عامر ملحم قصة محزنة من رحم المعاناة – أيمن الشعبان

بواسطة قراءة 5861
عامر ملحم قصة محزنة من رحم المعاناة – أيمن الشعبان
عامر ملحم قصة محزنة من رحم المعاناة – أيمن الشعبان

الجريح عامر أسعد ملحم

الجريح عامر أسعد ملحم

إن تسطير ما حل بنا من مآسي ومحن ومعاناة يحتاج لمجلدات ووقفات وتأملات ، ولو أمعنا النظر وتأملنا في أحوالنا جميعا لوجدنا نظرات أبنائنا وعبرات أطفالنا وملامح إخواننا وأخواتنا ، ولتلمسنا كل حركة لآبائنا وأمهاتنا تعبر عن تلكم اللئواء والأسى والحزن العميق عما حل بنا !!. 

أين كنا وكيف صرنا وما هو حالنا الآن ؟!! فراق .. وشتات .. وتشرذم .. وتفسخ الأواصر الأسرية .. حيرة بعد أخرى .. مصير مجهول .. ولسان حالنا ينطق في كل لحظة : هل ترانا نلتقي في هذه الدنيا بعد هذا الفراق ، وهل ستعاد علينا تلك البسمات والاجتماعات مع الأخوة والأخوات في مجمع البلديات ؟!! نقول كما قال ربنا جل في علاه ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) .

إن نكبة كالتي حلت بفلسطينيي العراق بعد عام 2003 لا مبالغ إذا قلنا بأنها الأعظم والأكبر في التاريخ المعاصر لما لهذه القلة المستضعفة تلك المصائب والويلات ، وكأن هذا الوصف ( فلسطيني من العراق ) أصبح مستباحا بكل المقاييس وعلى جميع الأصعدة وبمختلف الشرائح ، ولا مجيب ولا مغيث ولا منقذ وكأننا صرنا كبشا يقدم قربانا من غير ثمن ، بل ندفع دمائنا وتشتتنا وفراقنا للأحبة وابتعادنا عن أماكن نشأتنا ثمنا رخيصا إبادتنا .

ولابد والحالة هذه أن نذكر مثالا لتلك المأساة المظلمة ونعرج على قصة لم تنسج من الخيال أو يتم تأليفها في الأذهان ، إنها حقيقة عشناها بكل آلامها بتفاصيلها ومعاناتها ، إنه الأخ عامر أسعد ملحم ( 44 عام ) الذي نشأ وترعرع في مجمع البلديات ككثير من الشباب الفلسطيني وكان له تعلق بالفن والموسيقى ، وله ابنة متزوجة ( هدى ) وهدير ( 17 عام ) وعذراء ( 4 سنوات ) .

وبعد احتلال العراق عام 2003 وصعوبة الأمور المعاشية حصل تحول مفاجئ في حياته وانتقل ليشتغل ( عامل بناء ) رغم وضعه الصحي وعدم قدرته على ذلك ، إلا أنه كالكثير من اللاجئين الفلسطينيين الذين ارتضوا قول النبي عليه الصلاة والسلام ( واليد العليا خير من اليد السفلى ) ولم يمدوا يدهم لأحد ولكسب لقمة العيش بالحلال ، وأنا شخصيا معرفتي بالأخ عامر عن قرب وجدته خلوقا وصاحب دين وأدب رفيع وخدوم جدا لكل من يطلب منه عمل بمقدوره عليه ، وصاحب مبدأ يحن لفلسطين ولها أهمية في حياته ، وله دور إيجابي وخدمي في مجمع البلديات ومجامل للجميع متواضع جدا ولم يعرف عنه أي خلق سيء ، وما أدل على ذلك من مسارعته في التبرع بدمه في الحملة التي قام بها جامع القدس لإنقاذ الجرحى في المستشفيات العراقية في رمضان من عام 2005 .

لكن لم يعلم عامر أنه على موعد في رمضان من السنة القادمة مع وابل من قذائف الغدر التي أمطرت مجمع البلديات بعد صلاة التراويح بتاريخ 19/10/2006 ليكافأ بالدم الذي تبرع به بإراقة دمه ( وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) ليسقط جريحا في مكانه وتدخل الشظايا في رأسه وتعرض من حينها لفقدان الوعي والذاكرة ، في حادثة من أبشع ما حل بالفلسطينيين في العراق حيث استشهد بإذنه تعالى ثلاثة وجرح ثلاث عشر آخرين من ضمنهم عامر .لتبدأ بعد ذلك قصة ومرحلة جديدة من المعاناة والصراع مع المرض وفقدان الذاكرة والعلاج والمستشفيات في ظل ظروف صعبة وقاسية الكل يعرف ما تحمل في طياتها من أمواج متلاطمة وبحار مظلمة ، فلا يكفي فراقه لأحبته وأهله في ظل ظروف قاسية وإكراه على ذلك ، لتتضاعف المحنة وتثقل المهمة ويتحمل ذووه أعباء لم تكن بالحسبان ، مع إهمال كبير من الجهات الرسمية والمؤسسات المدنية والمنظمات والجمعيات الشعبية والإنسانية لهذه الحالة والكثير من مثيلاتها .

مكث عامر قرابة العشرين يوما في مستشفى الجملة العصبية في بغداد أثر الحادث وأجريت له عملية جراحية في رأسه خرج على إثرها فاقد للوعي وشلل نسبي لرجله ويده اليمنى ، وبدأ بأخذ العلاجات في بيته على أمل تحسن حاله ولا أحد يسأل عنه من أصحاب القرار فكان يتلقى المساعدة من ذويه وبعض المحسنين بشكل فردي إلى أن اضطر لمغادرة البلاد إلى سوريا على أمل الاستمرار بالعلاج وتحسن حالته ، وكان برفقته شقيقين له مع عائلته ليقوموا برعايته ومتابعة شؤونه ، ليتم ترحيلهما إلى مخيم التنف الحدودي في رمضان من عام 2007 لتزداد محنة الأخ عامر . 

بقي معه لرعاية شؤونه وأحواله زوجته وبقية عائلته لتزداد أوضاعهم سوءا وتتضاعف معاناتهم مع تقصير واضح من المؤسسات الرسمية والشعبية إلا من رحم الله وقليل ما هم ، ليتم بتاريخ 27/4/2008 نقله مع زوجته وعائلة ابنته المتزوجة وابنتيه إلى مخيم الهول في محافظة الحسكة السورية لينضم إلى العوائل الفلسطينية التي أدخلت إلى الأراضي السورية في منتصف عام 2006 بعد أن كانت عالقة بين الحدين السوري – العراقي في التنف .وإن نسيت فلن أنسى لقائي الأخير معه قبل الحادث بليلة عندما خرجت بساعة متأخرة من الليل في العشر الأواخر من رمضان وتجولت بداخل المجمع فوجدت عامر جالسا مع بعض الشباب في وسط المجمع قرب العمارة التي يسكنها فسلمت عليه وتحدثت معه قليلا وسألني عن أوضاعي وأحوالي وتبادلت معه السؤال ، ثم صعقنا باليوم التالي بتلك المجزرة البشعة المؤلمة على نفوسنا جميعا ، وعندما زرته في دمشق أخبرني ذووه بأنه لا يمكن له التعرف على أي شخص ، فالذي يراه ولا يبكي فهذا لم يتعرف عليه ، وإذا رأى شخصا وبكى فإنه قد تعرف عليه ، ويا سبحان الله بمجرد ما رآني وسلمت عليه انهال بالبكاء ورحب بي فأخبرني من كان جالسا بأنه قد عرفني .عامر ملحم بحق قصة محزنة من رحم معاناتنا التي أصبحت أشهر من نار على علم ، وظاهرة المعاني يراها القاصي والداني ، لكن يبدو نحن الآن نمر بزمن قلت فيه الشهامة وانعدمت المروءة ولم تلامس النداءات تلو النداءات والاستغاثات نخوة المعتصم ، ولم يستشعر جراحانا وآلامنا إلا القليل ولا حيلة لهم ، أما الأكثرية فلسان حالهم ومن يكن ( فلسطينيو العراق ) ؟!! فليذهبوا للجحيم وللأسف صرنا نسمع تلك العبارات ولو بلسان الحال الذي يكون غالبا أنطق من لسان المقال ، ونرى الإهمال بنا والقصور بل والتقصير المفرط بقضيتنا بكافة جوانبها إلا القلة القلائل الذين يحملون هم هذه القضية من المخلصين الذين لا يحملون ذلك الهم لمصالح معينة بل استشعروا بأنه هذا الهم لابد منه في ظل السكوت والخنوع المخزي والخوف من إظهار تلك الحقبة للعالم .إن معاناة عامر وأهله وأحبابه تزداد بتلك المسافات الشاسعة والأميال العديدة بينه وبين إخوته وأخواته ، بل أصدقائه وأحبابه ، فهو وزوجته وبناته في مخيم الهول في الحسكة ، ووالدته وثلاثة من إخوته في بغداد وكذلك عائلة شقيقه الفقيد ماجد – رحمه الله – وإحدى أخواته في البرازيل والأخرى في مخيم التنف ، واثنين من أشقاءه كذلك في مخيم التنف ، وله أخت في مخيم الوليد ، وأخت أخرى في سلطنة عمان ، فكل هؤلاء الأحباب بعيدون عنه بذلك تتضاعف المحنة وتزداد المأساة .

بعد كل هذا العرض المتواضع لتلك القصة المحزنة على قلوبنا جميعا لابد أن نقف جميعا وقفة حقيقة مشرفة سنسأل عنها يوم القيامة ، ولابد أن نبرئ ذمتنا أمام الله عز وجل وللتاريخ الذي سيسجل كل تلك الفترات ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ، فعلى كل من بمقدوره عمل شيء أو تقديم المساعدة للجريح عامر وعائلته فليفعل سواء المنظمات الإنسانية أو الإغاثية والحقوقية أو الشخصيات الإعلامية والرسمية والشعبية وعلى كافة المستويات الدولية والإسلامية والعربية .

والذي ليس بمقدوره فعل شيء فعليه بالدعاء له ولجميع الجرحى من الفلسطينيين والمنكوبين والذين انقطعت بهم السبل ، وأن يفرج الله همنا وينفس كربنا ويعيننا على الخروج من تلك المحن وأن يجمع شملنا ويرفع الظلم عنا .

أخوكم : الشيخ أيمن الشعبان

باحث مختص بشأن الفلسطينيين في العراق

[email protected]

 يرجى الإشارة إلى موقع " فلسطينيو العراق " عند النشر أو الاقتباس