ها هي البرازيل تقرر وضع حد لمأساة آخر الفلسطينيين العالقين في مخيم رويشد على الحدود الأردنية العراقية ، إذ قررت استقبال الدفعة الأخيرة منهم (حوالي مئة) ، فيما كانت كندا ونيوزيلندا قد استقبلتا دفعات سابقة خلال الأعوام الماضية. كتبنا مراراً عن ذلك المخيم وسكانه الفلسطينيين البائسين ممن فروا من اضطهاد مليشيات عبئت بالحقد على كل ما هو عربي بوصفه من أنصار صدام حسين. وفيما كان الأصل أن ينضم هؤلاء إلى إخوانهم هنا أو هناك في أي بلد عربي ، فقد ضاقت بهم الأرض بما رحبت.بقي القوم عالقين على الحدود يتلقون المعونات من قبل المؤسسات الدولية ، المخيم عاش حكايات عديدة مع الموت والبؤس ، كان أشهرها موت الطفلة آية عوني إثر حريق أتى على سبع من خيام المخيم. لم يخل المخيم في المقابل من مفارقات عجيبة تؤكد قدرة هؤلاء الناس على صناعة الفرح والحياة رغم البؤس والقهر ، فقد تزوج شابان وفتاتان وولد ثلاثة أطفال ، بينما كان الموت بالمرصاد لأحد رجاله الذي تقول أمه إنه مات بعد أن علم أن اسمه لم يرد بين أسماء الراحلين إلى كندا.
هكذا إذن يرحل آخر العالقين إلى البرازيل ، وكلهم أمل في حياة جديدة تنهي مسلسل الذل الذي عاشوه خلال الأعوام الأخيرة منذ حط غراب الاحتلال على بغداد ، فأي أمل في رحلة من هذا النوع؟، للبرازيل في وعي الفلسطينيين حكاياتها القديمة ، هي التي استقبلت نفراً من شبابهم خلال الخمسينات والستينات يوم كانت بعض المنظمات الدولية توفر الهجرة لهم على بطاقة المؤن الممنوحة من قبل وكالة الغوث لي شخصياً معها قصة أيضاً ، فلي فيها عمّ ، هو شقيق والدي الوحيد من أمه وأبيه ، وقد رحل إليها نهاية الخمسينات ، وكان شاباً صغيراً لم يكمل العشرين بعد ، وبقيت جدتي تبكيه حتى وفاتها يرحمها الله ، إذ انقطعت أخباره منذ عام 67.
قبل ذلك بقليل بعث لأمه بحوالي مئة دينار كي تحج بيت الله الحرام ، وكانت آخر تواصل معه ، كما كانت حوالته الوحيدة التي لم تحمل أمه إلى الديار المقدسة ، بل كانت ثمناً لبيت من الزينكو وبسطة خضار صغيرة لأخيه في مخيم الوحدات إثر الرحيل الثاني عام 67 ، أما الأم فذهبت إلى ربها قبل أن يسدد ولدها الدين فيحج عنها بعد 14 سنة.منذ ذلك الزمن توقف الرحيل إلى البرازيل ، باستثناءات محدودة ، وها هو يعود من جديد مع سكان مخيم رويشد ، وقد ينطلق في رحلة أخرى مع سكان مخيم البارد الذين ما يزالون يعيشون في المدارس في وضع يبدو أكثر بؤساً من أحوال سكان مخيم رويشد.
يحدث ذلك فيما يقال إن للفلسطينيين دولة ، بل دولتان ، ولهم رئيس واحد ورئيسا وزراء ، لم ينته موال البؤس والشقاء بعد ، فالهجرة والسجون وقذائف الموت ما تزال قدر الفلسطينيين من غزة إلى الضفة الغربية إلى نهر البارد وبغداد ، لكنهم قوم لا يعرفون اليأس والاستسلام وسيكون النصر حليفهم في يوم من الأيام.