بقلم: د. عصام الخضرا
مازال معظم الكتاب والمؤرخين العرب يعالجون القضية الفلسطينية بإسلوب دراماتيكي مشحوناً بالعواطف والمغالاة، كما فعل اسلافهم في تعاملهم مع مأساة الأندلس يتباكون عليها حتى يومنا هذا.
بيد أن نظرة إلى عدد المهجرين والمبعدين عن ديارهم في العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، نجد أنه تجاوز عددهم المائة مليون نسمة، ولم يحظ أياً منهم بالتعاطف الدولي الذي حظى به الفلسطينيون اليوم، الذين اتكلوا على العاطفة، متجاهلين العقلانية بالتعامل مع واقع العالم المتغير والمستجدات السياسية على الساحتين العربية والدولية، فيما يبقى العارفون منهم غير قادرين على التعامل مع القضية وعاجزين من تفكيك عقدها المستديمة، حتى اصبحوا اليوم يستجدون عُشر ما قُدم لهم منذ أكثر من ستين عاماً !
ورغم مرارة فاجعة النكبة وما آلت إليه، تجعلنا أن ننظر إليها من زاوية نستطيع أن نسميها بإيجابيات النكبة على الشعب الفلسطيني في الغرب، رغم الذُّل والمعاناة اللذين تعرض لهما هذا الشعب على يد المحتل الإسرائيلي، والأنظمة العربية بشكل عام، وفي دول الجوار بشكل خاص.
لبنان، وبعد ستين عاماً لم يتمكن الفلسطينيون هناك من الحصول على إذن للعمل! ناهيك بالوقوف ضدهم ومن تمكينهم في الإنخراط بالمجتمع اللبناني، رغم أن لبنان اليوم ماهو إلا بقايا الدولة الكنعانية بعاصمتها القدس بعد الغزو اليهودي لها عام 1200 ق م. وسميت وقتها بالدولة الفينيقية واتخذت صورعاصمة لها، وسقطت الأخيرة على يد اسكندر المقدوني عام 330 ق م.
العراق، اليوم هناك آلاف المشردين على يد أبناء دينهم وقوميتهم، يعيش منهم المئات على الشريط الحدودي الأردني السوري، حيث لا يسمح لهم بدخول مزارع أصحاب هذه الدول. وكما صرحت الوكالة الدولية لشؤون الاجئين أن "هناك أكثر من 1450 فلسطينيًا هربوا من العراق، وظلوا محتجزين على الحدود السورية العراقية في ظل ظروف في غاية الصعوبة"، مشيرة إلى أن عدد الفلسطينيين اللاجئين في بغداد وحدها يصل إلى 15 ألف فلسطيني، وذلك بحسب إحصائيات نشرت لاحقا، وأنهم عرضة للاعتداءات والمضايقات. أما عن معاناة هذا الشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهو بادي للعيان سواء على يد المستعمر، أو على يد القائمين على شؤونهم من أبناء جلدتهم.
ويبقى قانون حظر الجنسية على فلسطينيين المطبق في الدول العربية، الذي يقف عائقا في وجه الجاليات الفلسطينية هناك، رغم تداخلهم في النسيج المجتمعي كحالات الزواج لأكثر من جيلين، وتأسيس الأعمال والمشاريع في بعض الدول العربية والخليج خصوصا. ومن هنا لا بد من اعادة النظر في هذه القوانين، وتقديم الدعم لهذه الجاليات، الذي كان عطاءهم لهذه الدول مثل عطاء أبناءه.
ويذكر المستشار النمساوي السابق برونو كرايسكي في كتابه "بين حقبتين"، أنه خلال زيارته لسوريا، التقى بالسيد عبد الحليم خدام، وقتها كان يشغل منصب نائب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، واثناء نقاشهما في القضية الفلسطينية، طرح خدام السؤال الكلاسيكي على المستشار كرايسكي:
ماذا يفعل لو كان كرايسكي بمكان الفلسطيني؟ فأومأ المستشار إلى اهمية قراءة التاريخ، وافهم خدام "أن بعد الحرب العالمية الثانية طرد قرابة العشر ملايين الماني من تشيكوسلوفاكيا، وبولونيا، واستقبلتهم النمسا، وكان المستشار المتحدث معك الآن بينهم ! وهكذا تتعامل الدول مع مشاكل تعجز عن حلها بقوة السلاح".
لكن في الغرب يختلف الوضع لجيل الهجرة الأولى عما عليه في الشرق، فبعد كل هذه المآسي والإخفاقات، استطاع هذا الشعب المكافح أن ينهض، وقدم هذا جيل الكثير من التضحيات، وتمكن من الإعتناء بأبنائه تعليمياً، حتى اصبحت نسبة الأكاديميين منهم من أعلى النسب في العالم، وظهرت شريحة منهم تتمتع بالرخاء المعيشي، يحسدهم عليها أبناء الدول المضيفة لهم. ففي تشيلي على سبيل المثال، تجاوز عدد المهاجرين الفلسطينيين الربع مليون، وتعتبر جاليتهم من اغنى الجاليات المقيمة هناك، كما ان بعضهم انخرط في العمل السياسي، واصبح منهم نواب في البرلمان ورؤوساء بلديات. وفي سابقة تاريخية اخذت على عاتقها هذه الجالية، وبعد الضغط على حكومة تشيلي، وبالتنسيق مع منظمات أممية، باستقبال دفعتين من فلسطينيي العراق، الذين نالت منهم حكومة العراق الجديدة بعد سقوط الرئيس العراقي صدام حسين، إثر الغزو الأميركي للعراق، وبعد أن رفضت جميع الدول العربية استقبالهم والتخفيف من معاناتهم ! حيث شاركت رئيسة جمهورية تشيلي الدكتورة ميشيل باتشيليت شخصيا بإستقبالهم. وكذلك حال الجالية الفلسطينية في البرازيل، والتي استقبلت الأخيرة ايضا افواجا فلسطينية من العراق.
أما في اميركا، فقط تجاوز عددهم النصف مليون فلسطيني. وكان لبحبوحة العيش، والبيئة الديمقراطية هناك، فرصة لتوفير حياة كريمة لأبناء هذه الجالية والنهل من فرص التعليم المتاحة للجميع. والشىء نفسه يمكن أن نلاحظه في أوربا، رغم ضآلة الجالية هناك، فإن معظمهم يتمتع بمهن أكاديمية ومكانة اجتماعية في المجتمعات الأوربية.
أما في الشريط الأخضر داخل اسرائيل ورغم عنصريتها، يتمتع الفلسطينيون هناك بمستوى معيشي لا يمكن مقارنته بمستوى حياة أي فرد عربي من دول الجوار، ذلك أن معدل دخل الفرد السنوي في اسرائيل يتجاوز العشرين الف دولار، بينما لا يتعدى مستوى الدخل في دول الجوار وفي أفضل حالاته عن ألفي دولار سنويا. لكن من المؤكد فيما لو توفر واتيح لهذا الشعب الأمن والإستقرار في القطاع والضفة، سيتمكن هذا الشعب وبكل جدارة كماعرف عنه من النهوض بالإقتصاد والتمتع بحياة تخفف عنهم وطأة الذل والبؤس والمعاناة التي يواجهونها كل يوم.
تبقى قلة قليلة من فلسطينيوا المهجر هي التي تفكر بصورة جدية إلى العودة والإستقرار في فلسطين، التي لا تبلغ مساحتها مساحة بلجيكا، مقطّعة أوصالها ومرمية على أطراف اسرائيل، وتغص بأكثر من تسع ملايين نسمة، ولا ادري إن كانت ستتوفر لهم فرص العمل والحياة الكريمة كما اعتادوها في المهجر؟
لا نبالغ إذا قلنا أن المخطط الإسرائيلي سائر قدماً في ظل حكومات عربية عاجزة حتى عن تقديم لقمة العيش لأبنائها، ناهيك عن غياب الحقوق الإنسانية وتدني الحياة المعيشية هناك. فهل بإمكاننا أن نعوّل يوما على هذه الدول بحل قضية الاجئين الفلسطينيين؟
د عصام الخضرا
طبيب فلسطيني مقيم في فيينا- النمسا
13/10/2009