تطل علينا يوميا أحداث كثيرة تثير فينا الألم والغضب والاستنكار والحزن، وقد تحرك في بعض الحالات داخل صفوف الشعب، وضمن مسيرة تحرير الوطن المحتل حتى القتال في غير موقعه الأساسي، أو تؤدي الى تبادل الاتهامات، وقد يجد المرء بصددها عذرا هنا، أو لا يجد عذرا هناك.
وعزاؤنا في كل الحالات مصدره ما يشاع عن وجود أصابع خفية على هامش المعركة الرئيسية والمشرفة تلعب وتفعل وتفتعل.
في كل الأحوال، ينبغي التمييز بين الحوادث المؤلمة، وبين تلك التي تثير الخجل وتجلب العار، وهذه الأخيرة هي الأشد وطأة ومرارة في مأساتنا العراقية، تلك المأساة التي صنعها وفاقمها الاحتلال وخدمه. واذا كانت المجموعة الأولى تثير الألم وتفرض النضال ضدها بكل أشكاله المشروعة، فان الثانية تثير الخجل والعار، وأعني تلك الأعمال التي تصيب ضيوف العراق، أي التي تصيب أهل فلسطين في العراق تحديدا.
رغم براءة العراقيين الحقيقيين منها، هي عار بكل المعايير، لأن هذاالنوع من الجرائم يمس أو يطعن مفهوم الكرامة الوطنية، الذي ظل أبد الدهر واحدا من المحركات الرئيسية لنضال شعبنا والشعوب الأخرى. واليوم تقاتل العولمة الامبريالية لدحرهذا المفهوم بكل الوسائل. واذا كانت الجريمة شأن من شؤون او اختصاص القضاء، وتعالج بالقضاء او بالعفو او بالمصالحة أو بغير ذلك، فان جرائم العار من اختصاص الضمير، والشؤون او القضايا التي تتعلق بالضمير لا تمحى أبدا، وانما تبقى عار وعبرة للاجيال.
أقول لكل الذين يريدون الحاق العار بشعبنا من خلال ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين الأبرياء انهم خائبون في هذا المسعى المشؤوم، نحن العراقيين نقول بكل تواضع: من عمال حيفا تعلمنا الاضرابات للدفاع عن الحقوق، وقد خدم في مدارسنا مئات المعلمين والأساتذة الفلسطينيين منذ نشأة التعليم العراقي الأولى، وان أول معمل للحلويات بني في الفلوجة وكذلك في البصرة كانا على أيدي رجلي اعمال فلسطينيين، وان بيوت الفلسطينيين في بيروت الرائعة ودمشق الجميلة كانت على الدوام ملاذا أمنا للأحرار العراقيين- وان كان البعض منا انتقل الى مواقع العبودية وربما الى صفوف من يحرض على قتل الفلسطينيين بعد الضيافة الكريمة- وللفلسطينيين أفضال كثيرة علينا عصية على الذكر والعد. وبالمقابل كانت بغداد العظيمة بيتا واسعا للفلسطنيين في أيام المحن، وان دماء العراقيين سالت الى جانب دماء اخوتهم الفلسطينيين على أرض فلسطين نفسها وفي الشتات، فلسطين التي تقاتل منذ قرن كامل لذات العدو الذي نقاتل، وتدفع ذات الثمن الذي ندفع.
نحن العراقيين نقبل الموت اذا دنى ولن نقبل العار ابدا. وعلى هذا الاساس نعيش الموت المعلن على يد الغادرين من كل صنف ونوع بصبر وصمت ومواجهة صلبة أيضا، ولكن نرفض ان يموت انسان واحد يحتمي بارضنا ووسط ابناء شعبنا، وهذه هي شيم العراقيين أبد الدهر، كل العراقيين الأوفياء.
وهذا هو شفيعنا في أن نجد متسعا للتضامن مع الاشقاء ونحن نعيش غلواء محنتنا. أنها مسألة شرف قبل كل شيء.ان القتل في العراق يستهدف شعب فلسطين كما يستهدف فقراء العراق: عمال المسطر في ساحة الطيران في قلب بغداد وكذلك في المحلات والأحياء الشعبية، خاصة في مناطق سكن الكادحين والفقراء.
ان هذا الشعب - شعب فلسطين- الصغير بعدده والكبير بعطائه أتحف الشعوب في البلاد العربية والاسلامية بالامجاد والبطولات، وأغنى ابداعاتها بالمساهمات الثقافية والفنية والعلمية: درويش وحبيبي والقاسم وكنفاني وشموط وقلق وبسيسو...والقائمة لا حصر لها، وان تجربته أخذت بعدا انسانيا مشهودا.
وفي اطار أزمة أو مذبحة الفلسطينيين في العراق وجه سفيردولة فلسطين في العراق نداءات استغاثة الى الحكومة العراقية العاجزة عن كل شيء الا عن استخدام مليشيات القتل، والى قوات الاحتلال التي تماهت الى درجة التطابق مع حكومة تل أبيب في الظروف الراهنة، وأحسب أن تلك النداءات ما هي الا ادانات لا تحتاج الى تأويل او تفسير.
وناشد السفير الفلسطيني رئيس جمهورية العراق المحتل السيد جلال الطلباني. وناشد أيضا السيد "مقتدى الصدر" عله يكف شر مليشياته أو لنقل توخيا للدقة، الذين ينتحلون صفة مليشيات "المهدي" عن أكبر ضحايا العصر الحديث الفلسطينيين والعراقيين.وبصدد مناشدة الفلسطينيين للطلباني أقول: لقد حذرت القيادات الكردية سابقا من مغبة الانسياق وراء الامريكيين، لأن الحليف الطبيعي للشعب الكردي في العراق هم اشقاؤه العرب والتركمان والكلدوآشور وغيرهم من بقية العراقيين، وقد أثار هذا التحذير بعض القوميين الاكراد المتطرفين، فبدلا من تلقي ملاحظة صديق لملايين الشعب الكردي في كل مكان، صديق مؤمن بالحق المطلق لهذا الشعب بتقرير المصير برحابة صدر، بالغوا أكثر فأكثر بالاتجاه الخاطئ الذي يضر بمصالح الشعب الكردي أولا وأخيرا.
عندما حذرت كنت أستند على التجارب التاريخية السابقة فقط، وتحديدا على تجارب الشعب الأرمني، ولكن لم يمضي مزيد من الوقت حتى جاء دليل الأولي عندما أرادت "واشنطن" أن توكل قيادة القوات الدولية في لبنان الى تركيا، ماذا كان الثمن المطلوب بالمقابل؟. كان الثمن في العراق.
وبعد ذلك جاء الدليل هذه المرة واضحا على صدق مقولتنا بأن القوى العظمى لا تهتم الا بمصالحها، وهي تخون الشعوب الصغيرة وحتى الكبيرة في أول منعطف على الطريق، ولا يبقى عندذاك للشعب الكردي الا حلفاؤه الثابتون، وهم أبناء الشعب العراقي من القوميات الأخرى. وهذا الدليل هو تقرير بيكر – هاملتون، الذي أثار غضب السيد جلال الطلباني، ودفعه الى تذكر سيادة الدولة العراقية، وكأنه نزل بقواته من السليمانية ليساهم في فرض الديقراطية في العراق والحكم الذاتي أو الفدرالية أو ما بعدهما في كردستان العراق العزيز.
وحاول السيد جلال في رد فعله الغاضب تذكير الامريكيين أيضا، بأن العراق ليس من جمهوريات الموز. وبهذه المناسبة أعبر عن احترامي لمواطني جمهويات الموز، لأن الفارق الهائل في القوة بين الدول الصغيرة والقوى العظمى ليس عارا على تلك الدول الصغيرة، بل هو عار على القوى العظمى، التي لا تحترم حق تقرير المصير للشعوب والدول الصغيرة، رغم اعتراف الجميع بأن حق تقرير المصير هو المعيار الحضاري العادل للجميع وعلى الجميع ودائما.طبعا، انا مع الاعترض على التقرير، ولكن ليس من منطلقات رئيس الجمهورية، التي لا يوجد فيها موز ولا حتى خبز، انا أكافح ضد الاحتلال جملة وتفصيلا، وأصلا، وليس ضد بعض افرازاته، وللتاريخ أقول لكل اعضاء الحكومات العراقية تحت الاحتلال: لولا المقاومة الباسلة لما اضطر الاحتلال الى تعينكم واعطائكم الرواتب الضخمة، وطبعا بأقل قدر من الكرامة.يا شعب فلسطين! ان عزاء العراقيين الاحرار، أنهم يذبحون معكم في ذات الوقت، وبذات السلاح، وبذات الأيادي المجرمة.
ان مأساة الفلسطينيين - العراقيين هي الأشد قسوة علينا، لأنها تجرح ليس عواطفنا فقط، وانما تجرح كرمتنا، وقيمنا، واخلاقنا، وحتى تاريخنا.ان من يقف خلف الجرائم التي ترتكب ضد فلسطينيي العراق عليه ان يعلم أنه من الوجهة الاستراتيجية قد قدم الدليل القاطع على وحدة النضال بين الشعبين المظلومين الفلسطيني والعراقي، وهذه النتيجة سوف تفعل فعلها أكثر مما يحتسب، ولو بعد حين.أدعوا كل أحرار العراق الى تطوير احتجاجاتهم ضد هذه الجرائم الرعناء، وليعلموا أن ذلك يشكل جزءا حيويا من نضالهم من اجل الحرية، والاستقلال، ومن اجل الحياة الطبيعية الكريمة.
وينبغي أن نضع مسألة حماية الفلسطينيين في العراق في المقام الأول، لأنها قضية شرف وضمير.ياشعب فلسطين نطلب منكم الغفران عن جرائم لم نرتكبها نحن العراقيين الحقيقيين، ولكن نعتذر لأنها أرتكبت فوق أرض بغداد، فوق أرض العراق، واليد المأجورة مأجورة في كل مكان وزمان، والكل يعلم أن العراق تحت نير الاحتلال، وربما هنا يكمن عزاؤنا الأوحد.نحن العراقيين نقول: المجد لشهداء فلسطين في العراق، ولن يطول ليل بغداد، وان صباح العراق هو صباح لفلسطين أيضا، ولكل الأحرار في العالم.
23/12/2006