وليس المراد من الزهد رفض الحياة الدنيا بما فيها، فهذا معنى خاطئ للزهد، وإنما الزهد الحقيقي ترك ما يشغل عن الله من أمور الدنيا، أما ما كان عوناً على طاعة الله، وقام العبد بحق الله تعالى فيه فتركه من الرهبانية التي لم تأت بها شريعة الإسلام، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان أزهد الناس في الدنيا، فمن اتبعه فهو الزاهد على الحقيقة، وقد كان صلى الله عليه وسلم - مع زهده- يتزوج النساء، ويقوم بحق أهله، ويُجْلَب له الماء البارد، ويُحب الحلوى والعسل، ويأكل طيّب الطعام إذا وجده، ويصبر إذا فقده، وغير ذلك مما هو معلوم من سيرته صلى الله عليه وسلم.
معنى مذموم للزهد:
وللزهد معنى آخر، لكنه مذموم، يشير إِليه الإمام الفضيل بن عياض- رحمه الله تعالى- عندما قال له أحد الخلفاء: ما أزهدك! فقال الفضيل: أنت أزهد مني؛ لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهدت في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني، وأنت زاهد في الباقي، ومن زهد في درّة أزهد ممن زهد في بعرة، فاحذر يا أخي المسلم أن تكون ممن زهد في الآخرة.
مراتب الزهد:
للزهد ثلاث مراتب، هي:
أ- الزهد عن الحرام، وهذا زهد واجب.
ب- الزهد في المكروهات، وهذا النوع من الزهد مستحب.
ج - الزهد في فضول المباح، كالزهد فيما لا يعني من الكلام، والسؤال، ونحو ذلك، وهذا الزهد من الكمال، لأن هذه الأشياء لا نفع فيها.
د- الزهد فيما سوى الله تعالى، وفي كل ما يشغل عنه، وهذا كمال الزهد.
صور من زهد النبي صلى الله عليه وسلم:
يمثل النبي صلى الله عليه وسلم الحال التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في الدنيا بقوله: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى واقعاً في نفسه، ومن الأحاديث الدالة على ذلك:
أ- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً، فقال: «مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها».
ب- عن عمر رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست فأدنى عليه إزاره -وليس عليه غيره-، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قَرَظًا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق. قال عمر: فابتدَرَت عيناي، قال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب» قلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته، وهذه خزانتك. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب، ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟» قلت: بلى، والمراد بالقرظ: ورق السَّلم، والأفيق: الجلد الذي لم يتم دباغه.
ج- لم يكن من هم النبي صلى الله عليه وسلم الاستكثار من الدنيا، فإنه كان يجوع يومَاً ويشبع يوماً، ولقد أصابه ذلك وأصحابه الكرام مرات عديدة، وإليك هذه الصورة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً، وأهلاً، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. قال: فانطلق، فجاء بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب، فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا. فلما أن شبعوا وَرَوُوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم».
اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادة:
أما عن عبادته صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الغاية في العبادة، وهو القدوة المطلقة صلى الله عليه وسلم، وكان يتعبد لله تعالى بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، فهو سيد المتعبدين، وقدوة الصالحين، صلوات الله وسلامه عليه، ومما يدل على ذلك:
أ- عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورا».
ب- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم.
المصدر منبر اهل اليمن