائلة بيتها، غير أن نفاد المال وغلاء الإيجارات أجبرهم على العودة إليه، وبعد 15 يوماً من رجوعهم إلى المنزل يقول صادق "خرجنا إلى السوق، وعدنا لنجد البيت وكأنّ زلزالاً حل به"، غير أن الزلزال الأكبر الذي هزّ العائلة من جديد هو ما وجوده أثناء قيامهم بترتيب ما عاث به المخرّبون فساداً، جثّة ابنه الثاني، بعدما أعدم رمياً بالرصاص.
مغادرة إلى غير رجعة
حملت العائلة ما استطاعت حمله من الأمتعة وغادرت العراق إلى غير رجعة، ودخلت إحدى دول الجوار، وهناك عمل صادق في إحدى "البقالات" براتب شهري لا يكفي لسدّ حاجة شخص واحدٍ، فكيف به وهو المعيل لأسرته وأخته الضريرة؟!.
أمام هذا الوضع لم يجد الرجل بدّاً من التوجّه إلى "أخف الضررين"، وبالفعل؛ ذهب مع عائلته ليقيم في مخيم التنف للاجئين الفلسطينيين من العراق على الحدود العراقية السورية، علّه يجد هناك من يؤمّن لهم الطعام والشراب.
الشيخ "حسين صادق" هو مؤذّن وإمام وخطيب مسجد مخيم التنف الصحراوي، والمسجد هناك عبارة عن خيمة كبيرةٍ نسبياً كتبت عليها كلمة "مسجد".بكى الشيخ حسين مرة أخرى في نهاية حديثنا معه، وبكاؤه كان في خيمةٍ تشبه الخيمة التي الذي بكى فيها طفلاً عام 1948م، وسبب البكاء كان سؤال مراسلنا عن الحل الذي ينشده، حينها أجاب قائلاً "كل الدول أغلقت أبوابها في وجهنا، والحل هو عودتنا إلى فلسطين .