الحمد لله الهادي عباده إلى طريق الرشاد، والصلاة والسلام على نبينا خير العباد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم المعاد، وبعد:
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا جميعا لعبادته، وبيّن لنا طريق الهداية وطرق الضلال، ولم يتركنا ربنا هملا ولا سدى بلا ضوابط أو قواعد أو أدلة وبراهين ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ )[1]، فأرسل الرسل ( مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )[2]، وأنزل الكتب وأوضح الأحكام وأظهر الشرائع وأمرنا باتباع دينه وشرعه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وحذرنا من اتباع الهوى وطريق الشبهات والشهوات ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا )[3].
وحتى نكون من أهل الحق وضمن قافلتهم، لابد أن نسير على أصولهم المتينة، وقواعدهم الراسخة، ومبادئهم الثابتة، ومنهاجهم القويم، وسلوكهم الرصين، وقبل ذلك كله المعتقد النقي الصافي الخالي من الشوائب، ولا يتحقق ذلك إلا بتأصيل منضبط بضوابط الشرع قولا وعملا، مبني على دليل واضح وفهم سديد، في العقيدة والمنهج والعبادة والسلوك والمعاملات والأحكام.
للمسلم عدة طرق من حيث التصرف والسلوك والنهج وتبني الآراء والقضايا بل والتفكير وغيرها:
الأول: طريق التأصيل الشرعي بالقواعد والأصول والأدلة والبراهين وفهم سديد قويم، مع عاطفة منضبطة ومشاعر مُتّزنة.
الثاني: طريق التأصيل الشرعي المستقل تماما والبعيد كل البعد عن عاطفة موزونة.
الثالث: طريق العاطفة الجياشة والحماسة المندفعة الغير منضبطة والبعيدة عن التأصيل.
نحن هنا أمام طرفان ووسط، فلا غنى عن التأصيل الشرعي البتة، لكن لابد من عاطفة متزنة بعيدة عن الاندفاع والحماسة والتهور وردود الافعال، فهذا مطلوب بل واجب، أما الانسلاخ من العاطفة بشكل نهائي بدعوى ضرورة التشبث بالتأصيل، فهذا غير صحيح إذ يُصبح الإنسان بمثابة آلة، وهذا ينسحب أيضا على التمسك بسلوك العاطفة بعيدا عن أي خلفية شرعية أو تأصيل علمي، فهذا مذموم أيضا ولا ينبغي، فهو سبيل للوقوع في الإنحراف المنهجي والعقدي بل والسلوكي والبدع والمفاهيم الخاطئة، والعواطف إن لم تكن مبنية على دليل شرعي فإنها تنقلب عواصف.
يقول ابن عثيمين ( لابد لكل شيء من عاطفة ولو ماتت العاطفة ما صار الإنسان، العاطفة تحمل الإنسان على التقدم، ولكن تحتاج إلى ضبط وميزان ).[4]
وبذلك تكون العواطف مبنية على دليل شرعي، وأن أي: عاطفة تزم بزمام العلم الشرعي، فإنَّ صاحبها متى ما تبيَّن له أنا لحق خَّلاف ما هو عليه نسف تلك العاطفة، ورجع إلى عين الحق .ِّ
وكم من عواطف جياشة متدفقة وغيرة مندفعة لم تزم بزمام العلم الشرعي لاشك ولا ريب أن أصحابها كانوا على خير، وأنهَّم يريدون الخير، وأنَّ مقاصدهم طيبة، وأنَّ نياتهم سليمة؛ لكن كل هذا لا يشفع لصلاح العمل، العواطف بلا علم تنقلب عواصف .[5]
عندما تتغلب العاطفة على التأصيل فالنهاية هلاك وخسران وتضليل
أي إنسان على وجه الأرض، إذا أراد الوصول لأهداف خاصة ومصالح وقتية زائلة، يكون منطقه بالحديث والكلام استنفار عاطفة الآخرين بعيدا عن الإنصاف والعقل والحكمة والمنطق وحقائق الأشياء، وعندها يقينا يهلك هو ومن تبعه وتكون العاقبة خسران مبين.
وقد قص الله سبحانه وتعالى قصة فرعون وقومه، التي فيها العبر والعظات لمن تأمل وتدبر، وكيف كانت نهايتهم بسبب الخطاب العاطفي الفرعوني لقومه وتصديقهم لذلك، يقول سبحانه ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ )[6]، فاستثار عواطفهم وهيّج دواخلهم وقلب الحقيقة فما أنصفهم، وضللهم بأن موسى يريد تغيير دينهم، مع أن دين موسى هو الحق، وأفهمهم أن موسى يريد الفساد في الأرض، مع أن العكس هو الصواب، وبالمقابل استعمل قوم فرعون نفس الأسلوب، قال تعالى عنهم ( قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ )[7]، ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ )[8]، فماذا كانت النهاية ؟! ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى )[9]، ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ )[10]، ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ )[11]، ( كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ )[12].
بالمقابل لنأخذ مثل آخر قصه الله علينا، من حيث استخدام العقل الراجح والعاطفة المنضبطة في خطاب الأتباع، والإنصاف في إطلاق الأحكام حتى مع الأعداء، والأعجب من ذلك أن هذا الموقف صدر من امرأة، فخلد الله ذكرها وسيرتها وكانت عاقبتها الفوز والفلاح، يقول سبحانه عن بلقيس ملكة سبأ عندما بلغها كتاب سليمان عليه السلام ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ )[13]، فما استهانت بكتاب سليمان ووصفته بأنه كتاب جليل المقدار، ولم تستخف بمضمونه ولم تتكبر أو تنفرد برأيها، بل جمعت كبار مملكتها، ولم تحرضهم على سليمان بعاطفة فارغة مع أنه عدوا لهم فيما يظهر، وتركت إيجاد الحل الأمثل والتفكير المستقل لهم، حتى تكون النتيجة منضبطة والمآل محمود.
ثم قالت لهم (مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ )[14]، أي: ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم[15]، ثم قالوا ( نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ )[16]، وبعد حوار تأصيلي هادئ، وعدم الانجرار والاندفاع والعاطفة واتخاذ قرار حكيم، كانت النتيجة إسلام بلقيس مع سليمان عليه السلام ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[17]، وضحّت بملكها وانضمت للحق الذي وجدته مع سليمان، لأنها لم تفكر أو تأخذ الموضوع بعاطفة مجردة فلنعتبر من هذه القصة.
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ تضيع الشريعة ويُتحاكم إلى غير ما أنزل الله، فتصبح السنن بدعا والبدع سننا، والخرافات دينا، وتقوم النفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل[18]، ويزداد تمسك الناس بالخرافات وتهاونهم بالشرعيات.
قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون لو تمسك الناس بالشرعيات تمسكهم بالخرافات لاستقامت أمورهم.[19]
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يختلط الحابل بالنابل، وتضييع الأمور بين حيص بيص، وتتغير المفاهيم، وتنقلب الموازين، وتكثر الآراء وتزداد الأهواء، ويصبح الحق باطلا والباطل حقا، ويتكلم حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام، بقضايا الأمة العظام ولا يفرقون بين الألف واللام، ويتجلى حينها قول نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ( سيأتى على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون فيها الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة . قيل : و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه ، يتكلم في أمر العامة )[20].
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ تصبح الحزبية ظاهرة صحية، والتعددية حقيقة واقعية، والجمعيات الخيرية شركات تجارية، بغض النظر عن المعتقد والسلوك والأخلاق الأبية، ودعوة المسلمين لجماعة واحدة تعتبر رجعية، واتباع منهج السلف الصالح تسمى أصولية، والمطالبة بتحكيم الشريعة الإسلامية يصفونها بالعنصرية، والمناداة بالدولة المدنية تُمسي مطالب جماهيرية، والديمقراطية المزعومة تصبح حلول جذرية!! وربنا سبحانه وتعالى يقول ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )[21]، ويقول عز وجل ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[22].
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يكون المقياس للأكثرية، والحق مع الغالبية، والحكم للجماعة القوية، وعندها تتعدد الرايات، وتكثر الشعارات، وتُنَمّق العبارت، وتزركش الكلمات، ويركض الناس خلف اليافطات، حتى لو ملئت بالإلحاد والكفريات، نعوذ بالله من البليات!!
يقول ربنا سبحانه( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )[23]، ولهذا قال الآلوسي: ما ضَرَّ النبي قلة أتباعه، ولا العالم قلة تلاميذه، فإياك واليأس.
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يتصدر الوصوليون والانتهازيون والمتلونون، ويكثر المثبطون والقانطون والمتشائمون، ويرتقي المتصيدون والمتسلقون والمنتفعون، حتى يُمسي الرجل المناسب بعيدا عن المشهد والعيون، ويصبح بالواجهة من بكلامهم يتشدقون، ويعتقدون أنهم سياسيون محنكون وبآرائهم متمسكون، ولا شيء من الدين يفقهون، حتى ضاعت الحقوق وتنازل المتنازلون!!
قال أبو وئل: لما قدم سهل بن حنيف من صفين، أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله عليه الصلاة والسلام أمره لرددت، والله ورسوله أعلم.[24]
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يتصدر أنصاف بل أرباع العلماء، ويُغيّب الربانيين الفقهاء، ويُفتي في الأمور العظام الجهلاء، ويصبح الدين تبعا للأهواء، ولا يسمع حينها للعقلاء، ويكثر التعالم والشهرة وتزكية النفس وحب الرياسة والرياء، وكأن لسان حالهم يقول: ها نحن هنا وغيرنا لا يفقهون الأشياء!!
عن ابن المبارك، قال لي سفيان – أي الثوري - : إياك والشهرة، فما أتيت أحدا إلا وقد نهى عن الشهرة[25]، وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله عبد أحب الشهرة[26].
ومن طريف ما يُذكر في هذا المقام، أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- دخل السوق وإذا برجل يفتي الناس وهو جاهل ويقص على الناس وهو جاهل، فقال علي: من أنت، قال علي: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: من أنت؟ قال أنا أبو يحيى. قال: أنت أبو اعرفوني. ثم طرده من السوق.[27]
كَانَ حَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ لاَ يَحضُرُ الجَمَاعَةَ، فَقِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَحضُرُ مَسْجِدَكُم حَتَّى يُزَاحِمَنِي فِيْهِ الحَمَّالُوْنَ وَالبَقَّالُوْنَ. وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ الحَجَّاجَ بنَ أَرْطَاةَ قِيْلَ لَهُ: ارْتفِعْ إِلَى صَدْرِ المَجْلِسِ. فَقَالَ: أَنَا صَدْرٌ حَيْثُ كُنْتُ. وَكَانَ يَقُوْلُ: أَهْلَكَنِي حُبُّ الشَّرَفِ.[28]
فمن الجهالة بمكان أن لا نفرق بين العالم وغير العالم، إذا قال إنسان قصيدة شعرية مؤثرة جعلهم يحبونه الناس هو المفتي وهو المنظِّر وهو المؤصِّل، أو ارتقى الخطيب لفصحاته وخطب خطبة كما يقال قوية جعله الناس أو جعله بعض من يجهل التأصيل الشرعي لصفات العالم، جعلوه القدوة، والمنظر، والمقرر، وطلبة العلم أولى الناس بالتباعد عن هذه الأمور وبتبيينها للناس.[29]
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يصبح التهور شجاعة، والتأني ضعف، والتروي انهزامية، والحلم سذاجة، والتعنت حصافة، والحكمة في التصرف جُبن، والفوضى والعشوائية تقدم ورقي، والعدو صديقا، والناصح عدوا، وركوب الموجة مصلحة عليا، والسكوت عن الحق ضرورة عصرية، وتقليد الآخرين – بمعزل عن الشرع- تطور وتحرر، ويُقدم سوء الظن على حسن الظن!!
وقد قال عليه الصلاة والسلام( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ).[30]
يقول أحمد بن بقي بن مخلد: التأني أخلص.[31]
وعن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو والمغيرة وزياد، فأما معاوية: فللأناة والحلم، وأما عمرو: فللمعضلات، والمغيرة: للمبادهة، وأما زياد: فللصغير والكبير.[32]
عن مالك قال: بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى، إلا نطق بالحكمة.[33]
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يتشبث كلٌ برأيه، ويندثر التواضع والاعتراف بالخطأ، ويندر قبول الحق من المخالف ورد الباطل من الموافق، وتزداد المجاملات على حساب الدين، ويصبح قبول الحق ثقيلا، والخوض بالباطل مستساغا، ويُتعصب للقبيلة والعشيرة والطائفة والقرابة والحزب على حساب الدين، ويكثر الغرور، ويفشو التكبر والاستعلاء على الآخرين، ويظهر المداحون لأنفسهم، ولا تُقبل النصيحة، وتُتبنى الآراء اعتقادا بعيدا عن الاستدلال، ويعرف الحق بالرجال!!
مع أن الأصل: اعرف الحق تعرف أهله، ولا يعرف الحق بالرجال، والحق أن تستدل ثم تعتقد، لا تعتقد ثم تستدل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام له: ومن النَّاس من إذا أحَّب شخًصا تغاضى عن جميع سيئاته، ومنهم من إذا أبغض شخصًا تغاضى عن جميع حسناته، وهذا من أعمال أهل البدع من الخوارج والجهمية والمعتزلة[34].
قال مالك: إن الرجل إذا مدح نفسه ذهب بهاؤه.[35]
قال عبد الله بن مسعود: الحق ثقيل مرئ، والباطل خفيف وبئ، ورب شهوة تورث حزنا طويلا.[36]
وقال كذلك رضي الله عنه: ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بغيضا، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيبا قريبا.[37]
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ تضيع الأعمار، ولا يصبح للوقت قيمة، وتضعف الهمم، وتوهن النفوس، ويقل العمل، ويكثر القيل والقال، وتخفت البصيرة، حتى يصبح القول والعمل بلا علم، وتزداد الفتن، حتى يصبح الحليم فيها حيران، ويكون النظر في النوازل بعين البصر لا البصيرة، ويكثر التصدع والتفرق والتشرذم، ويزداد التشبث بالماديات والحرص على الحياة، ويضعف الإيمان بالقضاء والقدر، والتسليم المطلق لأمر الله.
وقد قيل: عند النوازل تذهل النفوس عن النصوص.
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يخوض الناس فيما ليس لهم به علم، ويُفتي الصغار، ويُنظِّر ويتصدر الجهال، ويُعوّل على غير العلماء الراسخين، ويُسند الأمر لغير أهله، ويُطلق للسان العنان، وتنفلت في الكتابة الأقلام، ويتسارع الناس بإصدار الأحكام، بمجرد الهوى والظن والأوهام!!
وربنا سبحانه يقول( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )[38]، أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله[39].
وقال بعض السلف ليتق أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم كذا فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه أحله الله وحرمه الله لمجرد التقليد أو بالتأويل.[40]
ومن مأثور كلمات أهل العلم: من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب.
وعندما تتغلب العاطفة على التأصيل؛ يكثر الطعن بالعلماء الأصلاء، ولا يلتمس لهم العذر، وتلتمس الأعذار لمن دونهم بالعلم والورع والتقوى، وتكثر الأهواء، وتزداد الوقيعة بين المسلمين وعلمائهم.
إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى *** فإن فطام النفس عنه شديد
نسأل الله أن يرزقنا، علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يسدد فهمنا، ويقوي عزيمتنا، ويهدينا سواء السبيل.
أيمن الشعبان
27/5/2011
"حقوق النشر محفوظة لموقع " فلسطينيو العراق" ويسمح بإعادة النشر بشرط ذكر المصدر"
[1] ( الأنعام: 38).
[2] ( النساء: 165).
[3] ( المائدة: 48).
[4] سلسلة اللقاء المفتوح ش66ب.
[5] وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة، عبد العزيز السدحان ص41.
[6] ( غافر:26 ).
[7] ( الأعراف:109 ).
[8] ( الأعراف:127 ).
[9] ( طه:79 ).
[10] ( الأعراف:130 ).
[11] ( الأعراف:127 ).
[12] ( الأنفال: 54 ).
[13] ( النمل:29 ).
[14] (النمل:32).
[15] تفسير السعدي.
[16] ( النمل:33).
[17] (النمل:44).
[18] ينظر كتاب الفوائد لابن القيم ص48-49.
[19] الآداب الشرعية"، ابن مفلح (3/225) ت: الأرنؤوط.
[20] السلسلة الصحيحة رقم 1887.
[21] (المائدة:50).
[22] (يوسف:40).
[23] (يوسف:103).
[24] سير أعلام النبلاء (16/43).
[25] سير أعلام النبلاء (7/260).
[26] المصدر السابق (7/393).
[27] شرح الأربعين في التربية والمنهج، عبد العزيز السدحان.
[28] سير أعلام النبلاء (7/74).
[29] المصدر السابق.
[30] صحيح البخاري.
[31] سير أعلام النبلاء (15/83).
[32] المصدر السابق (3/58).
[33] المصدر السابق (8/109).
[34] نقلا من " وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة، عبد العزيز السدحان ص 31.
[35] المصدر السابق (8/109).
[36] حلية الأولياء ( 1/134).
[37] المصدر السابق.
[38] ( الإسراء:36).
[39] تفسير السعدي.
[40] إعلام الموقعين (1/39).