التخذيل المُقَنَّن! أيمن الشعبان

بواسطة قراءة 6031
التخذيل المُقَنَّن! أيمن الشعبان
التخذيل المُقَنَّن! أيمن الشعبان

التثبيط والتخذيل والتكسيل ووضع العراقيل، من صفات أهل الزيغ والنفاق، الذين ينظرون إلى الأمور نظرة مصلحية انتفاعية مؤقتة، غير مراعين المصالح العامة والنتائج الكلية الشاملة، دون أدنى استعداد لبذل الوقت والجهد والمال والمشورة والنصيحة، إلا ما يخدم أهوائهم ويعود عليهم بالنفع المحض!

بين الله سبحانه وتعالى حال هذا الصنف من الناس في غزوة تبوك، وكيف خذَّلوا غيرهم بأسلوب الناصح الأمين، قال سبحانه على لسان المنافقين ( وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ )[1]، أي لإخوانهم تثبيتاً لهم على التخلف والقعودِ وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العللِ الداعيةِ لهم إلى ما فرِحوا به من القعود[2]، وَالتَّثْبِيطُ: التَّعْوِيقُ عَنِ الْأَمْرِ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ بِالتَّكْسِيلِ أَوِ التَّخْذِيلِ.[3]

قبل سنوات كان التخذيل والتثبيط وعرقلة البرامج الدعوية والأنشطة العلمية، حالات فردية هنا وهناك من بعض الدعاة والمنتسبين للعلم، بحجج ظاهرها الحرص والنصيحة وبُعد النظر، لكن حقيقتها ونتيجتها انتكاسات متكررة، وتراجع واضح لتلك الجهود، والسبب " التخذيل المقنن"!

التخذيل عن فعل الخير وما يعود على الأمة بالنفع من صفات الشيطان، قال تعالى ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا )[4]، وخَذُول صيغة مبالغة من خاذل، وهو الذي يجعل الشخص المقدم على أمر يتردد فيه ولا يفعله، والمراد هنا هو التخذيل عن فعل الخير، وسلوك الطريق الأقوم، والأهدى سبيلا.[5]

مع مرور الوقت ومن خلال لقائي مع العديد من الدعاة وطلاب العلم هنا وهناك، والنقاش العميق والتحليل الدقيق لما آلت له أحوال كثير من أصحاب الهمم العالية والمثابرة في خدمة هذا الدين، تبين أن سبب أساسي لهذه النتيجة هم أصحاب التخذيل المقنن!

قد تطرح على أحدهم – من المعنيين- برنامج دعوي أو مشروع توعوي أو فعالية علمية، أو حتى فكرة وجهد متواضع، يساعد في إحياء الجانب الدعوي وتنمية المواهب العلمية، وتذكير المسلمين بواجباتهم وتحذيرهم مما هم فيه من منكرات ومخاطر، مما يحتاج لها المجتمع لتجاوز الفتن والمحن التي يمر بها، فتصعق بالنتيجة والجواب!!

الناس في غفلة وغير مهيئين.. الواقع لا يساعد.. التقلبات والاضطرابات تحتم علينا تأجيل ذلك.. لن تجد من يتفاعل معك.. الوقت غير مناسب.. وغيرها من عبارات التحطيم والتكسير والتكسيل والتخذيل المقنن! هي إجابات ذاك المستشار النحرير.. والعالم الكبير.. والمفكر الخطير! الحريص على الأمة.. ومن شدة حرصه على الدعوة والدعاة ينتقي هذه العبارات! لتثبيطك وكسر عزيمتك من الداخل – ليس إلا – بحجة المصلحة وفقه الواقع والأولويات، إنه التخذيل الناعم المقنن!

التخذيل المقنن – للأسف الشديد- أصبح ظاهرة، استحوذت على قرارات عدد من الدعاة، والبعض يتقلد مراكز ومناصب قيادية وظيفية أو مؤسسية أو حتى اجتماعية، مع أنهم في قرارة أنفسهم يقنعون الآخرين أنهم من أحرص الناس على الدعوة وأهلها، وما اتخذوا هذه القرارات أو وجهات النظر إلا حفاظا على العمل الدعوي ومصلحته!

المتأمل في الأسباب وراء هذا التخذيل وارتجال الآراء والمواقف بهذه الطريقة؛ يجد لحظوظ النفس الصدارة، ثم الانكباب والتمسك المقدس! لمشروع الذات ونسبة العمل لشخصه المصان ومكانته الكبيرة! وإحسان الظن بعقليته وعلميته ومكانته، وأنه " أتى بما لم يأت به الأوائل"!

التشاكس والتصارع بين الأقران، إما على المناصب! أو المزاجية المقيتة والعنصرية المميتة، أدت لإضعاف العديد من المشاريع الدعوية في المؤسسة الواحدة، فضلا عن الجهود الفردية، مما انعكس ذلك سلبا على جهود كثير من أصحاب الهمم والباذلين لأوقاتهم وجهودهم بل وأموالهم لنصرة قضايا الأمة!

من عجائب التوصيفات – في واقعنا المرير- أن عددا من هؤلاء، في بداياته حمل همّ الدعوة وكانت له جهود طيبة، لكن عندما تقلد منصبا أو مركزا ما في مؤسسة رسمية أو مجتمعية علمية .. دعوية .. خيرية.. وقفية.. تنموية، صار محمولا على الدعوة لا حاملا لها، وارتضى بتثبيط وعرقلة أصحاب الهمم عن برامجهم، خوفا من منافسته أو الاقتراب من مكانته المرموقة، لأنهم يعملون ويحملون هم الدعوة، وهو متربع على عرش المنصب وتحمله الدعوة!

ذكر القاضي ابن العربي المالكي وصف عجيب لبعض أهل الأهواء، قد ينطبق على بعض المخذِّلين يقول: ومنهم من يأتي بهيئة الناصر، ومذهبه التخذيل، وينتدب هاديا، ومقصده التضليل، والحق قليل.[6]

الفئات التي اعتادت التخذيل والتثبيط والتكسيل، وبث روح التردد والتقهقر والقعود؛ كثيري التنظير والعبارات الرنانة واقتناص فرص الظهور والشغف الإعلامي، قليلي العمل ومشاركة الآخرين في برامجهم ومشاريعهم واستشعار همومهم، فالقضية غير مرتبطة بالعلم، إنما من أمراض القلوب وضعف التربية، ورحم الله عبد الله بن المبارك إذ يقول: نحن إِلَى قليل من الأدب أحوج منا إِلَى كثير من العلم.[7]

صاحب عقلية التخذيل الناعم المقنن! يظن نفسه على صواب وحق وخير، لأن مكانته تؤهله لذلك، فالخطأ بعيد عنه، فهم بحاجة لتواضع ونكران الذات والتحلي بأخلاق الكبار وعلى رأسهم الجيل الفريد من الصحابة الكرام، كيف كانت أحوالهم وسيرتهم في التحفيز وتشجيع الآخرين في عمل الخير.

قد يكون هنالك بعض التعديلات أو التصويبات في البرامج المقترحة والمطروحة، لكن هذا لا يبرر شطب وتعطيل برنامج فيه خير ونفع، إنما الإنصاف يقتضي التشجيع والتحفيز أولا، ثم التوجيه والإرشاد بحكمة ثانيا، ثم المشاركة وتقديم المعونة لإنجاح هذا الجهد.

بعض التخذيل يكون عن قصد من خلال تلك المبررات التي ظاهرها النصح والحرص، فهذا شابه أحوال وصفات أهل النفاق وعمل الشياطين عياذا بالله، ونحسن الظن بغالبية الدعاة وطلاب العلم أنهم بمنأى عن هذا الصنف.

صنف آخر عُرفوا بلسان حالهم ومواقفهم بالتخذيل، ليس قصدا بعرقلة الدعوة أو إعاقة الجهود، لكن لهوى في النفس وحب الذات والظهور، وحرصا على مناصبهم ومكانتهم، واهتمامهم بتمرير البرامج من خلالهم وطلب المحمدة لهم والثناء عليهم دون غيرهم، لكن النتيجة "التخذيل المقنن والتكسيل الناعم" وإعاقة كثير من البرامج الدعوية والعلمية وغيرها!

على المسلم أن يتجاوز هذا الصنف من الناس، ويتعامل معهم بحكمة وروية وهدوء، بعيدا عن الصدام والمواجهة العلنية المفتوحة، لسرعة انتقامهم وانتصارهم لذواتهم، وينبغي امتثال التوجيه الرباني ( وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ )، فلا تلتفت لهم وامض في طريقك وبرنامجك ومشروعك الدعوي، وابذل ما بوسعك في إيجاد بدائل متجاوزا هذا الصنف من الناس، مع السعي الحثيث لنصحهم إن تيسر.

فابذل الجهد واستحث المطايا * إن صنع النجاح ليس مزاجاً 
ليس من يعمر البلاد بزيف * مثل من يعمر البلاد نجاحاً

 

2/1/2016م



[1] (التوبة:81).

[2] تفسير أبي السعود.

[3] تفسير المنار (10/407).

[4] (الفرقان:29).

[5] زهرة التفاسير (10/5272).

[6] العواصم من القواصم ص114.

[7] الرسالة القشيرية (2/447).